سنوات مع الحكيم: والدي... الضحكة التي لا تغيب (ملفّ)
26-01-2017
 

كثيرون يعرفون عن حكيم الثورة أنّه ذلك السياسيُّ الصلبُ الذي لا يحيد عن المبادئ والقيم التي توصل شعبَنا إلى نيل حريّته. لكنّ قلّةً تعرف أنّ خلف هذه الشخصيّة الفولاذيّة رجلًا يعشق الحياةَ ويكره العنفَ... إلّا في مواجهة أعداء شعبه.

حين نصل إلى المكتب كلّ صباح، يصبِّح على الرفاق فردًا فردًا، ويتفقّد غائبَهم، ويطمئنّ إلى صغيرهم قبل كبيرهم، ويسأل عن عائلاتهم. ثمّ يستفسر عن أحوال فلسطين، وأحوالِ شعبِنا ومشاكلِه. بعد ذلك، كان يحبّ أن يستمعَ إلى نكتةٍ جديدةٍ من أيّ رفيق، وكانت ضحكاتُه تعلو كأنّه يملك الدنيا.

وكان والدي الحكيم إنسانًا رقيقًا، لا يرى طفلًا إلّا وتعلو الابتسامةُ شفتيه، فيقترب إليه ويقبّله. وقبل أن يسأل "مَن أهله؟" كان يطلب منّا أن نُحْضر له الشوكولا الفاخرة.

***

لا يسمح المجالُ الآن بسرد عشرات القصص عن طيبتك وتواضعك يا حكيم. لذا سأكتفي بواحدة:

في صباح عيد الأضحى من العام 1990، كّنا في تونس. وكان من عادة الحكيم أن يبادر إلى تقديم التهاني إلى الأصدقاء والرفاق، فطلب منّي ذلك الصباحَ أن أُحضر أفضلَ علبة حلويات. سألتُه "لمن؟" فقال: "يابا..." (وهذه كلمتُه المفضّلة التي كانت تطربني لأنّي حُرمتُ سماعَها طوال حياتي ــــ فوالدي كان لا يسمع ولا يتكلّم) وتابع: "عندما تعود سأخبرك. لكنْ، قبل أن تذهب، اتّصلْ بالرفيق أبي عذاب ــــ وهو أحد القادة العسكريّين في الجبهة الشعبيّة ــــ للحضور الآن." نفّذتُ ما طلبه منّي. وبعد أن عدتُ وحضر الرفيق أبو عذاب، قال له: "أتعرف منزل محمد خير؟"

وكان محمّد خير أحدَ الإخوة الذين تولّوْا حماية الأخ أبي عمّار، وهو من المجموعة التي قامت بتصفية وصفي التل. وكان شأن كثيرين من كوادر حركة "فتح" يتسابقون للسلام على الحكيم وزيارته في مقرّ إقامته. ردّ الرفيق أبو عذاب بالإيجاب، فسأل الحكيمَ: "أتريد أن تراه؟" فردّ الحكيم بالإيجاب. لكنّه لم يطلب حضوره، بل قال إنّه سيذهب إليه بنفسه ويعايده ويعايد زوجتَه. الجدير ذكره أنّ هذه الأخيرة كانت نرسل إلى الحكيم، عندما يصل إلى تونس، أكلتَه المفضّلة، وهي الهندباء، ومعها الكنافة النابلسيّة الرائعة.

توجّهنا إلى منزل الأخ محمد خير من دون إبلاغه، وذلك بناءً على طلب الحكيم. وما إنْ وصلنا إلى جانب المنزل ــــ وكان مكتظًّا بالإخوة من طاقم حماية أبي عمّار وآخرين أتوْا للمعايدة ــــ حتّى هرعوا إلى الشارع يستفسرون عن وجهة الحكيم، ظانّين أنّ هناك خطأً في العنوان. وعندما علموا أنّ الحكيم قصد ذلك المنزلَ بالذات، علت وجوهَهم أماراتُ الارتباك والفرح. وما زلت أذكر، أيضًا، حالة الذهول عند رجال الأمن التونسيّ. طبعًا كانت هذه الزيارة بالنسبة إلى الحكيم، وأنا معه، أمرًا طبيعيًّا؛ فلقد رافقتُه في عشرات الزيارات المماثلة إلى بيوت رفاق وأصدقاء من أبناء شعبنا في المخيّمات وخارجها ليشاركهم أفراحَهم وأتراحَهم.

***

والدي، عمّ أحدّث الناسَ؟

عن صوتك الشجيّ وأنت تغنّي لفيروز وعبد الوهّاب؟ عن جلساتك مع صديقك الصدوق ورفيق عمرك الدكتور أسامة النقيب، وابن أختك إبراهيم الراهب؛ تلك الجلسات التي كانت تفيض فيها دموعُك وأنت تستمع إلى هموم الناس أو وأنت تسمع نكتةً جميلةً حملاها إليك؟ أأحدّثهم عن شوقك للاستماع إلى ماهر وفؤاد وضحكك المتواصل؟

عمّ سأحكي يا والدي وقائدي وعزّتي؟

ما أشدَّ شوقي إليك. يدي ترتجف وأنا أكتب: "بحبَّك وإلى اللقاء."

السويد

سيف العائدي

اتحق بصفوف الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين مقاتلًا  قبل أن يُكمل عامَه الرابع عشر. يتحدّر من عائلة عمّاليّة مناضلة قدّمت شهيدين على أرض جنوب لبناز. عمل منذ العام 1987 مرافقًا وسكرتيرًا شخصيًّا للدكتور جورج حبش، ثمّ مديرًا لمكتبه حتى تاريخ وفاته سنة 2008.