سياحة سوداء
17-04-2016

 

أوغاريت

وقفنا أمام أبواب مدينةٍ تحتاج إلى خمسِ تذاكر من فئة الـ15 ليرة سوريّة كي يدخلَها شخصٌ واحد؛ فهم لم يطبعوا تذاكرَ جديدةً تلائم انخفاضَ قيمة الليرة، في مدينةٍ كانت على بعد رميةِ حجرٍ من أوّل قالبٍ لصبّ عملات العالم القديم. دخلتُها وأنا أفكِّر في شكل العالم الجديد لو كانت الابتساماتُ وحداتِ تبادلٍ سِلَعيّ؛ لن يختلف الأمر: سأكون مبذّرةً كما أنا الآن.

مدينةٌ، لعلوّ حشيشها، تكاد تظنّ أنّها هي التي نبتَتْ وسطَه. لم ننتبه إلى أنّنا فتاتان وحيدتان، بثيابٍ صيفيّةٍ رقيقة، إلّا بعد أن رأينا نظراتِ عمّال التنقيب؛ وهي نظراتٌ فيها من الشغف ما لم يظهر، ربّما، لحظةَ العثور على رُقيْمٍ طينيٍّ لأوّل أبجديّة!

قالت صديقتي: هذا جوٌّ ملائمٌ لعمليّة اختطاف. ضحكتُ قائلةً:

ـــ كان عليكِ أن تذكّرينا باستبدال الصنادل المفتوحة بأحذيةٍ رياضيّة؛ فالأشواك هنا تعْلق بأصابعنا، والحشراتُ تلسع ما أتيحَ لها.

مررنا في الطرق الوعرة المتاحة، والسنابلُ تميل علينا. وصلنا إلى بيت "ربانو." صديقتي قالت إنّه شاعر. صدّقتُها، وكذّبتُ كلَّ ما قرأتُه لاحقًا. نزلنا الدرجات، وهي تتساءل:

ـــ أكان يكتب الشِّعر هنا؟ في هذا المكان الصغير الرّطب؟

ـــ لا في الخارج ربّما. وهنا كان ينام متوسّدًا قصائدَه.

بحثنا عن قصيدةٍ تركتْها صديقتي في شقّ حائطٍ منذ عامين، لم نجدها.

ـــ ربّما تفتّتت.

ـــ لا، على الأغلب أخذها حالمٌ مثلنا، ألا ترَين آثار شموعٍ أوقِدَت هنا؟

صعدنا الدّرجاتِ متمسّكتين واحدتنا بالأخرى، وعدنا والسنابلُ تميلُ علينا. قلت:

ـــ كيف سنمرّ من بين صفوف الرجال المترقّبين هناك؟

ـــ أغمضي عينيْكِ فلن تريهم.

مررنا قرب المقبرة. قالت:

ـــ ليست موحشة.

ـــ بل هي أشدُّ ألفةً من المدينة.

لم نسلّم عليهم، ولم نسألهم عن أسباب موتهم التي قد تثير حسدنا. انتظرْنا الحافلةَ أمام بيتٍ عتيق. قدّم لنا رجلٌ قارورتَيْ ماءٍ بارد، وأنا أفكّر بكوب شمرة ساخن. ركبنا الحافلة واتّجهنا إلى الشاطئ. هناك وجدْنا العالمَ مختلفًا بثياب السباحة، بقناني البيرة في اليدين، بزيت تسميرٍ هنا، وزيفٍ هناك، في مدينة تُمثّل أنّها حيّة.

 

المتحف

في اليوم التالي عرّجنا على المتحف الوطنيّ. أخذْنا صورةً تذكاريّةً مع أثمن قطعةٍ فيه: عاملِ حديقةِ المتحف وهو يتناول سعفةَ نخيلٍ كي يكنسَ الأرض من أوراق الشجر. صورةً كانت لتبدو هاربةً من فيلمٍ إيطاليٍّ شديد الرّقة، لولا أزيزُ الطائرات.

 

جزيرة أرواد

في نهاية اليوم الثالث دوّنتُ في دفترِ مذكّراتي: صغرُ هذه الجزيرة يكاد يدفعك إلى أن تضع في يدها حفنةَ سكاكر وتهدهدَها قبل أن تغفو. شوارعُها تجعلك تميل كي تستطيع أن تمرّ منها. بيوتُها من الالتصاق حتى تظنَّها غُرَفًا في بيتٍ كبيرٍ مطلٍّ على البحر. جوُّها المحافظ لم ينكسرْ رغم تردُّدُ السّياح (سابقًا) إليها. لهجةُ سكّانها لهجة خاصّة، وهي التي يرميكَ بها نادلُ المقهى البحريّ فور نزولك من المركب. كهلٌ يدلّك على الطريق وكأنّه يمكن أن يضيع أحدٌ هنا! فتاةٌ صغيرةٌ تبيعك البَليلة. باعةٌ يعرضون الحُليّ الصَّدفيّة.

تفتّشُ في قلعتها عن الحرب. تجاوبك الأسماءُ المعلّقةُ على باب سجنها: "أنت تقف تمامًا حيث كانت الحرب نبيلةً."

غفوتُ وأنا أحلم بالبحّار الذي طلب يدي من صديقتي في طريق العودة. كان في الحلم وسيمًا وكأنّه خارجٌ من روايةٍ عاطفيّة. أفقتُ على تلويحة وداعٍ انتهى بها الحلم،ُ كما تنتهي كلُّ القصَص المشابهة.

 

السويْداء

مثلَ امرأةٍ كلّما تقدّمتْ في العمر صغُر حجمُها وكبرت ابتسامتُها: هكذا رأيتُ السويْداء حين سلّمَتْ علينا بعروقها النافرة وكأنّها تتمنّى أن ينقرَها الضّيف كي تفورَ الطّيبةُ ويغبَّ منها.

مدينةٌ بألفيْ شاعرٍ شعبيّ، وشوارعَ معدودة. الحرب تتلصّصُ عليها من بعيد، وتخاف أن تقترب أكثر فيقدّموا لها "المنسَفَ" العربيّ. تخاف أن يزعلوا، ليس لأنّها تريد أن تأكلَهم، بل لأنّها رفضتْ أن تأكلَ من زادِهم. كلُّ مَن صادفناهم كانوا رفاقًا قدامى من دون أن نعلم. لم نضِع؛ فالأحرف اللثويّة مرميّة في كلّ مكان كأنّها دلالاتٌ صغيرةٌ تقودنا إلى الدار دومًا. حين عدنا منها باتّجاه الشّام مررنا بمساحاتٍ شاسعةٍ مقفرة، وقلوبُنا مزدحمةٌ بـ "يا حيّ الله."

 

دمشق

قد تكون مصادفةً أنّنا حللنا بها في اليوم السابع من رحلتنا. السبعة رقمٌ مرتبطٌ بأبوابها الّتي تقاعدتْ من وظيفتها في حماية المدينة، وصارت مثلَ سكّانها مشْرعةً على الحياة والموت. واصلْنا لعبَ دور السيّاح ببراعة، واخترنا فندقًا ذا طرازٍ دمشقيٍّ تقليديّ، تناسبُنا أسعارُه في هذه الأيّام؛ فما من أجانبَ يدفعون بالقطْع الأجنبيّ. تَشْغل غرفَه عائلاتٌ نازحةٌ لم أميّزْ لهجتَها، لكنّها كانت تشير إلى الشمال البعيد. كانوا يثيرون جلبةً كبيرةً في صحن الدار، ورائحةُ طبخهم تعبق في المكان. نسينا أنّنا في فندقٍ. والفندق نفسه عاد بذاكرته إلى شبابه، حين كان بيتًا لعائلةٍ كبيرةٍ كثيرةِ الضجيج والروائح الزكيّة.

الجولات التي قمنا بها كانت تحفظُنا بشكلٍ جيّدٍ. قوس "باب شرقي" انحنى قليلًا ليهمس في أذني: "لقد تغيّرتِ يا فتاة، زاد وزنُكِ، ونقص منكِ رجلٌ ومدينة." أكملتُ كلامَه: "وكثيرٌ من الأصدقاء."

رأيتُ صديقتي تبكي بغزارةٍ، وكأنّ نهر بردى اخترق عينيْها. لم نتكلّم كثيرًا كي لا نقاطع أحاديثَ الأمكنة.

 

المدن المنسيّة

في حياةٍ سابقة أو لاحقة، كنّا سنختار لوجهتنا التالية: "المدن المنسيّة." أمّا الآن، فسنكتفي منها بالاسم الذي صرنا نُشْبهه جدًّا: نحن الذين نبدو وكأنّنا هُجِرنا من ألف عام، أو يزيد.

سوريا

نسرين أكرم خوري

كاتبة وشاعرة من مدينة حمص في سوريا. حائزة إجازة في الهندسة المدنيّة. تُحضّر رسالة ماجستير اختصاص "هندسة الإدارة والإنشاء".

صدر لها بجرّة حرب واحدة (شعر 2015).