سيميائيّات الأزمة السوريّة: حين يَطْمس الرمزُ المعنى
22-05-2017

 

 

ليست الأزمةُ السوريّة المستمرّة اقتتالًا على الأرض فحسب، بل هي أيضًا حربُ دلالاتٍ ومجازاتٍ، انخرطَ فيها الشعبُ السوريُّ بمنتهى الحماسة. وليست هذه الحماسةُ سوى نتيجةٍ لما تخلقه وسائلُ التواصل الاجتماعيّ في النفس من رغبةٍ جامحةٍ في الكلام والتعبير. وليس صمتُ الشعب السوريّ الطويل، وجهلُه بالمعلومات والحقائق، سرًّا أو مجرّدَ فرضيّةٍ اتّهاميّةٍ ضدّ السلطات، بل حقيقةٌ رسّختْها الأوضاعُ الاقتصاديّةُ والاجتماعيّةُ والأمنيّة التي سادت البلادَ على مرّ الأعوام السابقة: فمَن يصف نفسَه اليوم بالـ"موالي،" ويقضي يومَه يكتب المنشورَ تلو الآخر على صفحات الفيسبوك، لم يكن يُرى داعيًا في السابق إلى دعم دولةٍ مستقرّة؛ ومَن كان غيرَ راضٍ عن منظومة الحكم في سوريا وأصبح اليوم "معارضًا،" لم يكن لديه في السابق حدثٌ إعلاميٌّ عامٌّ (على شاكلة "الربيع العربيّ") يهيِّئ له الجهرَ بمواقفه وبالرموز المناسبة للافتراق عن "الآخر." وليس تفاقمُ هذه الرموز، من "العَلَم السوريّ" وصولًا إلى "السلاح الكيماويّ،" إلّا دلالةً على تفاقم الأزمة ذاتها.

***

سيطرتْ على الأزمة السوريّة الحاليّة، منذ بداياتها، حتميّةٌ تُنْبئ باستمرارها لسنوات. ويمكن استقراءُ هذه الحتميّة من خلال تفكيك البنى الرمزيّة المستخدَمة بكثافةٍ في صياغة أنماط التواصل والتعبير، ويشي جميعُها بعمق الفالق الذي يفصل بين السوريّين. وبعيدًا عن الموت المجّانيّ والبازارات السياسيّة، فقد كان للإعلام، ولطبيعةِ عصر التواصل الافتراضيّ، الدورُ الأوّلُ في ابتداع رموزٍ جديدة، من أجل نصب لافتاتٍ دلاليّةٍ كلَّ يوم، تثير شهيّةَ المتابِع إلى المزيد.

كان العلَمُ الوطنيّ أولى الدلالات التي استثمرها ناشطو المعارضة والموالاة، ثمّ أسقطوها ضحيةً لتعنّتهم. فلقد اعتبر المعارضون أنّ العَلَم الحاليّ ــــ ذا النجمتيْن الخضراويْن ــــ لا يمثّل "الدولةَ السوريّة" بل "النظامَ الحاكم،" واستمرأوا استخدامَ أحد الأعلام السوريّة القديمة ـــ ذي النجمات الثلاث الحمراء ـــ على أنّه "علمُ الاستقلال" وعلمُ سوريا التي يريدون. فما كان من الموالين إلّا أن أسموْه "علمَ الانتداب،" وعدّوا استخدامَه ضربًا من الخيانة والتآمر.

ما فات الغاضبين من الطرفين أنّ العلَميْن يشكّلان جزءًا من تاريخ سوريا الحديث، بل يَشْغلان (كلاهما أيضًا) الحيّزَ الزمنيَّ الأطولَ للعَلم السوريّ: فلقد ظلّ العَلمُ ذو النجمات الثلاث علمَ الجمهوريّة الرسميّ منذ العام 1932 إلى العام 1963 (ما عدا سنوات الجمهوريّة العربيّة المتّحدة الثلاث)، فيما استمرّ العلمُ الحاليّ ذو النجمتين منذ العام 1980 حتى اليوم (وهو نفسه الذي اعتُمد علمًا للجمهوريّة العربيّة المتّحدة بين 1958 و1961).

هذا وتشير الوثائقُ التاريخيّة إلى أنّ مَن اعتمد علمَ النجمات الثلاث في ظلّ الانتداب الفرنسيّ على سوريا قد كان لجنةً برلمانيّةً يرأسها إبراهيم هنانو، زعيمُ أبرز الثورات ضدّ الفرنسيين. واستمرّ هذا العلمُ علمًا رسميًّا للجمهوريّة المستقلّة بعد جلاء قوات الاحتلال البريطانيّة والفرنسيّة في العام 1946. ولكنْ لم تعد قيمةُ العلَم المعنويّةُ مهمّةً، ولا جهلُ المعلومات التاريخيّة محرِجًا. وحده استخدامُ الرمز المجرَّد بات هو الفيصل؛ إذ غدا العَلَمُ رمزًا كافيًا لخلق سمةٍ متكاملةٍ عن توجّهات الشخص الذي يستخدمُه، أو لتصنيف الصورة التي يَظْهر فيها.

 

 

وفي حين استطاع المصريّون، على سبيل المثال، المحافظةَ على وحدةٍ شعبيّةٍ "رمزيّة" أمام الكاميرات، باستخدامهم جميعِهم للعلم المصريّ الرسميّ دون غيره، أقدم السوريّون على إبراز انشقاقهم حين اتّخذ كلٌّ منهم علمًا/رمزًا يميّزُه من الآخر. ففي مشهديّةِ البثّ التلفزيونيّ المتواصل، تراجعتْ "سوريا" لدى المتظاهرين في الساحات العامّة أمام دلالة أعلامهم، ليصبحوا إمّا "موالاةً" أو "معارضةً،" وليعتنقوا هم أنفسُهم (وبفخر!) هذه التصنيفاتِ الصغرى. وعلى موقع الفيسبوك ـــ الراعي الرسميّ لاستمرار الأزمة السوريّة ـــ يكفي المستخدمَ أن يتبنّى أيًّا من العَلَميْن صورةً شخصيّةً أو غلافًا لصفحته كي "ينتمي" إلى مجموعةٍ لا تلتفتُ إلى ملامح وجهه أو شخصيّته بقدْر ما يهمّها ما يمثّلُه سياسيًّا.

أسهم التركيزُ الإعلاميُّ على اختلاف رمزيّة العَلَميْن، في مرحلة التظاهر وحوادثِ العنف المحدود، في تحوّل الأزمة إلى حربٍ فعليّةٍ، بين جيشين بعَلَمَيْن مختلفيْن؛ حربٍ ترسّختْ فيها "أخرويّةُ" الآخر. لقد نسي السوريّون، ممّن يهينون العَلَمَ "الآخر،" كلَّ ما يتعلّق به من دلالاتٍ تتعدّى الأزمةَ الحاليّة، ونسُوا أنّه عَلمُ بلادهم حاضرًا أو كان علَمَها في الماضي، فأصبح "علمَ الثورة" أو "علَمَ النظام" ـــ وهذا تشويهٌ لم يسبقْ له مثيلٌ، في حدّ علمنا، لأيّ علَمٍ وطنيّ في التاريخ الحديث.

هذا وقد استَحضرتْ هذه السيميائيّةُ الخلافيّةُ الأوّليّةُ أعلامًا ورموزًا وشعاراتٍ أخرى، حتّى أضحت البلادُ كلُّها ساحةَ حربٍ بين مختلف الدلالات المتصارعة. وهُيّئت الأرضيّةُ لتشظٍّ أكثرَ عمقًا مع تنامي العنف، الذي أصبح ممكنًا وسهلًا ما دام موجَّهًا نحو "آخرَ" يحمل مجموعةً من الدلالات والرموز المختلفة. ومن يُرِدِ الافتراقَ عن حاضرٍ يرفضُه، مستجلبًا من أجل ذلك عَلَمًا من ماضٍ يعتقده جميلًا، يقعْ ضحيّةً لتكاثر الأَعلام، ولتحوّلها إلى رموزٍ دينيّةٍ ارتبطتْ بالعنف المستشري وبأبشع فصول تاريخ المنطقة وأكثرِها دمويّةً.

هكذا، تحوّلت الأعلامُ ذاتُ الرمزيّة الإسلاميّة، وهي الأعلامُ التي أزاحت علمَ الاستقلال/الثورة، إلى دالٍّ في حدّ ذاتها على العنف والإقصاء. وبات عَلمُ "تنظيم الدولة الإسلاميّة،" على سبيل المثال، المعادلَ الموضوعيَّ للموت والدمار في أبشع أشكالهما؛ وهو ما عزّزه "التنظيمُ" عبر إصداراتٍ مرئيّةٍ متتالية ساهمتْ في مفاقمة العنف وانتشاره إلى أبعد حدٍّ ممكن.

***

في رواية ضجيج أبيض (White Noise) الصادرة سنة 1985، يصف الكاتبُ الأميركيّ المعاصر دون ديليلو حادثًا يتسبّب بتلوّثٍ كيماويٍّ ينتشر في هواء المدينة التي يقطنها. ويتهكّم الرواي، وهو أستاذٌ جامعيّ، على حيرة الإذاعات والشاشات من ذلك الحادث. ثمّ اتّفق الجميعُ على تسميته "الحدثَ السامّ المجوقل،" فأصبحوا ينطقون بهذه العبارة بثقة العارف، وأصبحت العبارةُ كافيةً لبثّ الاطمئنان في نفوسهم مع أنّهم مهدّدون بالموت. فلقد أصبح لديهم "وسمٌ،" رمزٌ بسيطٌ يُغْني عن الحيرة، ويضع مستخدميه في خانة العارفين بالمجريات والأحداث؛ صحيح أنّهم قد لا يفقهون شيئًا منها، لكنّ الوسم هو الرأيُ في حدّ ذاته.

إذا استبدلنا عبارةَ "خان شيخون" بعبارة "الحدث السامّ المجوقل،" فهمنا طبيعةَ الآليّات الدلاليّة التي يعتمدها "الواقعُ الافتراضيّ" اليوم. فهذا "الواقع" يحوِّل اسمَ بلدةٍ ما إلى رمزٍ متكامل، يتصارع حوله المتشنِّجون على صفحات التواصل الاجتماعيّ، فيما هم بعيدون عن موقع الحدث آلافَ الكيلومترات. يمكن أيَّ عمليّةٍ حربيّةٍ أن تتسبّب بضحايا بين المدنيين؛ فهذا يحصل في كلّ الحروب. لكنْ، بعد "إتخام" المتابِع بآلاف صور الأشلاء والدم والدمار، لم تعد "أيّةُ عمليّةٍ" كافيةً لتصبح خبرًا "لافتًا." كما أنّ موت الضحايا لا يُعتبر مهمًّا في ذاته، لأنّ الأهمّ هو وضعُ العلامة الدلاليّة على الحدث من أجل تمييزه من غيره، ومن أجل ترسيخه رمزًا قائمًا بذاته، تتراجع أمامه كلُّ المعاني الأخرى المحتمَلة.

 

كما أنّ الرمز يصبح أداةً لإقصاء الآخرين: فيصبح مَن يستخدمه بهدف التشكيك في الحدث، أو لمساءلةِ تفاصيله، خائنًا. ولقد شهدنا ذلك على صفحات وسائل التواصل الاجتماعيّ، إذ يتحوّل النقاشُ برمّته إلى الدفاع عن دلالة الرمز، ويزاح الحدثُ نفسُه (موتُ الأطفال على سبيل المثال)، الذي من أجله كان قد بدأ النقاشُ أصلًا... ظاهريًّا على الأقلّ.

وبالمثل، تنزاح جميعُ الشكوك عن "الخُوذة البيضاء،" التي تصبح الرمزَ الوحيدَ المقبول للدفاع المدنيّ السوريّ لدى المعارضين، في تغييبٍ لأيّة منظومةِ إنقاذٍ أخرى في أيّة منطقةٍ سوريّة أخرى. و"الخوذة البيضاء" رمزٌ لمجموعة إنقاذٍ تطوّعيّة، تعمل في المناطق الخارجة عن سيطرة الدولة المركزيّة في سوريا، ويحوم حول دورها وارتباطاتِها الكثيرُ من الإشكاليّات. ولولا وجودُ رمز "الخوذة البيضاء،" لَما أمكن وضعُ علامة دلاليّة واضحة وموحّدة تخاطب لاوعيَ المُشاهد، ولَما أمكن إنتاجُ الفيلم الدعائيّ وإيصالُه إلى منصّة جوائز الأوسكار.(1)

ويسري هذا على جميع الرموز التقليصيّة التي استُخدمتْ بكثافةٍ في الأزمة السوريّة: فيصبح أيُّ موالٍ للدولة "شبّيحًا" وإنْ لم يرتكب عنفًا في حياته؛ ويصبح أيُّ إسلاميّ "إخونجيًا" (وفيما بعد "داعشيًّا") بغضّ النظر عن الاختلافات بين الفِرق الإسلاميّة والتيّاراتِ الفقهيّة. وفي تهافت الجميع على احتلالِ حيّزٍ ما في العصر الافتراضيّ الوحيدِ البعدِ الذي نعيش فيه، تتكاثر الرموزُ وتتناسل، وتندر المعاني وتحتجب.

ليس المجال مفتوحًا اليوم، لدى إعلامٍ يحتاج إلى كبسولةِ أخبارٍ لا غير، أمام تعدّد الاستقراءات والاستدلالات. وليس المتابِعُ مستعدًّا للوقوع في "الحيرة" أمام المضامين والمعاني المتعدّدة. وليست الأزمةُ السوريّة بمجملها، لدى الآخرين، سوى رمزٍ اعتادوا رؤيته يوميًّا، يطمس خلفه موتَ السوريّين ودمار بلادهم.

لسوف تتوقّف هذه الحربُ المسعورةُ يومًا ما كما توقّف غيرُها. هذه حتميّةُ التاريخ. ولن يبقى منها سوى رموزِها الإشكاليّة، التي إنْ لم يتمّ تفكيكُها ومواجهتها بكل انفتاح نقديّ، فلسوف تبقى حيّةً في الإذهان ولن تنتهي الحرب أبدًا. هذه أيضًا حتميّةُ التاريخ.

 

اللاذقيّة

يامن صابور

كاتب ومترجم من سوريا. حاصل على ماجستير النقد الأدبيّ في اللغة الإنكليزيّة. له عدد من المقالات والترجمات المنشورة في مجلات ومواقع إلكترونية.