شيمةُ الموسيقى
18-03-2016

 

لم أتزوّج لأنّني، ببساطةٍ، أحببتُ فتاةً قالت لي: "صوتُ كارم محمود هو أنا؛ إنِ قبضتَ عليه صرتُ لك."

"شِيَم،" الفتاةُ الوحيدة الّتي أحببتُها، كانت ترى العالمَ موسيقى وأصواتًا. حاولتُ كثيرًا أن أشدّها إلى الواقع، وإلى لمس الأشياء على حقيقتها، لا إلى اعتبارها ألحانًا فحسب. لكنّني لم أفلح.

مرّةً شعرتُ أنّها سئِمتْ منّي ومن علاقتنا الطويلة، خصوصًا أنّني لم أتمكّن من ولوج عالمها، أو من سحبها إلى العالم الذي يعرفه الجميع. عبّرتُ لها عن مخاوفي، فقالت: "لا تخَف يا فريد؛ فالحبُّ الحبُّ هو الدهشة الدائمة التي لا تزول بفعل الزمن أو الروتين. هو كأغاني فيروز التي نسمعها منذ الصِّغَر، لكنّها حين تطلّ إحداها علينا كلَّ يوم تدهشُنا وكأنّنا نسمعُها للمرّة الأولى."

عندما قابلتُها أوّل مرّةٍ، قالت لي: "أوه اسمك فريد على اسم مطرب أبي المفضَّل. قد أحبِّكَ لهذا السّبب فحسب." وأطلقَتْ ضحكةً أسرتْني. من يومها، صرتُ ألاحقها من حفلٍ موسيقيٍّ إلى آخر. كنتُ أضجر من أمسيات الموسيقى الكلاسيكيّة التي تسحرها، لكنّني تحمّلتها كرمى لعينيْها.

لم تكن تتوقّف عن الكلام بعد الأمسيات. تمضي الوقت في شرح مشاعرها وقصِّ الحكايات التي تقف خلف المقطوعات المعزوفة، وأنا سعيدٌ بوجودي قربها رغم أنّني أكاد لا أميّز مقطوعةً من أخرى. علاقتي بالموسيقى علاقةُ أيّ متلقٍّ عاديّ؛ أكتفي بقول "أعجبني" أو "لم يعجبني"؛ لكنّي، معها، كنتُ أبدي تفاعلًا غالبًا ما يكون مصطنعًا، وأحيانًا أنهزمُ وأعبّرُ عن تبرّمي من كلّ ما سمعتُه وما تقولُه. كانت تحزن، وأحسّ بدمعةٍ تنوي الخروجَ من عينها اليسرى وتنسحب، لكنّها في آخر لحظة تتماسك وتقول لي: "لستَ مضطرًّا إلى الإعجاب بما يعجبني، هذه مسألة ذوق."

عندما أتذمّر من ضجيج السّيارات تقول لي: "اهدأْ، هنالك موسيقيّ أميركيّ يرى أنّ صوت حركة المرور موسيقى لا يمكن سماعُها." بهذه البساطة كانت تتصالح مع كلّ البشاعة من حولها!

مرّةً، عرضتُ عليها أن نسكن معًا، كي نبقى قريبيْن، ولا سيّما أنّها كانت تقيم وحدها في العاصمة بعيدةً عن عائلتها. أجابت: "هل جرّبتَ أن تسكن في جوار البحر لأسبوع مثلاً؟ أن تسكنَ في جوار البحر يعني أن تسمع صوته على مدار الساعة. أحيانًا يكون صوتًا حنونًا هادئًا، وأحيانًا يكون قويًّا هائجًا. لكنّه في كلّ حالاته غير مزعج على الإطلاق، ولا يؤثّر في سير حياتك اليوميّ. لكن إنْ تعمّدتَ أن تصغي إليه فسيجتاحك سيلٌ من العواطف قد يدفعك إلى الفرح أو الحزن أو الحنين أو الحبّ أو البكاء أو كتابة الشّعر أو... التفكير في الانتحار. فريد، أنا أرى في صوت البحر الشّريكَ الأمثلَ للمساكنة. كن بحرًا كي نسكن معًا."

بصراحة، لا أعرف كيف أردُّ عليها عندما تحاججني بهذه الطريقة. ولا أعرف إنْ كان أحدٌ قادرًا على مجاراتها بطروحاتها الغريبة.

في إحدى مراحل علاقتنا الطويلة، وعلى أثر خلافٍ، ابتعدنا قليلًا. خلال فترة البعد هذه أقمتُ علاقاتٍ بنساءٍ أخريات، نساءٍ يرَيْن في البحر مكانًا للاصطياف والتسمير، وفي المساكنة مساكنةً، وفي الأغاني متعةً للرّقص فقط. لكنّني لم أستطع أن أقع في غرام أيّ منهنّ؛ فَـ"شِيَم" تملأ قلبي وروحي رغم كلّ شيء.

أخيرًا ذهبتُ كي أصالحها. ويا للغرابة، فوجئتُ بمعرفتها كلَّ أخباري العاطفيّة. كانت حزينةً جدًّا. قالت لي: "يقال إنّ فاغنر قرأ الليبريتو لزوجته، وعشيقتِه، وزوجِ عشيقته، وعشيقته المستقبلية، وزوجِ عشيقته المستقبليّ. كلّهم قالوا إنهم أعجبوا به. يحقّ لك أن تخونني مع من تشاء... فقط إنْ كنتَ فاغنر." بكَت كثيرًا. لكنّها سامحتني.

بعدها صرنا أقربَ من أيّ وقتٍ مضى.

في إحدى جولاتِ مشينا الطويلة في أحياء المدينة أوقفتني فجأةً. نظرتْ إلى عينيّ وقالت: "لو قُدِّر لهذا الحبّ أن يكون شيئًا آخر، لكان أغنيةً عراقيّةً تتجوّل عند الظهيرة في زقاقٍ سوريّ. يراقبها ذلك الشابُّ الذي يمجّ سيجارته، واضعًا رجلًا على الحائط خلفه. صبيّةٌ تسقي أصيص الحبق على شرفة منزلها. قصّابٌ يشطف الشارع أمام محلّه. قطّةٌ حائمة حول المحلّ. امرأةٌ محمّلة بمَؤونة الأسبوع. مراهق هارب من المدرسة. فتيات يلعبن يا سلوى ليش عم تبكي؟ عجوز ينزّه كلبه. ولا يعرفون هل يبتسمون من شدّة الشّجن، أمْ ينهارون باكين أمام هذا الفرح الجميل؟"

نظرتُ حولي مذهولاً بقدرتها على التقاط كلّ هذه التفاصيل حولنا. لوهلةٍ ظننتُها قد اخترعَتها كما تؤلّف مقطوعاتها الموسيقيّة المتخيَّلة من قرقعة الملاعق والصّحون. كالعادةِ تفقدني هذه البنت القدرة على الكلام. قبّلتُ جبينها بفمٍ مرتجفٍ، ثمّ واصلنا السّير بحثًا عن مزيدٍ من الأغنيات.

***

شِيَم تغيّرتْ كثيرًا بعد الحرب. ابتعدت عنّي وعن الجميع، بل عن الحفلات الموسيقيّة القليلة التي استمرّت في المدينة. آخر جملةٍ سمعتُها منها: "فريد حبيبي، بلدنا يشبه صوت جوزيف صقر. ليس الأعظم ولا الأجمل، لكنّه الأقرب إلى القلب، وفي الوقت نفسهِ يفطر القلب. لا تبحث عنّي، سأرجع بعد أن يعود البلدُ إلى الغناء."

 سوريا

نسرين أكرم خوري

كاتبة وشاعرة من مدينة حمص في سوريا. حائزة إجازة في الهندسة المدنيّة. تُحضّر رسالة ماجستير اختصاص "هندسة الإدارة والإنشاء".

صدر لها بجرّة حرب واحدة (شعر 2015).