طفلة تلهو بكعب أمّها العالي
28-02-2016

 

إلى هنادي

يجلس الرجل على كرسيّه المعتاد على الشرفة. راحة ما بعد العمل. السرور بالهدوء، وباستمرار الحياة في القلب المتعب. يتناهى إليه صوتُ زوجته؛ يشغل بالَها موضوعٌ من مواضيعها اليوميّة.

أولاده الذكور، الذين نسي عددَهم، يدوخون في الغرفة المجاورة، وضجيجُهم يملأ المكان. صخبٌ لا يردعه زعيقُ الزوجة، التي لا تتوقّف عنه إلاّ باستدارتها إليه. الاقتراب بوقع أقدام فيه دبيبٌ قويّ. سكينُها المتّسخ بقشور البطاطا الموحلة تلتمع أجزاءٌ منها في يدها. ينتقل الزعيقُ إليه، بل عليه، فيتحمّل هو مسؤوليّة أطفاله الذكور، الذين نسي أن يعدّهم مجدّدًا. يلوذ بصمتٍ أكبر ممّا هو فيه. ينتظر عودةَ السكّين إلى المطبخ، ليتنهّد براحة. يجلس بهدوءٍ في زاوية الشرفة، ويُطلّ على المنزل المقابل.

الشبّاك المستطيل يحيط بالشرفة المقابلة ، وهو عالٍ. يكاد لا يرى رأسها بجديلتيْه الشقراوين. ترطن بكلام المدرسة، تعيده وتعيده، وكأنّها تتأكّد من عدم نسيانه. تنظر بين الفينة والأخرى إليه، لتتأكّد عيناها اللامعتان من أنّه يراها، يراقبها، كما يفعل دومًا. تبتسم العينان، وتعودان إلى الرواح والمجيء على الشرفة، من غير كلل من إعادة الاستظهار.

طفلة صغيرة تواجه جبلًا من القلق الموصوم بالصمت كلَّ يوم.

تفرقع البطاطا عندما تصطدم بالزيت الحار. تحرق المرأة يديها ككلّ مرّةٍ تقلي فيها البطاطا. ترتفع شتائمُها، فيضحك أولادُها الذكور، قبل أن يعودوا إلى لعبهم الصاخب. يسكب قهوتَه الباردة في فنجانه الصينيّ الملوّن. يشعل سيجارته، وينتظر أن تنتهي من مراقبتها لأمّها. تنتظر اختفاءَ أمّها في المطبخ. يرتفع صوتُ راديو الترانسيزتور على إذاعة "صوت العرب." تتسلّل إلى مدخل البيت لتُحضر حذاءَ أمّها ذا الكعب العالي. تنتعله بفخر. تصل ذقنُها إلى حافة الشبّاك العالي. تسير بهدوءٍ ممسكةً بحافّة الشبّاك. تتوقّف ترانيمُ المدرسة المسيحيّة على لسانها؛ تستبدلها بكلمات المعلّمة.

آههه يا صغيرتي، أنت المعلّمة الآن إذًا.

طفلة صغيرة تسترق الوقت والغفلة لتلهو بكعب أمّها العالي.

مع كلّ كعبٍ تسرقه تصير امرأةً مختلفةً: هي الطبيبة تارةً، وهي المعلّمة تارةً أخرى، وهي ملكةُ بريطانيا تارةً ثالثة. ولتذهبْ دروسُ التاريخ إلى الجحيم.

مرّةً نظرتْ إليه وابتسمتْ، وصارت زوجتَه بصوتها العالي وفرقعةِ البطاطا اليوميّة. يومها لم يستطع إلّا أن ينظر إليها مباشرةً، على عكس الأيّام الأخرى حين يسترق النظرَ ولا يسمح لغيرها برؤية عينيْه المشوبتيْن بحمرة سعادةٍ مسروقةٍ ككعب أمّها العالي. لكنّه في ذلك اليوم لوى عنقه في الزاوية، ليراها تقف خلف الشبّاك. وجنتاها البارزتان تطلّان بحبورٍ غريب. وعيناها فيهما اخضرارٌ غريبٌ، سمح له اتّساعُهما وانعكاسُ شمس ثقيلة غاربةٍ برؤيتهما. ضاقت العينان الواسعتان بفعل ابتسامةٍ، انطفأتْ بسرعةٍ على صراخ أمّها وهي تلومُها على اللعب بحذائها خوفًا من أن تخدشه.

مجرّدُ طفلةٍ صغيرةٍ تلهو بكعب أمّها العالي.

مجرّدُ رجلٍ يعود من عملٍ مملٍّ لا يتذكّر منه شيئًا، في بيتٍ مملٍّ مليءٍ بأطفالٍ لا يعرف عددَهم ولا يتوقّفون عن اللعب، وامرأةٍ نسيتْ مرآتها أمام مدخل بنايةٍ قديمة، ولم تعد تملك إلّا صوتَها، وبطنَها الذي تكوّر مرّاتٍ عديدة، قبل أن يبقى متكوّرًا إلى الأبد.

مجرّدُ رجلٍ ينتظر طفلةً تلهو بكعبٍ عالٍ لتصير امرأةً، لا يخجل من أن يشتهيَها بلهوها ـــ لحظتها: يشتهي الطبيبةَ المتعجرفةَ التي لا يتخلّص طفلٌ من إبَرها؛ يشتهي معلّمتَها التي لا تتردّد في قِصاصِ صفّها بقدّه وقديده لأنّ مسطرةً وقعتْ على الأرض وخدشتْ أذنيها؛ بل كاد يقف تأهّبًا عندما أعلنت الملكةُ الحربَ، وقرّرت الانتقامَ من إسبانيا لأنّ الأميرَ الوسيمَ أضاع فردة حذائه في غابات إسبانيا.

كلّما لهت بكعب أمّها العالي تذكّر معنى الرغبة التي قُليتْ مع البطاطا. وحين تنزلُها أمُّها عنه، وتقرصُ أذنَها بعنفٍ مخافة أن ينخدش الحذاءُ، ويرتفعُ صوتُ الطفلة ببكاءٍ مكتوم، كان يتذكّر عددَ أطفاله، ويشعر بالشفقة على المرأة في المطبخ، ويتمنّى لو استطاع أن يلفَّ الفتاةَ الصغيرة بحنوٍّ أبويّ لا ريب فيه.

مرّت زاويتُه على سنين طويلة. كانت الوجنتان ترتفعان عن حافّة الشبّاك رويدًا رويدًا. صارت العينان قلّما تطلاّن لتعطيا الشمسَ انعكاسَها، والزاوية باتت تضيق به، وقهوتُه الساخنة تبرد بسرعة، مع برودة اسوداد شعره، و تعبِ قلبه، وترهّلِ زوجته. باتت طلّتُها مشيةً واثقةً لتعبر من باب الغرفة إلى باب البيت، ولحذائها وقعٌ يكدّر الصمتَ بنقرات تشبه الخفّة؛ خفّة الحياة التي تحوّل انتظار طلّة سريعة، في ما بعد الظهر، مستودعًا يحوي كلّ الرغبات. لم يكن في نقرات حذائها ما يثيرُه بل كان يكتفي بسماع أخبارها المدرسيّة تنقلها إلى إلحاح أمّها المرتابة. ثم صار يشاهدها تبتسم لشابٍّ يمرّ في الشارع وعنقُه يكاد ينخلع من النظر صعودًا، فيدقق في الشابّ ، ويهزّ رأسَه أسفًا. لا يفعل أكثر من أن يرتشف قهوتَه باردةً، ويصيح لزوجته كي تقيس ضغطَ دمه، حيث يستمتع بارتباكها وهي تضع السماعات وتضخّ الهواء في الطابة المطّاطيّة.

لا بدّ من أنّها انشغلتْ عنه الآن: بأنوثتها التي بدأتْ تبرز ولو متأخّرةً؛ بفساتينها التي تتمايل فيها؛ بصوتها الواثق وهي تحادث صديقتَها متلاعبةً بشريط الهاتف الأسود؛ بضحكتها الرنانة التي بدأتْ تحتلّ شيئًا من مكانة لهوِها بحذاء أمّها.

لم يعد يرى أولادَه إلاّ لمامًا، خصوصًا أوّلَ الشهر حين يتناهشون أجزاءً من معاشِ تقاعده. زوجته تركتْ رداءها المتّسخ وارتحلتْ إلى ظلمة قبرٍ، يتخيّلها تقلي فيه للملائكة بطاطا. الفتاة صارت تزور أمَّها بين الفينة والفينة: صار شعرُها بحجم الكون، ولابنتِها ضفيرتان محببّتان يراهما حين تقفز بإزاء النافذة. وراح قلبُه ينحني أكثر فأكثر، ولا يجد له معينًا للنجاة. صار يحضّر ركوةَ قهوةٍ هائلةً منذ الصباح، ويواظب على ملء فناجينه الصينيّة. وعلى كرسيّ الزاوية وضع أريكتين تسمحان له بالجلوس مرتاحًا في غير وضعيّة، وبالنوم فتراتٍ متقطّعة.

نومٌ أيقظه منه صراخٌ قادمٌ من الشباك المجاور، صراخُ الفتاة التي كبرتْ وقد ماتت أمُّها. ابنتها التي بات رأسُها يطلّ من النافذة تبكي بهدوء. المرأة تتوقّف عن الصراخ. تحيط الفتاةَ بيديها، وتعصرها إلى قلبها، فيشعر بمغصٍ حادٍّ في قلبه. العيون الخضراءُ الأربعُ تبكي، وهو يعتدل في جلسته، وينظر إليها بحنان ودعوة. يدخل المعزّون، يتناوبون على البكاء والصراخ. مهرجان الدموع يرتفع مع وِفادة الوافدين. الابنة الصغيرة تضع وجهَها على يدها المسنودة على حافّة الشباك، تبكي بصمت، يهتزّ جانبها. تسرع إليها أمُّها؛ صوتُ كعبيْها يوحي بأنّها طفلةٌ تلهو بكعب أمّها العالي. فجأةً يراها، وسطَ النحيب، وفي جسدها المكتمل:

إنّها مجرّدُ فتاةٍ صغيرةٍ لا تزال تلهو.

يغفر لها أنّها كبرت، ينسى أنّها نسيتْه. يختبئ في ظلال دموعها، ويرى فيها ملكةَ بريطانيا تَغفر لإسبانيا ما ارتكبتْه. ها قد عادت، وقد صار قلبُه كعبَ أمّها العالي، وها هو يفارقه كسيّارةٍ تموت فيها الحياة. لكنّها حياةٌ كانت جديرةً بأن تُعاش من أجل قرقعةٍ متردّدةٍ، لطفلةٍ غافلتْ أمَّها لتلعب بكعب حذائها العالي؛ من أجل رغبةٍ خالها قد ماتت، فإذا قلبه هو من مات سعيدًا.

بيروت

 

يسري الأمير

كاتب من لبنان. ومدير سابق لموقع الآداب الإلكتروني.