عن الفيدراليّة في شمال سوريّا (ملفّ)
29-05-2016

 

تشكّل فكرةُ "الفيدرالية" نموذجًا بالغَ الوضوح لحالة التفكّك التي آلت إليها عجينةُ الخطاب السوريّ. ففي لحظةٍ واحدة عادت الثقافةُ السوريّة إلى مكوّناتها البسيطة: فصار الليبراليّ قوميًّا عربيًّا، والعَلمانيُّ سنّيًّا، والشاعرُ كرديًّا من الجبال، والماركسيُّ علويًّا بملامح بعثيّة، وهكذا. بيان سياسيّ واحد كشف عن عقود من الشعارات غير الأصيلة: فمَن قضى عمرَه ينافح عن حقّ الشعوب في تقرير مصيرها، تحوّل بعد دقائق من بيان الرميلان (الذي أُعلنتْ من خلاله الفيدراليّةُ في الجزيرة السوريّة من طرف واحد) إلى "عروبيّ" ينافح عن حقّ الأكثريّة في مشاركة الأقلّيّة تقريرَ مصيرها؛ ومَن قضى عمرَه منظِّرًا في "بناء الروح الوطنيّة" وفي "الهويّات الحديثة،" تحوّل في لحظات إلى باحثٍ تاريخيّ متخصّص في "الريادة الكرديّة" على مرّ العصور، وفي تفوّق الثقافة الكرديّة على باقي ثقافات المنطقة. وكلّ واحد من هؤلاء استخدم عدّتَه المعرفيّة كاملةً، وخرج إلى النقاش متسلّحًا بما يستقيم وبما لا يستقيم من محاججات وذرائع وتفنيدات.

ربما كانت إحدى خصوصيّات هذا النقاش أنّه لم يبدأ نقاشًا، بل بدأ أمرًا واقعًا حين أعلنتْ مجموعة من الأحزاب الكرديّة عن قيام فيديراليّتها الخاصّة. ونتج من ذلك أنِ اختلّ توازنُ العقلاء وهم يقفون وجهًا لوجه مع ما اعتقدوا طويلًا أنّه موجودٌ في الكتب فقط.

ونتذكّر هنا أنّ كلمات مثل "التقسيم" و"الانفصال" جرى تداولها كثيرًا على سبيل التخويف والتهديد وزيادة الشروخ في سياق السنوات السوريّة الخمس الدامية. ولم تتوقف التسريبات، منذ الأسابيع الأولى، عن سيناريوهات غرائبيّة: كالحديث عن "خطّة علويّة" للانفصال في دويْلة الساحل، وعن "تنسيق درزيّ" مع إسرائيل للانفصال بدولةٍ خاصّة، وعن "مخطّط روسيّ" لإقامة دولة الساحل الموسّعة. هكذا، تهيّأ الرأيُ العامّ لتلقّي موضوع الفدراليّة على وقع الرعب، ووفقًا لمعايير الخيانة. وكانت النخَب قد هيّأتْ نفسها بكمٍّ جيّدٍ من الشتائم لتقذف بها العلويين أو الدروزَ حين ينفصلون، أو الشوامَ حين ينضمّون إلى دويلة الساحل. ولمّا لم يحصل ذلك (حتى الآن)، وكانت العدّة جاهزةً والحنقُ في درجاته القصوى، فقد كان على أوّلِ مَن يلمّح إلى شيء يشبه الانفصال أن يتلقّى ذلك السيل من الشتائم دفعةً واحدة.

على الجانب الآخر، وفي ظلّ مناخ المظلوميّات التي تتصادم في المنطقة مغذِّيةً صراعاتِها المتعدّدة، ربّى الكرديُّ مظلوميّتَه الخاصّة، وحرَّفها لتتشابه مع مظلوميّات الآخرين، وبدا وكأنّه يقول لنفسه: "أنا أيضًا لديّ حسيني الشهيدُ" أو "أنا أيضًا أكثريّةٌ سلبت الأقليةُ حقوقَها وحكمتْها بالحديد." وحين واجهتْهُ الإحصائيّاتُ، بدّل وحدة القياس: فبدلًا من "البلاد،" أوضح أنّه يتحدّث عن دائرةٍ قطرُها اثنان وستّون كيلومترًا، ودائرةٍ ثانيةٍ بثلاثة وعشرين كيلومترًا. وعند تلقّيه أوّلَ شتيمةٍ من الحانق الأوّل، ردّ بسيلٍ من المظالم التي راكمتها السنون.

ما سبق لا يحمل موقفًا رافضًا أو مهلِّلًا للفيدراليّة؛ فهذا يحتاج إلى خوض تفاصيل قانونيّة وتاريخيّة واقتصاديّة. حسبُه أنّه مدخلٌ إلى توصيف طبيعة النقاش حول المسألة، ومدخلٌ كذلك إلى توضيح الصورة العامة التي تركّبتْ عليها بعضُ الآراء الواردة في هذا الملفّ.

دمشق

لمراجعة موادّ الملفّ كلملة هنا.

ناريمان عامر

مدرّسة الفلسفة الأمريكيّة في جامعة دمشق ـ قسم الفلسفة. كاتبة في الصحف والمجلات ومراكز البحث العربيّة.

مقيمة في دمشق.