عن القهر الذي ترتضيه السلطة لنا!
24-12-2015

 

يُقال إنّ دوائر المخابرات العالميّة صارت تحصي علينا أنفاسَنا. وتدلّ الدراساتُ المتناثرة، وكشفيّاتُ إدوارد سنودن، وما يمرّ في أفلام أميركيّة وغير ذلك، على أنّ أجهزة المخابرات باتت عاجزةً عن تحليل المعلومات التي تصلُها لضخامتها.

ففي المعطيات: أنّ كلَّ إيمايلٍ مراقبٌ، وكذا الأمرُ بالنسبة إلى كلِّ مكالمةٍ هاتفيّة، وكلِّ رسالةٍ نصّيّة، وبرامجِ المحاورات، وصفحاتِ الفايسبوك، والحساباتِ المصرفيّة، والبطاقات الماليّة، وعمليّاتِ الشراء... ناهيك بالبرامج المزروعة في متصفّحك (Cookies)، وهي برامجُ تراقب سلوكَك الإنترنتّيّ، وتحاول تحليلَه لأغراض أوّلُها تجاريّة وآخرُها لا يعلمه أحد.

نحن نخضع للمراقبة الدائمة على الكوكب من قِبل أقلّ من عشرة أجهزة مخابرات في العالم. الفكرة في حدّ ذاتها مخيفة. والمخيف ليس أن تكون مراقَبًا؛ ففي جوّ الانتماء الدينيّ ــــ السلطويّ الذي نشأنا فيه، نحن أساسًا مراقَبون ولا خصوصيّة لنا.المخيف هو في حجم العمل الهائل الملقى على كاهل هذه الأجهزة؛ فأنتَ، العاجز عن مراقبة طفليْك في منزلٍ صغير، تصوّرْ كيف تكونُ مراقبةُ ثمانية مليارات نسمة على الكرة الأرضيّة جمعاء! هذا كابوسٌ ستَنتج منه إخفاقاتٌ بدهيّة، تتسلّل على شكل عملٍ إرهابيّ هنا، أو اختراقٍ إنترنتيٍّ هناك، أو عمليّة تبييض أموالٍ لم يصرِّح بها جهازٌ رسميٌّ هنالك.

نظرًا إلى حجم العمل الهائل هذا، تُضطرّ أجهزةُ المخابرات المركزيّة تلك إلى أن تلزِّم جزءًا من أعمالها إلى متعاقدين محليّين، أيْ إلى أجهزة المخابرات المحلّيّة في كلّ دولة، ولا سيّما الدول التي يعرف مديروها أنْ لا سلطة لهم من دون رضا البلطجيّ الكبير في العالم وحمايته، ولا وازعَ لديهم في العمل أُجَراءَ عنده (وسلّمْ لي على مفاهيم "الكرامة الوطنيّة"). وتحرص دوائرُ ضمان الخدمة على مراقبةِ عمل هذه الأجهزة المتعاقدة، وعلى تزويدها بالأجهزة اللازمة، وبخبراءِ الأجهزة الحسّاسة؛ كذلك تعمل على فرض القوانين اللازمة التي تجعل البلدَ كلّه جزءًا من نظامٍ مخابراتيٍّ، يسلّم الإنسانُ فيه نفسَه بنفسه، "طوعًا،" إليه. وأعتقدُ أنّ المتعاملين العرب مع المصارف، على سبيل المثال، يعرفون أنّ عليهم التصريحَ بأشياءَ شخصيّةٍ عديدةٍ رضوخًا للقوانين الفدراليّة الأميركيّة المتعلّقة بـ "مكافحة الإرهاب" (غيرِ الأميركيّ طبعًا).

هذا الجهاز المتعاقد يُترك له هامشٌ للّهو والعبث بما سُلّم إليه من قدراتٍ وسلطات. ولا ضير هنا في أن يُسلّم عريفٌ ما في جهازٍ ما قريبَه الغيورَ نسخةً عن حركة اتّصالات زوجته مثلًا، أو أن يستعلم صاحبُ مشروعٍ ما عن حركة أموالِ منافسه (وقد يُرفق هذا الاستعلامُ الصغيرُ بهديّة إلى العريف المعنيّ). واحتمالاتُ اللهو والعبث أكبرُ من ذلك بكثير، نظرًا إلى أنّك تسلّم أكثرَ البنى التكنولوجيّة حداثةً إلى أيدٍ تعمل في أكثر البنى السياسيّة تخلّفًا.

***

لدى هذه البنى السياسيّة التي تحْكمنا قدراتٌ إلكترونيّةٌ تمكّنها من إحصاء أنفاسنا. لكنّها تتخلّى عن ذلك لصالح أسلوبٍ يتلاءم مع بنيتها التقليديّة: أسلوب الاعتقال والحجب والمنع وتلفيق التهم والقتل وغير ذلك.

في السعوديّة اليوم، ينتظر الشاعرُ الفلسطينيُّ الأصل، أشرف فيّاض، الموتَ بعدما أصدرتْ محكمةٌ سعوديّةٌ في 17 تشرين الثاني حكمًا بإعدامه بتهمة الترويج لأفكارٍ إلحاديّةٍ وسبِّ الذات الإلهيّة (وقد تكون التهمة ناجمة عن وشايةٍ صغيرةٍ لا عن شعْر مكتوب فعلًا).(1) ومؤخّرًا صدر حكمٌ على الكاتب السعوديّ زهير الكتبيّ بـ "أربع سنوات [من السجن]، ووقفِ تنفيذ سنتيْن، ودفعِ غرامة 100 ألف ريال [حوالى 26,600 دوﻻر]، ومنعِه من السفر لخمس سنوات، ومنعه من الكتابة لمدّة خمسة عشر عامًا، [بسبب] عددٍ من التهم، من بينها التأليبُ والتحريضُ على وليّ الأمر على خلفيّة إعلان رأيه في برنامج تلفزيونيّ."(2) وليس بعيدًا أن ينفِّذ شاعرٌ آخر، هو محمد العجمي، في إمارة قطر، حكمًا بالسجن خمسة عشر عامًا، بتهمة التحريض على قلب نظام الحكم وإهانة الأمير.(3)

في مصر تتحدّث مصادرُ مختلفة عن أكثر من أربعين ألف حالة اعتقال رأي، كثيرٌ منها بلا أحكام حتّى الآن، أو لُفّقتْ لها اتّهاماتٌ،(4) ومنها 1700 حالة صدرتْ في حقّها أحكامٌ جماعيّةٌ بالإعدام عن طريق قضاةٍ لا يرفّ لهم جفن.(5) وللتحايل على الأمر، تقوم السلطاتُ المصريّةُ بعمل البلطجيّة الآن، فتعتقل مَن تشاء ثمّ تُنكر اعتقالَه، وهو ما يُسمّى بـ "الاختفاء القسريّ."(6) ولا ننسى العددَ المرتفعَ لضحايا التعذيب في مراكز الشرطة، وهو تعذيبٌ ينتهي عادةً بتبرئة المسؤولين أو تخفيف العقوبات عنهم.(7)

كنّا سنستمرّ في سرد انتهاكات حقوق الإنسان في بلادنا، من المحيط إلى الخليج، مرورًا بلبنان الذي تعجز سلطاتُه عن لمّ النفايات من الشوارع لكنّها تستدعي الناشطين المدنيين إلى التحقيق. غير أنّ هدفنا هنا الحديث عن آليّات القمع، التي تمتزج فيها الرقابةُ والاعتقالُ والتعذيبُ والقتلُ وأحكامُ "القانون" الجائرة.

في المجال الإعلاميّ، يُحاصَر ما تبقّى من وسائل إعلام مستقلّةٍ قليلةٍ عبر تجفيف مصادر تمويلها، أو عبر شراء ذمم العاملين أو المشاركين فيها. وفي المقابل، تُفتتح وسائلُ إعلامٍ خاضعةٌ بالكامل لسلطةٍ من السلط، وتتمدّد أخطبوطيًّا، ولا يُترك للعاملين في هذا المجال خيارٌ إلّا الانضمام إليها، أو البحث عن مصادر رزق مختلفة. أو قد يقرّر القيّمُ على البث الفضائيّ حجبَ وسائل إعلاميّة معيّنة؛ ولنا في القرار الظالم الذي تعرّضتْ له قناتا "الميادين" و"المنار،" عبر منع بثّهما عن القمر الصناعيّ عربسات،(8) دليلٌ آخر على القمع، إذ ضُربت بالاتّفاقاتِ عرضَ الحائط، وتمّ تنفيذُ رغبة ذلك القيّم، الذي أزعجتْه "الميولُ" السياسيّةُ لهاتين القناتيْن. ومن نافل القول إنّ إدانة هذا القمع الإعلاميّ، تأكيدًا على حرّيّة الرأي، لا يعني تبنّي كل سياسات  القناتين المعنيّتين.

وفي القمع، تأتي وسيلةُ منع الكتب، رغم حرص الأنظمة المستبدّة على إقامة مَعارض للكتب! في عصر تحميل الكتب كاملةً من الإنترنت، لا تزال السلطاتُ تراقب المنشورات. وقلّما ترى دارَ نشرٍ لم تُمنع ثلّةٌ من كُتبها في هذا المعرض أو ذاك. بعضُ هذه الكتب من زينة الثقافة، وبعضُها لا قيمة له، لكنّ الأمر، في الحالين، تابعٌ لمزاج رقيبٍ لا نعرف من هو، ولا نعرف معاييرَه؛ وإنْ صادفتَه حدّثك بمفاهيمَ فضفاضةٍ عن "الأخلاق" و"الأمن." الأحرى، والحالة هذه، أنّه جزءٌ من "منظومةٍ" سلطويّةٍ كاملة، يدين لها بمنصبه المهنيّ وراتبه ومركزِه "الاعتباريّ."

***

إنّها سلطاتُ البؤس، التي تتسلّم أكثرَ وسائل المراقبة والسيطرة حداثةً من عرّابها العالميّ، لكي تساعد في مراقبة الشعوب، وفئات المجتمع، مزاجِها وتوجّهاتِها، فتقوم بمهامّها على أكمل وجه، بل "تبيّض" الوجهَ أمام الشرطيّ الغربيّ المدرّب. لكنْ ما إن يأتي الأمر إلى علاقتها المباشرة بشعوبها، حتّى تعود إلى بنيتها المتخلّفة في كبت الفكرة، ومراقبةِ الحلم، والبحثِ عن رغبات التغيير العابرة في الأذهان.

لا تجد هذه السُلط إلاّ الهراوات أداةً لإقناعنا بها وبوجودها: هراوة الشيكات والهدايا، هراوات التهديد والقتل والسحل، هراوات كمّ الأفواه، هراوات فتح المجالات كافّة للرُخْص في الفنّ والكتابة، هراوة فتح الباب للكتابات الجنسيّة التجاريّة المكبوتة والتهويمات التي لا يلاحقها أحد. أيّ شيء يمكن أن يقهر الناس تراها تجرّبه، ولو أثبت فشله آلاف المرّات، ولو مضى الزمن عليه وتخطّته التكنولوجيا.

تتعامل معنا سلطاتُنا كالعصابة الخائفة، فتحاول جمعَ أكبر قدرٍ من الأرباح، من دون أن توجِدَ لنفسها وزنًا حقيقيًّا في المجتمع الذي تحكمه. وحين يحين الأوانُ ويحتقن المجتمعُ ضدّها، تجمع تلك الأرباحَ وترحل. هي لحظة ستعرف فيها المجتمعاتُ أنّ السلطة وهمٌ، وأنْ لا تبرير لوجودها إلى الأبد إلاّ في تركنا مسؤوليّاتنا، وتخلّينا عن حلمنا في غدٍ نستحقّه.

بيروت

  1. https://goo.gl/K4oxY2
  2. http://anhri.net/?p=156982
  3. http://goo.gl/rkLSai
  4.  على سبيل المثال: http://goo.gl/VZRcVy
  5.  الخبر: http://goo.gl/Io5SRo
  6. للاطلاع على فيديوهات أهالي هذه الحالات: http://goo.gl/9Xok8H
  7.  تجدون ترجمةَ مقالةٍ نُشرتْ في صحيفة الغارديانعن حادثة عربة الترحيلات الشهيرة، وقد راح ضحّيتَها أكثرُ من 37 محتجزًا اختناقًا، مع رابط المقال الأصليّ هنا: http://www.cairolive.com/zahma/?p=5346

           وحول القتل جرّاء التعذيب في السجون المصريّة، تقرير منظمة هيومن رايتس مونيتور: http://goo.gl/sjdoBM

      8. أسباب المنع التي قدّمتها إدارة عربسات: http://goo.gl/oFwKW7، والأسباب زادت غموضًا بعد التوضيح الآنف.

يسري الأمير

كاتب من لبنان. ومدير سابق لموقع الآداب الإلكتروني.