غرفة 208
11-12-2017

 

إنّها الخامسة صباحًا. لا أستطيع التركيز. أحسُّ بألمٍ في كتفي اليمنى التي كادت أن تتحوّل إلى قطعة ثلج. البرودة المتسرّبة من النافذة لم ترحم بقيّة أطرافي. مشيتُ نحو النافذة، واتّكأتُ على حافّتها، أنظر إلى البعيد، وفي نيّتي أن أنسى شخير الرجل إلى يساري، وأتناسى المرأة الممدّدة على سريرٍ موصولٍ بأجهزةِ التنفّس والضغط.

النعاس يطبق على جفنيّ. لا أستطيع فتحَ عينيَّ إلّا بمشقّة. أجلتُ بصري: لا بدّ من أنّها غرفةُ إسعاف! لكنْ كيف يمكن أن أكون على رأس عملي، وقد تركتُه منذ أشهر؟ سأعود إلى النوم. يتكرّر المشهد بتغييرٍ طفيف، إذ تنتقل البرودةُ إلى كتفي اليسرى التي تكاد تتجمّد من شدّة البرد. أمّا الرجل الذي كان نائمًا فهو يمدُّ لي فنجانَ قهوة، وكأنّه يمثّل دورَه في مسرحيّة. أتناول الفنجان وكأنّه آخر الغنائم التي ستصلني من هذا العالم البائس. تنتقل الحرارة إلى يديَّ، وتنقذني رائحةُ القهوة من الكسل الدماغيّ. في هذه اللحظة أخذ الرجل يدمدم بلهجةٍ فلسطينيّةٍ والكآبة تعلو وجهه:

ــــ قهوة سادة فيهاش سكر.

أومئ برأسي علامة القبول وأستعيد توازني. أتأمّل الغرفة ثانيةً، وأحصي الموجود كي أفهم ما يجري. إلى جانبي كيسُ قماشٍ، بداخله جوّالي وجهازُ الآيباد وزجاجةُ ماءٍ نصف فارغة. إلى يساري الرجل صاحبُ الشخير، وامرأةٌ على السرير. تلتقي عيناي بعينيه، فيشير برأسه إلى المرأة قائلاً: "سحر مانمتش طوال الليل. غلّبناك معانا."

تذكّرتُ ليلةَ أمس كيف أتينا ثلاثتنا بسيّارة الإسعاف. عائلة سحر تقيم في الغرفة 208 في سكن اللّاجئين، أمّا أنا فغرفتي 217. عند العاشرة ليلًا، وبينما كنتُ متوجّهةً إلى غرفتي، سمعتُ جلبةً، وعرفتُ أنّ سحر مغمًى عليها في الممرّ، وصديقتها تحاول نقلها إلى غرفتها. كان نبضها سريعًا جدًّا، على الرغم  من أنّها فقدتْ وعيَها. إلى جانبها بعضُ الأدوية. ذعرت، إذ ظننتُ أنّها محاولةٌ للانتحار. طلبتُ إلى صديقتها إعلامَ الأمن لطلب سيّارة إسعاف لنقلها إلى المشفى. بسرعةٍ وصل طاقمُ الإسعاف، الذي طلب إخلاءَ غرفتها المكتظة باللاجئين. سأل المسعِف:

ــــ هل ثمّة مَن يتحدّث الإنجليزيّة؟

 بعد أن عرف أنّني قادرةٌ على الترجمة، طلب مني الانتظار معهم، وبدأ بسؤالي:

ــــ هل أنتِ ممرِّضة؟

ــــ لا. لكنّني عملتُ في مشفًى لفتراتٍ طويلة. لذلك أتقن المصطلحاتِ الطبيّة.

 ــــ هلّا رافقتِنا؟! فالوقت متأخّر، ومن الصعب الاتصالُ وإيجاد مترجم.

لاحظ زوجُ سحر شرودي. كلماتُه أعادتني إلى غرفة المشفى: "مسكينة سحر لم تحتمل قرارَ رفض لجوئها فانهارت أعصابُها."

ــــ وما سببُ الرفض؟

ــــ أننا فلسطينيّون نحمل جوازَ سفر أردنيًّا. ليتنا كنّا نحمل وثيقة سفر؛ فربما كانت النتيجة قبولنا.

ــــ والله يا أبو عزيز لو لم أسلّم وثيقة سفري السوريّة عند طلب اللجوء، لقامت من سباتها وأدّت تحية تقدير لك، لأنّها لم تسمع سوى الشتائم.

ضحكنا، وشرُّ البليّة ما يُضحك.

بدأ أبو عزيز يحكي مأساة سفره. قصتُه تشبه مئاتِ القصص التي سمعتُها. حدّثني عن خارطة طريقه، التي كلّفته كلَّ ما يملك. بدأ طريقَه من الأردن إلى تركيا، ثمّ اليونان، حيث بقوا عدّة شهور في محاولاتٍ للعبور إلى أوروبا باستخدام بطاقاتٍ شبيهة، فضُبطوا في المطار، وظلوا يحاولون حتى استطاعوا الوصول إلى هنا، عدا واحدٍ من أولادهم بقي هناك. البارحة وصلهم خبرُ احتجازه من قِبل السلطات اليونانيّة، فلم تحتملْ سحر خبرين سيّئين في يومٍ واحد. وأضاف أبو عزيز أنه كان من المفترض أن يصلنا عن طريق التهريب إلى ألمانيا، لذا وجب علينا المبيتُ في الشارع الليلة حتى يأتي. وفي اليوم الثاني توجّهنا إلى أحد الحدائق وبتنا هناك. لم ننم ليلتها. لاحظنا مرورَ العديد من العرب، فتطفّلتُ بسؤالهم هل نبقى هنا أمْ نذهب. تسعة من عشرة أشخاص نصحونا بالبقاء. وهذا ما حصل.

دخل ممرّضٌ وسيمٌ قطع الحوارَ وشكرني على مساعدتهم بالترجمة والتخفيفِ عن المريضة وإقناعها بأخذ الدواء. ثم سألني إنْ كنّا عائلةً واحدة.

أصبحنا أصدقاء وكامب اللاجئين يجمعنا. سردتُ له القصة. تعاطف معي ولمعت عيناه بنظرة ودّ. قال:

ــــ هل ستبقين هنا؟

ــــ لا أعرف. لم يبدأ التحقيق معي بعد.

غاب الممرّضُ لفترةٍ وجيزة، وعاد ليخبرني أنّه أجرى بحثًا سريعًا على غوغل؛ فرأى حجمَ الدمار في سوريا، وأضاف: "لا يمكن إعادتك. أتمنّى أن تبقي هنا."

انتهى دوري كمترجمة وعدتُ إلى غرفتي رقم 217. مساءً، جاء ابنُ سحر يطلب إليَّ الذهاب إلى غرفتهم؛ فوالدته تريد أن تشكرني. توجّهتُ إلى غرفتهم وبقيت ما يقارب الساعتين أستمع إلى قصّة حياة إنسانة لا أعرف عنها سوى اسمها ورقم غرفتها. هي مثلي كانت تتساءل: "من المرأة التي رافقتني وواستني وترجمتْ ما أتحدث، وتحثّني على شرب الدواء، وتهمس بأذني عباراتٍ لأكون قويّة؟" تمنت ليَّ الشفاء العاجل، وأنا تمنّيتُ لها حظًّا موفقًا.

ليلتها كان هناك حفلٌ في المركز يحييه اللّاجئون. فكّرتُ أن أحضره علّني أنسى بعض الهموم. اتّجهتُ إلى صالة الكامب. ابتدأ الحفل بطفلةٍ صوماليّةٍ غنّت بصوتٍ حنونٍ ولهجةٍ لبنانيّة متقنة أغنية "أعطونا الطفولة،" وكانت تردّد مقطع "يا ناس أرضي محروقة، أرضي صغيرة متلي صغيرة.“ غنّى بعدها شابٌّ عراقيٌّ أغنية "موجوع قلبي وتعب بي." ثم تلاه شابّ سوريّ. هذه الحناجر التي تعزف الألم والحرمان على مقياس الحنين، كم تأخذ من عشرة؟

لم أستطع إكمال الحفل. ذهبت إلى غرفتي وأنا أقرأ أرقام الغرف. 208 قضية لجوء انتهت على سرير المشفى. 209 أين ستنتهي؟!

أخذت أعدّ الغرف حتى وصلتُ إلى غرفتي. الغرفة رقم 217، يا تُرى أين سينتهي بي المطاف؟

السعودية

رندة عوض

كاتبة فلسطينيّة تعيش في السعودّية. لها العديد من القصص المنشورة في مجلّات عربيّة.