فضاء الحمامة
04-04-2016

 

من تحت شجرة الزيتون انبثقتْ، تكرج مسرعةً. لم تطِرْ عندما رفعتْ رأسها ورأتني.

 

لونها بنّيٌّ فاتح، وريشاتٌ قليلة بيضاء في الجناحين المطويّيْن لِصقَ بدنها.

توقّفتْ والتفتتْ خلفها، فتنبَّهتْ إلى قطّة صغيرة تمطّ بدنها بمشيةٍ متربّصة.

اندفعت الحمامة البريّة، ثمّ توقّفتْ والتفتتْ خلفها.

أهي مريضة فتعجز عن الطيران لتنقذ نفسَها من القطة؟ أمْ تراها لا تخشى القطة لصغرها، فتلهو معها مطمئنة؟

راقبتُهما بحذر، وتهيّأتُ لإنقاذ الحمامة من القطّة.

دارت الحمامة حول ساق الزيتونة، فلحقتْ بها القطّة، وهمّت مرارًا بنتش ذيلها.

تساءلتُ إنْ كانت زغلولةً صغيرةً لم تتعلّم الطيران بعد. لكنّ حجمها، واكتساءَ بدنها بالريش، جعلاني أتشكّك في أمرها. رجّحتُ أنّها مريضة، أو أنّ القطّة الصغيرة هاجمتْها من قبلُ وما زالت تتعقّبها.

عندما اقتربت القطّةُ من ذيل الحمامة، فاتحةً فمها، هامّةً بمهاجمتها، انحنيتُ بسرعة، والتقطتُ الحمامة، ودفعتُ القطّةَ بقدمي.

بحثتُ عن قفصٍ عتيق كان ابني يربّي فيه عصافيرَ الحبّ التي تعلّقَ بها، ثمّ أقلع عن هذه الهواية عندما كبر. وحين وجدتُ القفص أدخلتُها فيه، وأغلقتُ بابه الصغير.

وضعتُ لها ماءً في صحن صغير، وفُتاتَ خبز. تأمّلتُها قليلًا، فاطمأننتُ إلى أنّها ستكون بخير، ما دامت قد تجمّعتْ على نفسها في زاوية القفص.

أخذتُ قيلولة في ذلك النهار التمّوزيّ الشديد الحرارة، ثمّ استيقظتُ. رششتُ بعضَ الماء على وجهي، واتّجهتُ إلى الصالون حيث وضعت القفص على مائدة الطعام.

رأيتُ الحمامة تدور حول نفسها بجنون، بينما القفص يهتزّ حتّى ليوشك أن يتدحرج على الطاولة، وهي لا تتوقّف إلّا لتنهش الأسلاك، كأنّما تريد انتزاعها، وحين تعجز، تعود إلى الدوران حول نفسها، بينما منقارها يرتطم بالأسلاك.

يا إلهي! يبدو أنّ هذه الحمامة مصابةٌ بالصرع! أمْ تُراها تريد أن تقتل نفسها؟

ولكنْ، أيصاب الحمامُ بالصرع؟

وعاءُ الماء مقلوب، وفتاتُ الخبز متناثرٌ في قاع القفص، وهي تدور، مطلقةً صوتًا مبهمًا يترافق مع دورانها الذي تغيّره من اتّجاهٍ إلى آخر.

حملتُ القفص، وفي مدخل البيت توقّفتُ.

فتحتُ باب القفص، فاندفعتْ كأنّها رصاصةٌ في الفضاء.

تابعتُها بنظري، وهي ترتفع بسرعةٍ أذهلتني.

طوّحتُ بالقفص، وأنا أتأمّل الفضاءَ الفسيح الذي اندفعتْ إليه الحمامة، وقد امتلكتْ فجأةً تلك القوّةَ العجيبة.

عمّان

 

رشاد أبو شاور

قاصّ وروائيّ فلسطينيّ من مواليد العام 1942. انخرط في صفوف المقاومة الفلسطينيّة واستلم عدّة مناصب في مؤسّسات منظّمة التحرير الفلسطينيّة. عمل نائبًا لرئيس تحرير مجلّة الكاتب الفلسطينيّ الصادرة عن اتّحاد الكتّاب العرب والصحفيّين الفلسطينيين في بيروت. عضو في جمعيّة القصّة والرواية.

من مؤلّفاته:

البكاء على صدر الحبيب- رواية - بيروت 1974.

العشّاق - رواية - بيروت 1978.

آهٍ يا بيروت - مقالات - دمشق 1983.

الربّ لم يسترح في اليوم السابع - رواية 1986.