في البار المفتوح على النسيان
20-06-2017

في البار المفتوح على النسيان

رولا الخشّ

 

مشهد 1

ضلوعُ النخيل التي تؤذّن في فمِ الهواءِ المرّ

الهواءُ الهاربُ من بحرٍ تحاولُ زعانفُهُ التحليقَ كالسمكة

المقاعدُ الخشبيّة

الكؤوسُ

العصافيرُ

ومنفضةُ السجائر.

 

مشهد 2

ذاك الرجل

نظر إلى تلك المرأة وقال باستخفافٍ: "هي عاهرة."

وهو ذاتُه لم يكفَّ عن التحديقِ الشبِقِ

بأصابعِ قدميْها!

وبغضبٍ رمقني، ثمّ تمتمَ شيئًا

لم أسمعْه؛

كنتُ مشغولةَ التفكيرِ في رجلٍ

يحتقرُ جسدَه.

 

مشهد 3

في البارِ المفتوحِ على النسيان

كلُّ الأشياءِ ممكنة؛

حتّى العصافيرُ التي تبني أمامي أعشاشَها

يمْكنني

ــــ بنقرةِ إصبعٍ واحدة ــــ

هدْمَها!

 

مشهد 4

كلُّ البلادِ نخلة

والكونُ ريح.

 

مشهد 5

الهواء المُغبرّ يطحنُ المكان

سيجارتي بين أصابعي تلهث

أنا... أراقبُ ظلّي.

ظلّي نخلةٌ ممدودةٌ بكبرياءِ أفعى جائعة.

أراقبُ ظلّي:

دودةُ الأرض أنا،

وظلّي نخلتي السابحة

في فمِ ماء.

 

مشهد 6

حرارةُ الطقس تشير إلى 40 درجة مئويّة

يمضغكِ البردُ!

بردُ حزنٍ تراكمَ حتّى صار مشكلة.

الماء في البركة المقابلة يرقص؛

أيُّ فرحٍ!

شجرةُ النخيلِ مُتعَبةٌ

تُعاني شحوبَ الفقدانِ ربّما.

السماء مكتنزةٌ بالسكّر

والطيورُ لا تبالي إلّا بخوفها من ظلِّ البشر.

وأنا...

أنا التائهة في تعريف الكائنات حولي كأنّها حولي، ولا ظلَّ لي

تموجُ، أموجُ،

ونقتفي معًا حدّة الافتراقِ والضجر

والخديعة!

زوّادة الوقت

مُضغة الوقت

الوقت المتمترس خلف عقاربه اللامباليّة

بي.

 

مشهد 7

ليلة هادئة

يستريحُ فيها قنديلٌ ــــ شكلُه يشبه العنقودَ ــــ من حمّى الفراشات

ونجمة ترقص، مع خيالاتها، التانغو عند الشجرة القريبة

يلمحها

فتستيقظ في زعانفهِ البراري.

جنّيّةٌ سوداء تخرج من ضلوعِ الليل، تعربش على سكينتهِ؛

أباغتُها

أخطفُ منها القفّازات

أخيط منهما قبّعةً. أضعها على الطاولة. فيختفي المكان... إلّا نجمةً وقنديلًا!

نضحك

ونهرول إلى السيارة مصطحبين معنا زجاجةَ شمبانيا

نفتحها، فتنبت للسيارة أجنحةٌ تحلّق بنا فوق وهادٍ تستريحُ على راحاتها أشجارُ الرند

وجنّيةٌ تتلاشى، في جنّةٍ يرتشفُ منها الريقُ نقائضَ العطش.

عند منعطف الجبال المبتسمة يتردّد صدى

لوهلةٍ، أظنّهُ حفيفَ أهداب الشمس التي نبتت من أصابعي.

يتكرّر النداء

أسافرُ معهُ في حروف اسمي الممتدّة سنابلَ تعانقُ الضوءَ المُشتهى.

من شُرفةِ بيتهِ أطلَّ نشّابٌ عتيق. نظرة خاطفة وغادر مُصطحبًا حمائمه

نجمةً وقنديلًا.

اختفت القبّعة

وصوتٌ يربّتُ على كتفي:

"سنُغلق البارَ بعدَ قليلٍ يا رولا."

عاد المكان.

موسيقى بحيرة البجع في السيّارة تنتظرني

ألتحفها وأنامُ في المقعد الخلفيّ

بعد أن أُغلق الباب.

 

مشهد 8

أن أتأبّطَ جناحَ الليل في ما تبقّى منّي، واختفي؛

أن لا أُكتشفَ إلّا بعد آلاف السنين صدفةً على بطنِ حجر!

 

مشهد 9

لا حلم يبدّدُ نعاسَ هذا الصباح

لا يد حانية ترفعُ الكأسُ نخبَ خيبتها

تُعانق الفراغَ

وتنكسر.

 

مشهد 10

قلبي مبحوح

أمشّطه بعنقودِ عنبٍ، فينضجَ لونًا

يتقطّرُ عنهُ ماردٌ

أمسكُ بيدهِ. أدعوهُ إلى الجلوس معي

نثرثر قليلًا

نضحكُ

وبعد الكأس السابعة

نرقصُ معًا

مجدوعَي الأنف.

 

مشهد 11

شيءٌ ما يفور

يشبهُ نكهةَ التفّاح

نرتبك!

يتصاعدُ الدخان من بين أصابعنا العصبيّة

ودمعةٌ تلملم نفسها من الانزلاق

فالجوّ مُرتبك!

هي حرارة الطقس، نقول

ونلتهم البيرةَ مع الدخان.

 

مشهد 12

تفيقُ عيناها على أربعينَ سنونو حطّت الرحالَ بحزنٍ على كفّها

تنصهر في الحزنِ قليلًا، ثمّ عنهُ تنشطر.

تُمشّط أهدابَ أربعين سنونو على كفّها، وتُلقي بهم

في بركة السباحة.

 

مشهد 13

كنتَ منضبطًا كدقائق الساعة

محدودًا كسقفِ خيمة،

عابسًا،

لا تُجيد الرقصَ إلّا مع هلام.

كنتَ ظلّ الأشياء التي تتبدّد ــــ من كلِّ بدٍّ ــــ

لحظة الجنون الطبيعيّ

لظلّي.

فقط.

 

مشهد 14

نبتةٌ وحيدةٌ من خلفِ الشبّاك

لا يبدو بأنّها تكترث

خفيفة كالهواء

تُعانق الهواء

مثلي

 

مشهد 15

كستناء

وعقدٌ من الملوحةِ ينفرط عن فمِ كستناء

تتنفّسُ للمرّةِ الأولى خارج الصدفة الـتي ماتت

قبل قليل.

 

مشهد 16

أربعة جدران مُستعارة، ونافذة تطلُّ على جدار

الفراغ في مُنتصفٍ، يأكل بعضهُ بنهم.

طبيعتهُ؟

مصابًا بداءِ الثرثرة؟

فتاة صغيرة عند النافذة المطلّة على جدار تتساءل وتصخبُ الحكايا

تخيط من جلدِ الفراغِ شالًا.

تنفرج أسارير دميتها، وتغنّي:

"كلّما زاد ولعُ الناس بالكلام، قالت لهم عيناي: حتّى القليل الباقي فيّ خذوه."

تستيقظ الشجرة على صوت الدمية، وتشارك بالغناء:

"دعي ما يخطر على بالكِ يُبحر في الأبديّة. لا تخنقيهِ على صفحاتِ جريدة."

تغرّد العصافير الكانت حبيسةً، وترتّل الأصداء:

"صباح الخير يا مُبتسمة... صباح الخير لغير الشغوفينَ برائحة الصحراء."

يصدحُ صوت الفتاة:

"أنا الممتلئة بالزعل، ومع ذلك، أحاولُ الخمر المعتّق ما استطاعَ خلخالي."

ينضمّ الشال إلى الجوقة بعدما انتهت حياكتُه.

جدارٌ يتهدّم.

 

مشهد 17

لم أُولد بعد

ما زلتُ ربّما في شهري الثالث

أتدوّر، أتكوّن، أتلوّن،

محاطةٌ بماءٍ لا يقوى على صدِّ

المتطاير

المجتمعِ المبعثر

الواثق المُهترئ

الساكن المُهتزّ

العائم الغائم

الهائج الهادئ

المصطفّ المُنفرد

المتحوّل الثابت

صعودًا

نزولًا

أفولًا

حلولًا

وأنا هنا

أمتصُّ عصارة الماء

وأتدوّر، أتكوّن، أتلوّن

ولم أولد بعد.

 

مشهد 18

وتسلّقي جدارَ الصوت

علَّ الصمتَ ينفجر؛

علَّ العناقيد التي في صدر الغابَ تبكي

وتطرحُ العنب؛

علَّ الأنبياءَ جميعًا يلبسونَ وحيًا في حضرة النبيذِ

وينتحرون.

 

مشهد 19

هِبي أنّكِ في القفرِ البعيد؟

أنا القفر البعيد.

هبي أنّكٍ مغزلٌ؟

أنا المِغزل، بجناحٍ مقصوص العصفور.

هبي أنّكِ إله؟

أنا هذيانُ إلهٍ مات

أنا هذيانُ إلهٍ لم يولد بعد.

 

مشهد 20

شاشةُ الآيباد تغرقُ في الرطوبة

البركة المقابلة... أفرغوا منها الماء

شيّدوا فوقها خيمةً كبيرة

خيمةً عملاقة، لونُها أبيض

أشجارُ النخيلِ صامتة... والعصافير

القططُ تعوي

في البار المفتوح

على النسيان.

السويد

 

رولا الخش

شاعرة من سوريا مقيمة في السويد. صدر لها: نحو الزمن إلّا خطوة (شعر، 2015).