في يوم المرأة العالميّ: كي لا تؤكلَ البقرةُ البيضاءُ والسوداءُ والحمراء
08-03-2016

 

تتقلّص عضلاتُ وجهِ الأم وهي تراقب ابنتَها تختال أمام الأصدقاء في الصالة. تصعقها بنظرةٍ حازمة، فترتعد الفتاةُ من دون أن تعي ما فعلتْه. تحاول الفتاةُ أن تنسى تلك النظرة، لكنّ أمّها تلاحقُها حتّى المطبخ، فتحشرها في الشرفة زاعقةً: "علّيلي هالبلوزة لشوف، صدرك كلّه مبيّن. وإذا بعد بشوفِكْ عم تتدلّعي هيك مع الناس مدري شو بدّي أعمل فيكي!"

لربّما كانت الزاعقةُ أمًّا، أو أختًا، أو قريبةً، أو صديقةً، أو امرأة مجهولة. لكنّنا، معشرَ النساء، مررنابتجاربَ تعرّضنا فيها لـ"تأنيبٍ" مماثل، من قبل امرأةٍ أخرى، ولأسبابٍ شبيهة.

بالنسبة إلى الكثيرات، يبدأ القمعُ من أكثر النساء شبهًا بنا وقربًا إلينا، ولربّما سبق أن مررن بما مررنا به نحن، وعانيْن النظراتِ والأصواتِ القامعةَ ذاتَها. يبدأ القمع حين يحاولن أن يملين علينا ما "ينبغي" أن تكونَ عليه علاقتُنا الحميمة بأجسادنا،  أمام الناس ومعهم وفي معزل عنهم. تلعب النساءُ في هذه الحالة دورَ شرطيّ الأخلاق، وعصاه الضاربة التي ترسم على أجسادنا حدودَ "العيب"؛ كمثلِ امرأةٍ في المقهى تمدّ يدَها إلى حجابِ رفيقتها، لـ"تضبط" لها شعيْراتٍ صغيرةً أفلتتْ من حبسها.

أذكر أنّني، في مراهقتي، لم أجد في نسوةِ عائلتي مَن دعمتني أو تفهّمتني في تمرّدي على قوانين العائلة أو الأعراف الدينيّة، أو على أيّ شكلٍ آخر من أشكال السلطة. لم أجد مَن أخبرهنّ بما أمرّ به من دون أن أتعرّض لتوبيخهنّ حتّى من قبل أن أنهيَ قصّتي. حينها، كنتُ أسأل نفسي: "أوَلمْ يكُنّ فتياتٍ يومًا مثلي؟ بل ألا يزعجهنّ الآن أن يقرّرَ عنهنّ الرجلُ/المجتمعُ؟" وأذكر أنّني حاولتُ مرارًا أن أجد فسحةً أدخلُ منها إليهنّ، من منطلق "تواطُئنا" كنساء، ضدّ الرجال، فأواجَه بسيف الرجال مصْلتًا عليّ بأيديهنّ. هنا تتحوّل المرأة ــــــ المربّية، بوعي أو من دونه، إلى أداةٍ عاتيةٍ في يد النظام البطريركيّ.

***

تعجّ مقاعدُ عربة السيّدات في مِترو القاهرة بالمحجّبات. ومنهنّ امرأةٌ منقّبةٌ تقرأ في قرآنٍ  كبيرٍ، بصوتٍ عالٍ. لكنّ الأخت لا تركّز على قراءة كتابها المقدّس، بل تبحث عيناها، ذاتَ اليمينِ وذاتَ اليسار، عن ممتعِضةٍ ما لتزجرَها.

المشكلة الأساسيّة في هذا المشهد ليست في نقاب تلك المرأة، ولا في حملها كتابًا تقدّسُه شأنَ عشرات الملايين من البشر، ناهيكم بقراءتها له والإيمان به. المشكلة الأساسيّة تكمن في التحدّي الذي كانت تلك المنقّبةُ تتعمّدُه: بتلاوة آياتٍ منه بصوتٍ عالٍ، في مكانٍ يُفترض أنّه عامٌّ ويحوي فئاتٍ متنوّعةً من البشر ـــ عقيدةً وانتماءً وممارسات. لقد كانت تلك المرأة تتحدّى، بشكلٍ أكثرَ تعيينًا، نساءً أخرياتٍ، وتضغط عليهنّ، بطريقةٍ شبه إرساليّةٍ أو دعويّة، من أجل اتّباعِ "هذا" الدين بالذات، بل هذا النمطِ المعيّنِ من الممارسة الدينيّة.

الجديرُ ذكرُه في هذا السياق أنّ النظام البطريركيّ، بما فيه أدواتُه "النسائيّةُ،" يغذّي أشكالًا عديدةً من المنافسة القائمة بين النساء، عبر تظهير الفوارق الاجتماعيّة والسياسيّة والطبقيّة والمناطقيّة والدينيّة بينهنّ، ليتعذّرَ عليهنّ النظرُ  بعضهنّ إلى بعض في وصفهنّ شريكاتٍ في الخضوع لقمع ذلك النظام.

***

ساهمت السينما المصريّة في عرض مواقفَ مختلفةٍ من المرأة. فمن ناحية، أظهرتْ "تأبيدَ" مظلوميّة المرأة، وحتميّةَ وقوعها في "الإثم،" واستحالةَ نجاحها في التحرّر ضمن حياتها الخاصّة نفسها، وعجزَها عن إنصافِ المظلوم. وهذا ما نجدُه في الكثير من الأفلام التي تقتبس روايات نجيب محفوظ، كـ السراب (1948) وبين القصرين (1956) وقصر الشوق (1957) والسكّريّة (1957)، أو روايات إحسان عبد القدّوس كـ لا أنام (1957) وأنا حرّة (1959) وبئر الحرمان (1969) ـــــــ فتلك الأدوار كلّها كانت ستحتّم عليها أن تكون "البطلة،" في حين أنّ أدوار البطولة، عادةً، "ممنوعةٌ من التأنيث" إذا جاز التعبير.

ومن ناحيةٍ أخرى أظهرت السينما المصريّةُ المرأةَ في دور الشيطانة، التي تقود الرجلَ المغلوبَ على أمره إلى حتفه، أو تجرُّه إلى "الفحشاء،" فتموتُ، أو تعاقَبُ وإنْ "تابت،" كما في الجسد (1955) وصراع في النيل من بطولة هند رستم (1959). ولطالما كانت حكايةُ الأفلام المصريّة الكلاسيكيّة تدور حول حبٍّ يَجْمع بين فتاةٍ "طاهرة" وشابٍّ غير طاهرٍ في العادة.

تحتلّ هذه النماذجُ السينيمائيّةُ مساحةً في الوعي الجماعيّ والموروث الثقافيّ عند شعوب هذه المنطقة، بمختلف طبقاتها وأعراقها وانتماءاتها. وقد ثبّتتْ، في نواحٍ عدّةٍ، شكلَ هذا النظام الذكوريّ وتفاصيلَه، ببراعةٍ ووفاءٍ، وتخطّت بفعّاليّتها أحيانًا أبلغَ الكتب وأفصحَ الخطاباتِ السياسيّة. كما أثّرتْ في فصل الاهتمامات والأهداف المشتركة للنساء بعضِها عن بعض، وشوّهتْ صورةَ القمع المشترك الذي يتعرّضن له، هادمةً بذلك أساسَ التضامن بينهنّ.

***

ومع ذلك، فثمّة أفلامٌ قليلةٌ طَرحتْ فكرةَ التضامن بين النساء، ووضعتْهنّ في وسط الأحداث، ناسجاتٍ لها لا هائماتٍ في خضمّها. فيلم فتاة المصنع (2014) لمحمد خان، مثلًا، يحكي قصّةَ "هيام،" وهي فتاةٌ عشرينيّةٌ من عائلةٍ فقيرة تقطن في أحد أحياء القاهرة المكتظّة، وتعمل (مع أختها الصغرى) في معملِ خياطة، قبل أن تقعَ في غرام الرجل الوحيد في قاعة الخياطة، وهو مهندسٌ جديد. وتتطوّر القصة حين يقبّلها المهندسُ في مطبخ بيته، فتصل أمُّه (التي تنتمي إلى الطبقة البورجوازيّة) وتطردُها من البيت، ويتوقّف عن الردّ على اتّصالاتها، فتنهار. ثم تجد المسؤولةُ عن الفتيات في المعمل أداةَ فحصِ الحمْل في إحدى سلّات المهملات، فتحوم الشكوكُ حول هيام.

في البداية، يحصر الفيلمُ أدوارَ البطولة بالنساء، ويضيء على العلاقة الحميمة بينهنّ، رغم تنافسهنّ الخجول على جذب المهندس. لكنّهنّ لا يلبثن أن يكشّرن عن أنيابهنّ حين يشتبهن في حبّ "هيام" له، فيتحوّلن إلى "مطرقةِ حُكْمٍ" في يد النظام البطريركيّ. وحين يصل الخبرُ إلى عائلتها يُظهر الفيلمُ نموذجيْن عن ردود فعل النساء: موقفَ أمّها (وأختها وخالتها) من جهة، وموقفَ جدّتها من جهةٍ أخرى. ففي حين تحميها أمُّها من سكّينِ خاليْها (بل تجرح يدَ زوجِها بها أيضًا)، تَجمع جدّتُها النساءَ من حولها، فيُلصقنها بالأرض كي تقصّ جدّتُها شعرَها عقابًا لها. هكذا يُنزَلُ القصاصُ بهيام... على يد بناتِ جلدتها!

في آخر الفيلم نكتشف أنّ هيام لم تمارس الجنسَ مع المهندس. ولذلك تذهب أمُّها إلى جدّتها، بفخرٍ وتحدٍّ، لتسترجعَ شعرَ ابنتها المقصوص. غير أنّ استرجاعَ الشعْر ليس، في الحقيقة، دفاعًا عن “براءة" هيام من "تهمة" الجنس بقدرِ ما هو استرجاعٌ لـ"هيبةٍ" منتقصةٍ أمام المجتمع الذكوريّ.

***

يُحكى أنّ ثلاثة ثيران، أسود وأحمر وأبيض، كانت تعيش في الغابة تحت سلطة الأسد. ذات يوم اقترب الأسدُ من الثوريْن الأسود والأحمر وهمس لهما: "ذلك الثورُ الأبيض الجميل، لونُه يلمع في الشمس ويلفت الأنظارَ، وأخافُ أن يشدّ انتباهَ الأسودِ الأخرى فتهجمَ على مملكتنا. أعتقد أنّ من الأفضل أن آكله خدمةً للخير العامّ." وافقه الثوران مشجِّعيْن، فأكل الأسدُ الثورَ الأبيض. بعد فترة، اقترب الأسدُ من الثور الأسود قائلًا: "يا ثوري الأسودَ العزيز، كم يُحزنني أن أرى الثورَ الأحمرَ يركض في الحقل لأنّه يذكّرني بثورٍ أحمر لذيذٍ أكلتُه منذ فترة. ما رأيك لو أكلتُه لأرى إنْ كان بمثل طعم الأول؟" فوافقه الثورُ الأسودُ داعيًا له بالنصر. بعد فترة، نادى الأسدُ الثورَ الأسود الذي جاء مطأطئًا رأسَه بانتظار أوامرِ الملك. هجم الأسدُ عليه عاضًّا رقبته، فصاح الثور:"أُكِلتُ يومَ أُكِل الثورُ الأبيض."

هذه دعوةٌ كي نتكاتفَ جميعًا، حتى لا تؤكَلَ إحدانا من غير أن تتدخّلَ الأخريات. إنّها دعوة لوضع أنفسنا في موقفٍ داعمٍ لكلِّ امرأةٍ تحاكَمُ وتُدانُ وتعاقَبُ بمعايير النظام الذكوريّ المهيمن. لا يمكن أن نتضامنَ مع المرأة المعنّفة مثلًا بـ "شرطِ" أن تكون زوجةً "مطيعةً" وأمًّا "صالحة" لا "عاهرة"؛ فالتضامن مع المرأة المعنّفة ينبغي ألّا يرتبطَ بتقويمات المجتمع الذكوريّ. وهذا يعني أن نكون قادراتٍ على تجاوز إطار "الأخلاق" المجتمعيّة الحاليّة، والنظرِ إلى المرأةِ الأخرى بعين الشريكة في "المؤامرة" على النظام، "أختًا" في المعاناة والقمع وفي التصدّي أيضًا. وهنا لا مفرّ من التأكيد أنّني أعني غالبيّةَ النساء، لا النساءَ القلائلَ اللواتي ارتضين أن يكنّ أدواتٍ في يد الرجال القامعين. كما أنّني لا أستثني من "التآمر الجميل" رجالًا شجعانًا يقفون في خطّ الدفاع الأوّل عن جميع المضطهدات والمضطهدين والمهمّشاتِ والمهمّشين بسببٍ من لونهم أو عرقهم أو طبقتهم أو خيارهم الجنسيّ.

لا يمكنني إلّا أن أتخيّل يومًا يكون فيه هذا التآمرُ الجميلُ حقيقةً أوسعَ من محض شذراتٍ في تاريخنا، وأطولَ من محض لحظاتٍ قليلةٍ في يومنا، داخل هذا الكمّ الهائل من القهر والتعنيف والاضطهاد والأحكام السلبيّة المسبّقة.

بيروت

جنى نخّال

باحثة وناشطة يساريّة من بيروت والجنوب. تعمل في مجال التنظيم المدنيّ في العشوائيّات ومخيّمات اللجوء، كما تنشط في التنظيم الطلاّبيّ في الجامعات.