قبلةٌ ناعمة
15-10-2016

 

 

أيقن سعدون أنّ ما يحمله من طعامٍ وحليبِ أطفال ودواءٍ سيشكّل تميمةً يُبعد بها شبحَ الجوع عن بيته للأيّام القليلة القادمة. وبعد أن استطاع تأمينَ معظم احتياجاته المنزليّة، بقيتْ أمامه عقبةٌ واحدة: عبورُ الشارع الذي يفصل شرقَ المدينة عن غربها. جذبه صوتٌ مألوفٌ طغت عليه همهماتُ حشدٍ يتمركز خلف مبنًى كبيرٍ بُقرتْ خاصرتُه، واندفعتْ أحشاؤه من أثاثٍ وركامٍ خارجًا، نتيجةً لإصابته بقذيفة. وبينما كان يتجوّل بينهم، لمح جارَه "نعسو" الأعرج، فاقترب منه: "حيّاك الله أخي نعسو. أخبرني كيف هو مزاج صاحبنا اليوم؟"

أجابه بتهكّمٍ ونزقٍ واضحيْن:

ــــ أهلًا أخي سعدون. يبدو أنّه معكّر على غير عادته؛ فقد أطلق النارَ على عجوز منذ قليل، لكنّه لم يصبه!

ــــ وكيف ذلك؟ لا بدّ أنّ العجوز كان عدّاءً في شبابه!

ــــ لا يا صديقي. العجوز كان محظوظًا جدًّا؛ فما إنْ ركض مسافة مترٍ ونيّف، حتّى تعثّر بشظيّةٍ معدنيّةٍ وسقط أرضًا. ظننّا أنّه أُصيب. ولكنْ، بعد فترة وجيزة، تبيّن لنا أنّه حيّ، وأنّ الدم الذي نزفه سبّبُه الجرحُ الذي نتج من اصطدامِ رأسه بالرصيف. وفجأةً، نهض كجثّةٍ هامدةٍ عادت إليها الحياة، وعبَر الشارعَ مختفيًا خلف تلك السواتر الترابيّة.

ضحك سعدون كاشفًا عن أسنانه الصفراء. وأومأ برأسه متمتمًا: "هذا صحيح... هو محظوظٌ فعلًا!"

***

يبتعد بمخيّلته أكثر ممّا تستطيع أن ترى عيناه؛ فيتصوّر ذلك الشارعَ المشؤومَ صحراءَ واسعةً تخلو إلّا من الرمال، ويطلُّ عليها ثعبانٌ عملاقٌ يتضوّر جوعًا. استعاد رباطةَ جأشه، وقرّر أن يخوض غمارَ هذه التجربة؛ فإمّا أن تُكلّل جهودُه بالنجاح والبطونِ الممتلئة، أو ينتهي كلُّ شيء برصاصةٍ تستقرُّ في جسده الهزيل. شدّ كفّيْه الخشنتيْن على الأكياس التي يحملها، وأطلق العنانَ لقدميْه. راح يركض بجنونٍ إلى درجة أنّه أحسّ بتوقّف الزمن من حوله. ومع كلّ خطوةٍ يخطوها كان الشارعُ يزداد اتّساعًا وعمقًا. خُيّل إليه أنّ سيّارة السوزوكي المتفحّمة، القابعة وسط الشارع، قد عادت إلى الحركة من جديد، وها هي محمّلة بشتّى أنواعِ الفواكه والخضروات الطازجة. استحال الشارعُ أكثرَ ازدحامًا وضجيجًا، فعلا صوتُ أبواق السيّارات، وشتائم سائقي السرافيس، وازدادت أوراقُ الأشجار اخضرارًا.

شعر أنّ طبول الحرب بدأتْ تقرع في داخله عند اقترابه من الطرف الآخر، وسماعِه صدى عويلِ البندقيّة الذي يعني نهاية الماراثون. لكنّ منظرَ تلك المرأة البدينة التي تركض متعثّرةً بجلبابها البنّيّ أضفى لمسةً من الفكاهة السوداء على هذه اللحظات العصيبة. أحسّ أنّ رجولتَه قد اهتزّت عندما سبقته، فراح يجري خلفها كذئبٍ يطارد فريستَه... حتّى أدرك أنّه خرج من دائرة الموت.

***

استدارت نحوه وهي تلهث:

ــــ حمدًا لله على سلامتك يا أبا سعيد.

ــــ شكرًا. وحمدًا لله على سلامتك. آه، لا بدّ أنّك جارتنا أمّ عبدو التي توفّي زوجُها السنة الماضية!

ــــ أجل، أنا أرملة المرحوم أبي عبدو. لكنْ، أخبرني، ما سببُ اصطباغ شفتيك باللون القرمزيّ القاتم؟ تمالكْ نفسَك يا رجل، ولا داعي لكلّ هذا الخوف!

استدار وتابع طريقه. لمس شفتيْه المتورّمتين، فتذكّر الشعور الذي كان أشبهَ بتقبيل جمرٍ أحمرَ مستعر. وتردّد في أذنه صوتُ الرصاصة التي ارتطمتْ ببطن إشارة المرور الملتوية، ليدرك أنّه قد نجا من رصاصةٍ لامستْ شفتيْه بنعومةٍ... فأحرقتْهما.

انهمرتْ من عينيْه دمعتان أو أكثر. وانهمرتْ أسئلةٌ عديدة. نظر حوله باحثًا عن إجاباتٍ مقنعة. لكنّ قذيفةً سقطتْ بالقرب منه، فانتشر الغبار، وصار المكانُ أشبهَ بساحةٍ من ساحات الوغى.

عندما تأكّد أنّ جسدَه مازال قطعةً واحدة، ركض عائدًا إلى بيته حاملًا معه غنيمةً ثمينةً، وذكرياتٍ لن يزولَ أثرُها سريعًا.

سوريا.

احمد صهريج

كاتب من سوريا. يدرس الأدبَ الإنكليزيّ.