قصّة وديع
11-01-2018

 

اشتدّ عودُ وديع، ابنِ السادسة عشرة، قبل أوانه، وبات يعمل عمليْن: الأوّل في "بوفيه" في مدرسة، والثاني في لصق إعلاناتٍ على طرق دمشق. وكان والدُه وأخوه قد غرقا في البحر، فبقي مع أمّه التي تعمل خادمةً في منازل حيّ المالكي. يسكن الاثنان في ملحقٍ صغير، ينقسم إلى قسميْن: مطبخ وبالقرب منه مرحاض، وحيّز صغير فيه فرشتان.

مع بزوغ الفجر نهض وديع قبل أن يرنّ جرسُ المنبِّه بعشرِ دقائق. أطفأ المنبِّه، وأمسك الإبريقَ الموجودَ بالقرب منه ليشرب ما تبقّى من ماءٍ فيه، ثمّ ذهب بخطواتٍ ثقيلةٍ إلى المرحاض ليُخرج ما تبقّى من كحولٍ في دمه. غسل وجهه عدّة مرّات، وبعدها اتّجه نحو المطبخ، وأخذ كعادته يلفّ سندويشته المكوّنة من الزيت والزعتر. كان يحلم هذه المرّة بلفّ سندويشةٍ متناسقةٍ كلّ التناسق، ولكنّ محاولته باءت بالفشل، بسبب رداءة الخبز.

أثناء وضعه لسندويشته المفتّتة في حقيبته، التي حضّرها منذ الليلة الفائتة، تناهى إلى سمعه صوتُ أمّه المتألّمة من تشنّج قدمها اليسرى. هرع نحو فرشتها على الأرض وأمسك قدمها المرتجفة، وبدأ بتدليكها. كان قلبُه يخفق بشدّةٍ ويزداد اضطرابًا كلّما زاد الأنينُ المكبوت في صدرها . أمسكت الأمّ طرفَ الفرشة وشدّتها بقوّة، وتجمّدتْ تجمّدَ الموتى. بعد لحظاتٍ خفّ التشنّج، فأخذ وديع شيئًا من مرهمٍ مسكّنٍ للآلام ودهن برفقٍ قدمَها. ابتسمتْ له وقالت بفمٍ نصف مفتوح: "لا تتأخّرْ عن عملك."

كان وديع يتنفّس بصعوبةٍ، لكنّ ابتسامة أمّه أعادت شيئًا من الهدوء إلى قلبه. فخرج من الملحق، واضعًا حقيبته على ظهره، مسرعًا نحو المدرسة.

***

ما إنْ رأى وديع المدرسةَ حتى تجعّد وجهُه، وأبطأ من خطواته. إلى أن بلغ البابَ الكبير، فأسرع نحو الغرفة التي تقع في زاوية الباحة. كانت الباحة شبهَ فارغة؛ فالساعة لا تزال السابعة.

دخل الغرفة، فرمقه المعلّم رامي بنظرةٍ حادّة، قائلًا له: "بكّير يا سكّير، ضع الحقيبةَ وأسرعْ للفّ السندويش؛ فالقردة لن ترحمنا اليوم." اتّجه وديع إلى مكان عمله من دون أن ينطقَ بكلمة، وبدأ بلفّ السندويش. كان عليه أن يصنع 150 سندويشة مرتديلا، و100 جبنة دهن، و100 سجق، و50 زعتر.

 خلال وقتٍ قصير أنجز الشابّ عملَه بمهارةٍ عالية. فانتقل إلى تحضير الشاي. وضع الإبريق الكبير على النار، وجهّز 200 كاسة مصنوعة من البلاستيك، ثمّ انتقل إلى ترتيب البسطة. في هذه الأثناء كان المعلّم رامي يرتّب صندوقَ الغلّة؛ فهو حريصٌ على معرفةِ ما في داخله لتجنّب وقوع سرقةٍ أخرى، كالّتي حصلتْ منذ فترةٍ وطُرد على أثرها الشغّيل عمّار.

بعد ربع ساعةٍ سيخرج الطلّابُ إلى الباحة، ويبدأ الهجومُ على البوفيه. لقد تعوّد وديع دحرَ الهجوم بتلبية حاجاتهم بأقصى سرعةٍ ممكنة. ولكنّ هذه المهارة لم يكن تحصيلُها هيّنًا: ففي يوم عمله الأوّل، وكان في الخامسة عشرة، فوجئ بهجوم الطلّاب على البوفيه، وكان عددهم بالعشرات، فشعر بأنّه عالقٌ في خندقٍ ويجب أن يدافَع عنه. أكثر مشهدٍ انحفر في ذاكرته هو صورة تلك اليد الأولى التي أمسكتْ حديدَ النافذة، والصوت الذي خاطبه بكلمة "عمّو." أصابه اضطرابٌ شديدٌ، وتغبّشت الصورة التي كان يراها، واستمرّ الصوت في مخاطبته: "عمّو... عمّو...عمو."

كان من موقعه لا يرى طلّابًا، وإنّما صيصانًا جائعةً تريد طعامًا. تمنّى لو يستطيع أن ينتف ريشَهم ويرشقَهم بالشاي الساخن. كان أكثر ما يستفزّه غلاظتهم، وهو يعلم أنّه قبل عاميْن كان يتصرّف مثلهم، وربّما يفوقهم شقاوةً.

في الوقت الفاصل بين الفرص، حين يكون الطلّاب في دروسهم، كان وديع يخرج إلى الباحة وفي حوزته كيسٌ كبيرٌ ليلتقط الأوساخ. وكان المعلّم رامي قد اشترط عليه القيامَ بهذه المهمّة الإضافيّة قبل أن يبدأ العمل. وافق وديع على الشرط بشيءٍ من الانكسار.

***

عند انتهاء الدوام يبقى البوفيه مفتوحًا بعض الوقت، على الرغم من أنّ أحدًا لا يأتي لشراء شيء؛ فالجميع يتعجّلون العودة إلى بيوتهم. يراقب وديع من مكانه مشهدَ خروج الطلاب عبر النافذة الصغيرة.

لكنّه اليوم يجلس على عتبة باب البوفيه، حاملًا بيده كأسَ شاي. يُخرج من حقيبته سندويشةَ الزعتر، ويفكّر. كانت تصل إلى مسامعه أصواتُ طلّابٍ يهتفون بكلماتٍ تدعو إلى العنف:

"شاغبْ شاغبْ شاغبْ

شاغبْ قد ما فيك

كسّر المقاعد ولا تنسى الشبابيك..."

كان وديع يمضغ طعامَه والهتافُ يشتدّ. يفكّر في عرض العمل الذي اقترحه عليه أبو منذر قبل أيام: توزيع الحشيش في دمشق القديمة.

ربّما سيقبل تنفيذ العمل؛ فالراتب جيّد. وبذلك يستطيع أن يخفّف عن أمّه حجمَ معاناتها.

 سوريا

حسين خضّور

من مواليد حمص 1991. درس في المعهد العالي للفنون المسرحيّة ـ قسم الرقص في دمشق. ويقدّم عروضًا مسرحيّة.