قُبيلَ فجرِ السابع والعشرين من تمّوز
17-02-2017

 

 

ثمّةَ ديكٌ يصيح. فعلى الرغم من أنّ البيت الذي أقطنُه يقع في منتصف العاصمة، فإنّ أهالي الأحياء المجاورة، منذ بداية الحرب، تبدَّلوا بشكلٍ مريع.
فلقد هاجر معظمُ سكّان الأحياء والأبنيةِ المحيطة، واحتلَّها ريفيّون، بعضُهم مقاتلون. المتمركزون في الحيّ الشماليّ كانوا مناصرين للنظام الحاكم، أمّا ساكنو الحيّ الشرقيّ الذي أستطيعُ رؤيةَ بيوته من شرفة المطبخ فكانوا مناهضين للنظام. وكانت الاشتباكات بين الطرفيْن تعْبرُ دائمًا من منطقة البناء الذي أسكنُه. لكنّ حظّي الجيّد، إضافةً إلى بركاتِ جدّتي التي بقيتْ معي في البيت بعد أن غادرتْ زوجتي وطفلاي إلى بيلاروسيا، أنقذتْنا مرارًا من الموت، ولم يُصَبِ البيتُ الواقعُ في الطابق التاسع إلّا بأربع رصاصات من عيار 500 وشظيّة "هاون" دخلتْ من نافذة الممرّ لتخترقَ بابَ غرفةِ نومِ جدّتي وتستقرَّ في أعلى السرير الذي تنام فوقه، على بعد سنتيمتراتٍ قليلةٍ عن رأسها المُفلطح الصغير.

رفعتْ رأسها نافضةً الغبارَ ببطء، ثمّ توجّهتْ نحوي متسائلةً بصوتٍ هادئ وآمن:

ــــ هل غابت الشمس؟

قالت ذلك بذهولِ طفلةٍ تتساءل عن سببِ إيقاظها قبلَ شروق الشمس كي تذهبَ إلى المدرسة.

كانت جدّتي "ثلجة" تعيش في الظلام. تستيقظ عند مغيب الشمس وتنام عند شروقها. وكانت عيناها الصغيرتان تُصابان بالحساسيّة من أشعّة الضوء الكهربائيّ؛ فإذا استيقظتْ في النهار حملتْ شرشفًا تضعُه على رأسها وهي ذاهبةٌ لقضاءِ حاجة.
كانت تريحُني بعادتها تلك؛ فأنا أكاد لا ألتقيها. لكأنّها روحٌ تتجسّد أحيانًا؛ خفيفةٌ وبلا رائحةٍ مميَّزة، خلا تلك الرطوبة التي ترافقُها كفقاعةٍ تحيطُ بها أينما حلَّت.

كنتُ قد تعوَّدتُ حتّى ذلك الحين مغادرتَها عالمَ الضوء، وفكّرتُ كثيرًا في حالها، وتوصّلتُ إلى أنّها تحضِّر نفسَها للرحيل إلى عالم الظلُمات الأبديّ.

***

أصواتُ القذائف والمدفعيّة، وأحيانا زئيرُ الصواريخ: هوايتي المفضّلة في الليالي الطويلة التي أجلسُ فيها وحيدًا على كرسيّي المفضّل، في الصالون، أُنقّي الأصواتَ من الهواء، أستأنسُ بها، أعدُّها، وأتخيَّلُ معنويّاتِ الجنود الذين يطلقونها. أحيانًا تثْبُتُ مخيِّلتي في وجهِ واحدٍ منهم، فأتخيّل ملامِحَه، وألتقط عينيْه الهاربتين على الدوام من النظر إلى الأشياء بشكل مباشر؛ وهو ما يحصل بعد وضعِ القذيفةِ وشدِّ الحبل لتنطلق. ربّما هي ثوانٍ قليلة، لكنّها كافيةٌ لأرى الفراغ.
أحداقٌ فارغةٌ، نادمةٌ، حنونةٌ، لكنّها مجوَّفة. كأنّ أحدًا جَرف جوفَها، كما تُجرفُ الأرحامُ من نطافٍ خاطئةٍ تجنُّبًا لولادةِ طفلٍ من نسغ الخطيئة. كأنَّها مجرَّفةٌ بحنكةِ طبيب، حتى غدت داميةً حمراءَ مجوَّفَةً، فيها يصدحُ صدًى بعيدٌ لذلك العويل الطويل.

لا يزال الوقتُ مبكّرا قليلًا على اشتداد المعركة؛ فالجنودُ الآن يُنهونَ عشاءهم. يشعلون سيجارةَ ما قبل المعركة. يدخّنونها بشراهة، شاردين في سُحُب دخانِها الملتوية. يهمسون بأغنيةٍ قديمةٍ، تقفزُ دندناتُها من أفواهِهم كصغارِ الجراد.
الجنودُ في الطرفين لا يَشغَلُهم الانتصارُ، بلِ الخلاصُ. في ذاكرةِ كلٍّ منهم دقائقُ شديدةُ الوضوحِ، يتذكّرونها جميعًا، كلٌّ على طريقته، رغمَ أنّها لم تأتِ بعد. إنّها الدقائقُ الأولى التي سيصلُ فيها كلٌّ منهم إلى عائلته، إلى بلدتِه أو قريته النائية، فيُجْلِسُه الأقاربُ في المنتصف، ويحدِّقون إليه بأعينهم المتعبة، كالتائهين الذين ينْظرون إلى نبيّ.

اللعنة!

هأنا أعودُ إلى استخدام الكلمات.

كنتُ قد قرّرتُ، منذ زمن، الكفَّ عن التفكير بالكلمات؛ ذلك أنّ أصوات القذائف جعلتني أشعرُ بلحظاتٍ أقوى من كلِّ كلماتِ الأرض.
أشعرتني لثوانٍ معدودةٍ شعورًا يأتي كالنشوة، أو كالفاجعة الخاطفة. ثوانٍ من الانتظار قبل سماعي صوتَ وقوعِها.

بعدَ تلك الثواني غالبًا ما تبدو لي الكلماتُ طافيةً على السطح كقطعٍ بلاستيكيّةٍ مستهلَكة. هناك، في أغوارِ بحيْراتنا ومستنقعاتنا، تنمو تلك الطحالبُ، النابضةُ بالشراسةِ والهوس، بالتشكُّلِ والاكتمال، بالوحشةِ والهرب.

يتراءى لي ذلك أيضًا كلّما استخدمتْ جدّتي الكلمات. فهي، على قلَّة كلامها، تهمس أحيانًا ببعض الكلماتِ كأنّها تدفِّئُ يديْ حفيدِها الصغير. ويقشعرُّ بدني حين تلفظُ بعضَها الآخرَ، كأنّها ذئبةٌ افترستْ حملًا وديعًا للتوّ. تلك الحشرجةُ، التي ترافق غرسَ الأنياب في اللحم، حشرجةٌ تحذِّرُ كلَّ الكائناتِ حولَها تحذيرًا لا رجعة فيه.

الكلمات، تلك الكائناتُ السحريّةُ التي قَصَصْنا أجنحَتَها وأسأنا معاملتَها، فذبُلَتْ بين أيدينا،
نشكِّلُ منها جُملًا طويلةً وقصيرة؛ جُملًا ــــ وإنْ بدتْ برَّاقةً أو ملوَّنة ــــ ما هي إلّا كلماتٌ ميِّتة محنَّطةٌ في معانٍ كالسُّجون.
إنّ كلَّ ما ننطقُ به ونكتُبُه هو استراحةُ السجناءِ في باحةِ السجنِ العميم.

***

ذلك ما أستغرقُ فيه طوالَ الليل.
والآن، إذ سمعتُ أوّلَ قذيفةٍ، سيكونُ وقتًا مدهشًا حتّى الفجر.
نهضتُ عن الكرسيّ. مشيتُ حتّى باب غرفة جدّتي. لويتُ عنقي قليلًا كي أسترقَ النظرَ إلى سريرها: إنّها تجلس في السرير بثبات، وقد أراحتها العتمة. إنّها عادةً لا تتحرّك. تسدِّدُ نظرَها الضعيفَ إلى السواد، وتتنفّس برتابة.
لا أظنُّها تفعلُ ذلك مصادفةً. إنَّها تقرأُ الموتَ. وربّما تكونُ قد ذهبتْ به حقًّا منذ زمن طويل.

أطمئنُّ على حالها وأحضّرُ عدَّةَ السهرة: مذياعيَ الإلكترونيَّ، وتبغي، وزجاجةَ ماءٍ كبيرةً، مع ركوةٍ كبيرةٍ من القهوة.

كنتُ قد ابتعتُ زجاجة فودكا رخيصةً لهذه الليلةِ، التي توافق السابع والعشرين من تمُّوز، تاريخَ مولدي في هذا العالم. قبيلَ فجرِ هذه الليلة، سأشربها مع القهوة.

***

بدأت الجوقةُ بإطلاق القذائف. بعد قليل، ستبدأُ المدفعيَّةُ الثقيلةُ، وربّما الصواريخُ أيضًا.
على عجلٍ شربتُ زجاجةَ الفودكا، محاولًا الهربَ من تلك اللحظات المتعاقبة التي تحاصرُني بين إطلاقِ القذيفةِ وسقوطِها. تذكّرتُ عائلتي، لحظاتي الحميمةَ مع زوجتي، وعدتُ من جديدٍ أفكِّرُ بالكلمات.

القذائفُ تشتدُّ، والفجرُ على وشكِ الطلوع، وأنا أنظِّفُ رأسي من كلِّ شيء.
فجأةً، رأيتُ وجهَ ذلك الجنديّ مجدَّدًا. نظرتُ مليًّا في وجهه. كان يتهرّب من النظر إليّ. أمسكْتُه من ياقته وصرختُ به:

ــــ اسمعْ، يجب أن تنظرَ في وجهي جيّدًا، في عينيَّ، لكي ترى أنّ الحربَ حالما دخلتَ بها لن تقودَكَ مجدَّدًا إلى الحياة. هل تفهم؟

وأنا أهزُّه بعنفٍ، رفع رأسَه ونظر في وجهي مباشرةً، بأحداقِه الفارغةِ والمجرَّفةِ والمدمّاة. فذهبْتُ في الدهشةِ، ولم أعدُ منها.
لقد عرفتُهُ!

إنّه أنا.

دمشق

 

موفّق مسعود

قاصّ ومسرحي وسيناريست سوريّ، ولد سنة 1967.

من أعماله المنشورة: الغريق السومري (مجموعة قصصيّة 2002)، غوايات البهاء وكأس سقراط الأخيرة (مسرحيّتان 2008)، الرجل الدائريّ (مسرحيّة 2008)، وله العديد من الإسهامات المسرحيّة تأليفًا وإخراجًا.