كيف صدرتْ مجلّةُ الآداب
19-02-2018

 

في الذكرى العاشرة لرحيل مؤسّس الآداب، الدكتور سهيل إدريس، اخترنا أن يُطلّ بنفسه على قرّائه الذين أحبّوه واشتاقوا إليه. المادّة أدناه مستلّةٌ من جزءٍ ثانٍ من سيرته الذاتية، ذكريات الأدب والحبّ (صدر الجزء الأول سنة 2002)، وهو جزءٌ بدأ بإملائه علينا سنة 2005، ولم يستطع إنهاءه بسبب الحرب التي شنّها العدوُّ الإسرائيليّ على لبنان صيفَ العام 2006. ثم ساءت حالُ سهيل الصحّيّة، وبدأ بجلساتِ غسل الكليتيْن، قبل أن يرحلَ عن دنيانا في شباط 2008.

هذه السطور تخصّ مرحلةَ نشوء الآداب عام 1953. بعضُ ما فيها معروفٌ لدى متابعي إدريس، وبعضُها جديد، وهي في مجملها تعبيرٌ عن العذابِ العذْب الذي تنكّبه أحدُ أبرز الفاعلين الثقافيين العرب من أجل بناء منبرٍ يعبِّر عن "أدب الالتزام الذي ينبع من المجتمع العربيّ ويصبّ فيه" على ما جاء في افتتاحيّة العدد الأول سنة 1953.

الآداب

***

طوال الرحلة التي قضيتُها على ظهر الباخرة العائدة بي من مرسيليا إلى بيروت، أواخرَ شهر أيّار (مايو) 1952، كنتُ أفكّر في المجلّة التي سأصدرها في مطلع 1953.

كانت الآداب، وكنتُ قد عزمتُ منذ أشهرٍ على إطلاق هذا الاسم عليها، حلمًا يراودني ويَقطع عليّ، في كثيرٍ من الأحيان، الأفكارَ التي كانت تشغلني في إعداد رسالة الدكتوراه الجامعيّة في جامعة السوربون في باريس.

صحيحٌ أنّ تجربة الصحافة التي كنتُ قد عشتُها في بيروت، بين جريدة بيروت اليوميّة وبيروت المساء والصيّاد الأسبوعيّتيْن، لم تخلِّف لديّ الرضى والاقتناع، وأنّ قراري التخلِّي عن العمل الصحفيّ الذي استغرقني سبعة أعوام (1942 ــــ 1949) كان مبعثه إيماني بأنّ هذه الصحافة ستقضي فيّ على الأديب، فإنّ تفكيري في إصدار مجلّةٍ شهريّةٍ تُعنى بشؤون الفكر كان يَصْدر عن رؤية مختلفة تركِّز على أرقى ما يمكن أن تُنتجه الأقلامُ العربيّةُ الحديثة، وتحمل رسالةَ الأدب العربيّ في أعلى ما يمكن أن يصبو إليه.

والواقع أنِّي إنّما عملتُ في الصحافة اليوميّة والأسبوعيّة بدافعٍ من حاجةٍ مادِّيَّة. ذلك أنّ أبي كان ينوء بأعباء أسْرةٍ تتألَّف من سبعة أفراد، بالإضافة إلى أمّي. وكان أخي الأكبر قد ترك المدرسة، لا تحت ضغطِ هذه الحاجة المادِّيّة وحدها، بل لأنّه كذلك لم يكن يطيق المدرسةَ والكتاب. وقد عمل في متجرِ خالٍ لنا، كان ذا حسٍّ تجاريٍّ عميق. بيْد أنّ الراتب الذي كان أخي يتقاضاه كان أعجزَ من أن يفي بالمساعدة المطلوبة التي يحتاجها أبي للقيام بأَوَدِ الأُسرة الكبيرة.

ثمّ طرأ على أبي ما قلّص راتبَه إلى النصف، بسبب واقعةٍ كنتُ أنا "بطلَها." فأحدثتْ لديّ أزمةً ضميريّةً جعلتني أبحث عن عملٍ يعوِّض بمردوده المادّيّ بعضَ الخسارة التي أصابها أبي بسببي.

فقد اضطرّ أبي، بعد كارثة الإفلاس في تجارة الحبوب [الفول] التي كان يتعاطاها، إلى القبول بوظيفة إمامٍ في مسجديْن من مساجد بيروت، كان يؤُمُّ مُصلِّي العصر والمغرب في أحدهما، ومصلِّي الفجر في الآخر. وكنتُ آنذاك طالبًا في "الكلّيّة الشرعيّة" في بيروت، التي كان يرأسُها مفتي الجمهوريّة الشيخ توفيق خالد، ويُشْرف في الوقت نفسه على "الأوقاف الإسلاميّة،" وهي الدائرة المسؤولة عن المساجد وموظّفيها ــ ــ من أئمّةٍ ومؤذِّنين وخَدَم.

وحين اعتزمتُ التخلِّي عن الزيّ الدينيّ الذي كنتُ أرتديه، بعد أن أنهيتُ دراستي في الكلّيّة الشرعيّة، وخلعتُ الجبّةَ والعمّةَ اللتين لازمتاني طوال خمسة أعوام من حياتي، غضب رئيسُ الكلّيّة غضبًا شديدًا. فكان أن انتقم من أبي، إمامِ المسجدِ الذي "لم يحسنْ تربية ابنه" ولم "يَثْنِهِ عن عمله المنكر" حين خلع زيَّ المشْيخة، فأوعز بحسم نصفِ راتبه، إلى أن يرتدع ابنُه عن "غيِّه" ويعود إلى "جادّة الصواب."

اشتدّت الأزمةُ المادّيّة في أسرتنا، فكان لزامًا عليّ أن أفكّر في الإسهام بالميزانيّة الشهريّة.

حضرت ذات مساء جلسةً عائليّةً التقيتُ فيها الأستاذ محيي الدين النصولي، صاحبَ جريدة بيروت الذي لم أكن أعرفه، فأبلغني أنّه قرأ لي مقالةً قصيرةً في مجلّة الأمالي، التي كان يصدرها الدكتور عمر فرّوخ، وعرض عليّ العملَ في جريدته. لم أتردّد لحظةً في القبول، مع أنّ دراسة الحقوق التي كنتُ قد بدأتُها بعد نجاحي في شهادة البكالوريا (قسم الفلسفة) كانت تستغرق كلَّ وقتي وجهدي. وبعد ذلك ببضعة أشهر اتّصل بي سعيد فريحة، رئيسُ تحرير الصيّاد، عارضًا أن أشاركَ في تحرير مجلّته. وهكذا انغمرتُ في العمل الصحفيّ، وفي يقيني أنّ الفرصة ستتاح لي لممارسة الكتابة الأدبيّة، ولاسيّما في القصّة والنقد. وعلى الرّغم من أنّ عملي في جريدة بيروت، ثمّ في شقيقتها بيروت المساء الأسبوعيّة، كان ذا تأثير إيجابيّ على مسيرتي الأدبيّة، فإنّ عملي في الصيّاد ضيَّق عليّ آفاقَ الأدب، لأنّ سعيد فريحة كان يُصرُّ على التدخُّل في إنتاج كلِّ كاتبٍ يتعاون معه في مجلّته بحجّة حرصه على المحافظة على خطّها، وكان لا يحبّ القصّة الفنيّة القصيرة، ويحرمني نشرَ ما أكتب من ألوانها، طالبًا منّي أن أقتصر على النقد السريع والمقالِ الخفيف و"بريد القرّاء" وما إلى ذلك. وكان من تأثير عملي في هذه المجلّة مدّةَ سبع سنوات أن كرهتُ الصحافة الأسبوعيّة، وأيقنتُ أنّ الصحافة ــ إذا لم يشرفْ عليها مثقّفٌ واعٍ ــــ تسيء إلى الأدب وتعودُ عليه بأوخم الأضرار.

 

                                          سعيد فريحة

 

بيْد أنّ التعويض الذي كنتُ أتقاضاه من العمل الصحفيّ استطاع أن يخفِّف من الضائقة الماليّة التي عاشتها أسرتي، وأن يقلِّص من الأزمة الضميريّة التي نشأتْ من جرّاء حرمان أبي نصفَ راتبه طوال عامين أو ثلاثة، على الرّغم من أنّ هذا العمل الصحفي كان سببًا في صرفي عن إتمام دراسة الحقوق بعد أن رسبتُ في الامتحان الشفهيّ في السنة الأولى.

(...)

***

من يوميّاتي

باريس، 17 آذار 1952

تلقّيتُ اليوم الرسالةَ التي كنتُ أنتظرها منذ أسابيع، جوابًا على رسالتي إلى الصديقيْن منير البعلبكي وبهيج عثمان، صاحبيْ دار العلم للملايين في بيروت.

أفرحتني موافقتُهما على ما عرضتُه عليهما من مشاركةٍ في تأسيس مجلّةٍ شهريّةٍ تستقطب أدباءَ العروبة، وتحمل رسالةَ الفكر القوميّ التقدّميّ.

وإذن، فهل أستطيع أن أستبعدَ القلقَ الذي كنتُ أعانيه من حيث الدعمُ الماليّ للمشروع؟ إنّ المجلة ستصدر عن دارٍ ناجحةٍ في النشر والتوزيع، وكانت قد نشرتْ لي، في الأعوام 1947 و1948 و1949، مجموعاتي القصصيّة الأولى، أشواق ونيران وثلوج وكلُّهنّ نساء، فدفعتُ نفقاتِ أولاها وشاركتُ في تكاليف الأُخرييْن. وكانت الدار نفسُها قد قامت بنشر الكتاب الأوّل الذي ترجمتُه عن الفرنسيّة تحت عنوان ما يجب ألّا يجهلَه كلُّ شابّ، فنالت مؤلَّفاتي الأولى رواجًا محدودًا، وحظي الكتابُ المترجَم ــــ ضمن سلسلةٍ تتناول الهمومَ الاجتماعيّةَ، ومنها الهمُّ الجنسيّ ــــ إقبالًا جيّدًا.

حين فرغتُ من قراءة رسالة الصديقيْن بالموافقة على فكرة المشروع، قلت في نفسي: "حسنًا! لنَنْسَ القلقَ الماليّ الآن، ولنواجهِ القلقَ الأدبيّ!"

لم تكن لديّ أوهامٌ في أنّي مُقدمٌ على مشروعٍ كبير، أحتاج فيه إلى دعمٍ وثيقٍ من أقلامٍ قديرةٍ كنتُ أحبُّها وأقرأ لها في المجلاّت الأدبيّة والصحف الأسبوعيّة. فكيف السبيل إلى استمالتها وإقناعِها بالإسهام في إطلاق الآداب؟

وبدأتُ أتصوّر لائحةً أوّليّةً بأسماء الأدباء العرب الذين سأطلب مساعدتَهم، وسأعرض عليهم أن يكونوا في هيئة تحرير الآداب.

سيساعدني منير وبهيج في اختيار أعضاء هذه الهيئة؛ فلهما أصدقاء كثيرون ممّن يتعاونون مع دار العلم للملايين في نشر مؤلَّفاتهم، ولهما خبرةٌ مشهودٌ لها في النشر والتوزيع.

وكان لا بُدّ من أن أضمِّن رسائلي إلى الأدباء العرب الخطوطَ العريضةَ لـ"رسالة الآداب،" وستكون هذه الخطوط أشبهَ ببرنامج انتخابيّ أقدّمه إلى الأدباء والقرّاء، كما يقدِّم المرشَّحُ إلى النيابة برنامجًا إلى ناخبيه.

أتراني سأنجح في دخول عالم الأدب، عبر "مجلس الصحافة الأدبيّة،" أمْ سيخذلني الأدباُء والقرّاءُ في معركة الآداب القادمة؟

***

لم يكن لي همٌّ، حين عُدت إلى بيروت في مطلع صيف 1952، إلّا الاستعداد لإصدار المجلّة في مطلع 1953.

أَخْلت دارُ العلم للملايين غرفةً من غرف مكتبها في شارع سوريا، في الخندق الغميق، لتَحلَّ فيها شريكتُها الآداب ورئيسُ تحريرها، الذي سيكرّس جهدَه للجانب التحريري، وتتولّى دارُ العلم الجانبيْن الإداريَّ والماليّ.

وتداول الشركاءُ الثلاثة في رأس المال الذي سيوضَع للمجلّة، فاتّفقوا على أن يكون ستّةَ آلاف ليرة لبنانيّة، أدفعُ منها الثلثَ، ويَدفع الثلثيْن الشريكان الآخران.

ولم يكن يعنيني أن يكون نصيبي المادّيّ في الشركة أكبرَ أو أصغر؛ فالمهمّ أن تصدرَ المجلّة ويتحقّقَ الحلم. ولن أجعل الآداب موردَ رزقٍ لي، وإنْ كنتُ أريدها ألّا تعودَ علينا بالخسارة فأُضطرَّ إلى "الاقتراض" ممّا سيردُّه عليّ التدريسُ الجامعيّ أو التأليفُ والترجمة ــــ وكنت أُعدُّ نفسي لها جميعِها ليقيني الكاملِ بأنّ الآداب لن تستطيع أن تقوم بالأود.

وفي صيف ذلك العام 1952 رأيتُ أن أُفيدَ من الخبرة الصحفيّة التي كان يتمتّع بها المشْرفون على الصحيفتين اللتين عملتُ فيهما قبل سفري إلى باريس. فدعوتُ إلى الغداء في مصيف "عَيْناب،" الذي كانت الأسرةُ تقضي فيه الصيفَ منذ أعوام، كلًّا من محيي الدين النصولي وعبد الله المشنوق وأنيس النصولي، أصحاِب جريدة بيروت، ومحمّد النقّاش، أحدِ أصدقاء العمر القلائل الذين أحبُّهم وأحترمُهم ويمحضونني ودًّا عميقًا لا يمكن أن تشوبه شائبة ــ وقد كنّا زميليْن في كلّ من بيروت والصيّاد سنين طويلة.

كتب محمّد النقّاش يتحدّث عن ذلك اللقاء في عَيْناب، يقول:

"لما التقيتُ بصديقي الدكتور سهيل إدريس في باريس ربيعَ 1951، وكان مُكبًّا على عمله الدراسيّ في السوربون، يَجمع المصادرَ والوثائقَ لأطروحته عن القصّة العربيّة الحديثة ومدى تأثّرها بأدب الغرب، يَسْلخ من ربيع عمره ومن أيّام باريس الحافلة عشراتِ الساعات في اليوم، سألتُه وقد هالني هذا الجهد يبذله في الدرس والتحصيل، بعد أن شقّ لنفسه في الصحافة والأدب طريقًا تحفُّ به الآمال، وتلوح في آفاقه الوعود:

ـــــ ما عساك فاعلًا حين تعود؟

وجاء الجواب واضحًا شفّافًا كنفس سهيل:

ـــــ لا أعرف ما الذي سأفعله على وجه التحقيق لكسب معاشي. لكنْ أعرفُ بالتأكيد أنّ هناك شيئًا لن أفعلَه، وهو أن أعودَ إلى الصحافة اليوميّة، وأنّ شيئًا سأفعله، وهو أن أُصدر مجلّةً أدبيّةً؛ مجلّةً تُعنى بالأدب وحده، بأرقى ما يمكن أن تنجبَه الأقلامُ العربيّةُ الحديثة؛ مجلّةً تحمل رسالةَ الأدب العربيّ في أعلى ما يمكن أن يصبو إليه.

وأذكرُ أنّي وافقتُ سهيلًا على الشطر الأوّل، وأبديتُ مخاوفي من الشطر الثاني؛ إذ كيف تُكتب الحياةُ في بلدنا لمجلّةٍ من هذا الطراز الذي ينتويه؟ ورحتُ أعدِّد المصاعبَ المعنويّة والمادّيّة ـــــ لا سيّما المادّيّة ــــ التي لا بدّ أن تقف حجرَ عثرةٍ في وجه المشروع.

وعاد سهيل ـــــ الدكتور سهيل هذه المرّة ـــــ إلى بيروت في مطلع صيف 1952، وسألتُه مجدّدًا عمّا ينوي أن يفعل، فقال: "المجلّة التي حدّثتك عنها."

وعاودتُ الكرّةَ أحاول تثبيطَ همّته وثنيه عن عزمه، خاشيًا عليه أن يضيِّع في المجلّة كلَّ أتعابه في أعماله الثانية من تدريسٍ وإذاعةٍ وتحرير. وكان الجواب:

ـــــ هذا موّالٌ يدوّي في رأسي، ولا مفرَّ من أن أغنِّيه.

وفي منتصف ذلك الصيف تغدّيْنا، أنا ومحيي الدين النصولي وعبد الله المشنوق وأنيس النصولي، على مائدة سهيل فوق كتفٍ من أكتاف عيْناب الهادئة، ودفعنا له ثمنَ الغداء اللّطيف، متضامنين متكافلين، معزوفةً من التثبيط. وكان قائد الجوقة الأستاذ المشنوق، الذي دخل في التفاصيل، واستَشهد بالأرقام، ليعلن في النهاية إفلاسَ سهيل إدريس إذا ما أصرّ وأَقدم على إصدار المجلّة الجميلة البديعة العظيمة، لكن الخاسرة!

ولا أدري إذا كان سهيل قد نَدِمَ إذ أضافنا ذلك اليوم. لكنّه على أيّ حال لم يغيّرْ فكرَه، وظلّ الموّالُ في رأسه أقوى من معزوفتنا.

واليوم، وبعد شهور، يطلب إليّ صديقي سهيل إدريس، رئيسُ تحرير الآداب، أن أروي انطباعاتي عن العدد الخامس. العدد الخامس! سامع يا محمّد، يا عبد الله، يا أنيس، يا محيي الدين؟ خمس أصابع في عينَي الشيطان!

هل يربح سهيل؟ هل يخسر؟ هل يرسمل؟ لا أعرف! لكنّ الذي لا شكّ فيه أنّه، مثل شيخ همنغواي،(1) قد ضَرب في البحر، واندفع في عرضه إلى أبعد ما يستطيع، وصاد سمكةً جميلةً ضخمة. ومن حسن الحظّ أنّه لم يذهب وحيدًا، ولم يذهب معه غلام، بل ذهب معه صيّادان مثله، هما الصديقان منير البلعبكي وبهيج عثمان. وقد استطاعوا جميعًا أن يردّوا عن السمكة أذى الأقراش حتّى الآن، وليس ما يَمنع أن يردّوا هذا الأذى في بقيّة الطريق.

إنّ الأصدقاء الثلاثة الذين جمعتْهم في الماضي أكبرُ من صلةٍ يناضلون اليوم في قاربٍ واحد. ولسنا نَمْلك، بعد أن رأينا صيدَهم، إلّا أن نعترفَ بأنّنا كنّا على خطأ وأنّهم كانوا على صواب."(2)

***

فور عودتي من باريس إلى بيروت، في مطلع ذلك الصيف، كتبتُ إلى زهاء ثلاثين كاتبًا عربيًّا، فيهم الشاعرُ والباحثُ والروائيُّ والقصّاص، أحدّثُهم عن مشروع الآداب، وأنقلُ إليهم الخطوطَ الكبرى من رسالتها الأدبيّة، وأطلبُ منهم الانضمامَ إلى هيئة التحرير. وقد أعانني في الاتصال ببعض هؤلاء الأدباء زميلاي في المجلّة، البعلبكي وعثمان، وصديقي في مصر، أنور المعدّاوي.

[هنا ينقل سهيل إدريس، على امتداد أكثر من 12 صفحة، رسائلَ أنور المعدّاوي، وعبد الله عبد الدائم، ومحمود المسعدي، وتوفيق يوسف عوّاد، وخليل تقيّ الدين، وفؤاد الشايب. ويعلِّق على رسالة الأخير بقوله إنّها "مرهِصة بكلِّ ما يعيشه المواطنُ العربيّ عامّةً، والمثقفُ الواعي خاصّةً، من تمزّق الروح والوجدان." ثم يستأنف]:

أليس ذلك التمزّقُ هو الذي ألهب الوعيَ الذي خلقتْه في نفسي هزيمةُ العرب في فلسطين عام 48؟

في تلك الفترة، كان وعيي يعمَّق بضياع الإنسان العربيّ بين زيفِ الأنظمة والحكّام وتخلّفِ المجتمع الذي يعيش فيه، ويروح القلقُ يمزّق نفسي، وتروح أسئلةُ الاستفهام تنهال عليّ: ما شأني في هذا المجتمع؟ أيُّ دورٍ يمكن أن أنهضَ به فيه؟ كيف لي أن أشاركَ في معاونة هذا الإنسان العربيّ ليتحرّر من ضياعه، ويعرفَ طريقه؟ أليس للمثقّف العربي من مهمّة في ذلك الواقع الفاجع؟

وإذن، فإنّ هزيمة فلسطين هي السوطُ الذي لسع ضمائرَنا، وهي التي دفعتني إلى التمرّد على واقعي، فعزمتُ على أن أخرجَ من هذا الواقع، وأن أثورَ على المجتمع العربيّ، وأن أبتعدَ عنه، لا فرارًا ولا غيبوبةً، بل لمحاولة اكتساب مزيدٍ من العلم والمعرفة والتجربة يمكّنني من القيام بدورٍ ثقافيّ في خدمة الوطن العربيّ، الذي كان رازحًا تحت أثقال تلك الهزيمة الكبرى التي لم يعرف تاريخُنا ما هو في مثل فظاعتها وإذلالها.

استقلتُ من عملي في الصحافة في بيروت، وتدبّرتُ منحتيْن دراسيّتيْن: أُولاهما من وزارة التربية، بدعمٍ من واصف بارودي، مديرِ التربية آنذاك؛ والأخرى من جمعيّة المقاصد الإسلاميّة، بدعمٍ من أنيس النصولي، الذي كان رئيسًا للجنة المدارس فيها.

سافرتُ إلى باريس. وطوال ثلاثة أعوام (1949 ــ 1952) قضيتُها في العاصمة الفرنسيّة، عشتُ الأدبَ والثقافةَ والفكر، ولكنّي عشتُ الحياةَ كذلك؛ وسيكون لذلك حديثٌ آخر.

كنتُ أقضي أيّامًا بطولها في مكتبة السوربون. وقد قرأتُ من الكتب الفرنسيّة في ثلاث سنواتٍ ما لا أحسب أنّ كثيرًا من العرب قد استطاعوا أن يقرأوه في هذه الفترة. وقرأتُ كثيرًا من الروايات والقصص العربيّة التي كانت موضوعَ رسالة الدكتوراه، القصّة العربيّة الحديثة والتأثير الأجنبيّ عليها من 1900 إلى 1950.

ولا شكّ في أنّ نظريّة "الالتزام،" التي كانت سائدةً في تلك الفترة في الآداب العالميّة كلّها، قد تجاوبتْ أعمقَ التجاوب مع التوجّه الفكريّ الذي كان يقودني بدافعٍ من خدمة الثقافة العربيّة المعاصرة. وكان تأثيرُ هذه النظريّة واضحًا في الخطّة التي وضعتُها لـ الآداب، وهي تقوم على الأسس الكبرى التالية:

"تؤمن المجلّة بأنّ الأدب نشاط فكريّ يستهدف غايةً عظيمةً: هي غايةُ الأدب الفعّال الذي يتصادى ويتعاطى مع المجتمع، إذ يؤثِّر فيه بقدرِ ما يتأثّر به. والوضعُ الحاليّ للبلاد العربيّة يَفرض على كلّ وطنيّ أن يجنِّد جهودَه للعمل، في ميدانه الخاصّ، من أجل تحرير البلاد ورفع مستواها السياسيّ والاجتماعيّ والفكريّ. ولكي يكون الأدبُ صادقًا، فينبغي له ألّا يكون في معزلٍ عن المجتمع الذي يعيش فيه.

 

                                                              رسالة الآداب

"وهدف المجلّة الرئيس أن تكون ميدانًا لفئة أهل القلم الواعين، الذين يعيشون تجربةَ عصرهم، ويُعدّون شاهدًا على هذا العصر: ففيما هم يعكسون حاجاتِ المجتمع العربيّ، ويعبِّرون عن شواغله، يشقّون الطريقَ أمام المصلحين لمعالجة الأوضاع بجميع الوسائل المجدية. وعلى هذا، فإنّ الأدب الذي تدعو إليه المجلّة وتشجّعه، هو أدبُ الالتزام الذي ينبع من المجتمع العربيّ ويصبّ فيه.

"والمجلّة، إذ تدعو إلى هذا الأدب الفعّال، تحمل رسالةً قوميّةً مثلى. فتلك الفئة الواعية من الأدباء، الذين يستوحون أدبَهم من مجتمعهم، يستطيعون على الأيّام أن يخلقوا جيلًا واعيًا من القرّاء يتحسّسون بدورهم واقع مجتمعهم، ويكوّنون نواةَ الوطنيين الصالحين. وهكذا تشارك المجلّة، بواسطة كتّابها وقرّائها، في العمل القوميّ العظيم، الذي هو الواجب الأكبر على كلّ وطنيّ.

"على أنّ مفهومَ هذا الأدب القوميّ سيكون من السَّعة والشمول حتّى ليتّصل اتّصالًا مباشرًا بالأدب الإنسانيّ العامّ، ما دام يعمل على ردّ الاعتبار الإنسانيّ لكلّ وطنيّ، وعلى الدعوة إلى توفير العدالة الاجتماعيّة له، وتحريره من العبوديّات المادّيّة والفكريّة ــــ وهذه غايةُ الإنسانيّة البعيدة. وهكذا تُسهم المجلّة في خلق الأدب الإنسانيّ الذي يتّسع ويتناول القضيّة الحضاريّة كاملةً. وهذا الأدب الإنسانيّ هو المرحلة الأخيرة التي تَنشدها الآدابُ العالميّة في تطوّرها (...) (3)

***

هذه الخطّة، بأسسها الكبرى، تضمّنتها رسائلي إلى جميع الأدباء والمفكّرين الذين كتبتُ لهم، أصدقاءَ شخصيين كانوا أو أصدقاءَ شريكيّ في دار العلم للملايين. وكان الذين وافقوا على الانضمام إلى هيئة تحرير الآداب اثنين وعشرين، فيهم المفكّرُ والشاعرُ والناقدُ والقصّاص. وهم:

أحمد سليمان الأحمد، علي أدهم، ذو النون أيّوب، منير البعلبكي، خليل تقي الدين، شكيب الجابري، جورج حنّا، شاكر خصباك، رئيف خوري، عبد العزيز الدُّوري، قسطنطين زريْق، أحمد زكي، فؤاد الشايب، عبد الله عبد الدائم، مارون عبّود، عبد الله العلايلي، توفيق يوسف عوّاد، نبيه أمين فارس، شكري فيصل، نزار قبّاني، صباح محيي الدين، أنور المعدّاوي.

كانت الغاية من "تنصيب" هيئة التحرير هذه إبراز توجّه الآداب توجّهًا قوميًّا عربيًّا يرفض التمييزَ الدينيّ والتمييزَ الإقليميّ. ولكنّ السؤال الذي ناقشناه آنذاك كان: كيف يستطيع هؤلاء الأدباء جميعًا، في مختلف أقطارهم العربيّة، أن يشاركوا فعليًّا في الإشراف على المجلّة كما توحي عبارة "هيئة التحرير"؟

الواقع أنّي كنتُ أقدِّر الصعوبةَ الكبيرة في تحقيق هذه المشاركة، إنْ لم تكن الاستحالة، ولكني كنتُ أعتزم الكتابة إلى جميع أعضاء "هيئة التحرير" أستشيرهم في كلّ ما تتطلّبه المجلّةُ من تطوير، وأسألهم رأيَهم في ما يُنشر في أعدادها تباعًا. غير أنّ تجربة السنة الأولى لم تكن مشجِّعة: فإعدادُ المجلّة، وقراءةُ المادّة التي كانت تنهال عليّ، وتخصيصُ قسمٍ من وقتي للتدريس في الجامعة اللبنانيّة وفي كلّيّة المقاصد الإسلاميّة، وشروعي في كتابة الرواية والقصّة والترجمة ـــــ كلُّ ذلك جعلني أستأذن أعضاءَ "هيئة التحرير" في صرف النظر عنها. وهكذا اختفت لافتة "هيئة التحرير" في مطلع السنة الثانية من الآداب.

بيْد أنّ جميع هؤلاء الكتّاب والأدباء ظلّوا ـــــ ما داموا على قيد الحياة ــ أوفياء للمجلّة التي استعانت بهم لتحقّقَ انطلاقَها وانتشارَها، بعكس كثيرين من الذين "استعانوا" بها ليحقّقوا انطلاقهم وانتشارهم ثمّ جازَوْها بالعقوق!

***

من يوميّاتي

عيْناب، 27 أيلول 1952

منذ أيّام وأنا في فرحةٍ غامرة. إنّ المادّة التي بين يديّ تغطّي، في تقديري، أكثرَ من ثلاثة أعدادٍ من المجلّة. وأنا أنتظر بعدُ كثيرًا من الدراسات والقصائد والقصص التي وعدني الأدباءُ العرب بموافاتي بها للعدد الأوّل. والحقّ أنّني الآن في "ربكة الاختيار،" كما يقول الفرنسيّون.

ولكنّ القلق الذي ينتابني، منذ أن تركتُ مكتبي في دار العلم للملايين أمس الأوّل، كان يمتُّ إلى تسديد نصيبي في رأس مال الشركة. لقد طالبني شريكاي ـــــ مرّةً أخرى ـــــ بدفع المبلغ إلى الصندوق المشترك حتّى يتسنّى شراءَ الورق وتصفيفَ الموادّ. وطلبتُ تأجيلَ الدفع بضعةَ أيّام أخرى لأنّني لم أتمكّن بعدُ من جمع المبلغ المطلوب. وكنتُ أنتظر أن تصلني تعويضات بعض الأحاديث التي أذيعت لي من الإذاعة اللبنانيّة ومن "محطّة الشرق الأدنى" لأضيفَها إلى ما كنتُ قد وفّرتُه من بعض هدايا ماليّةٍ قدّمها إليّ أقرباء بمناسبة حصولي على الدكتوراه.

 

              منير بعلبكي

 

كنتُ واقفًا على شرفة منزلنا الصغير (الذي كان يملكه أخوالي في عيْناب وكانوا يدعوننا إلى قضاء الصيف فيه) أتطلّع إلى مياه المتوسّط البعيدة، حين أحسستُ بيدٍ على كتفي. قلتُ في نفسي، من دون أن أرفع بصري، إنّها، لا ريبَ، يدُها هي، تلك التي تمتدّ إليّ دائمًا حين أحتاجُ إليها؛ يدُ أمّي، سهيْلة.

قالت ما كنتُ أنتظر أن تقوله:

ــ أراك قلقًا. هل هناك عراقيل تعترض المجلَّة؟

كانت أمّي معنيّةً بكلّ أمرٍ من أموري. كنتُ أحسّ بأنّ حبّها لي يفوق حبَّها لإخوتي جميعًا. أيكون ذلك لأنّي حصّلتُ في الدراسة، على تقطّعها، ما لم يبلغْه أحدٌ منهم، وأنّي حقّقتُ بذلك حلمًا لها بأن تمضي في دراستها حتّى تبلغ المرحلةَ الجامعيّة، فحال دون ذلك زواجُها المبكّرُ بأبي؟

لقد رعت أمّي خطواتي المبكّرة في الكتابة، كما رعت خطواتي المتعثّرة في الطفولة. كنتُ أقرأ لها كلَّ ما أكتبُه، فتشجّعني على الاستمرار، ولا تضنّ عليّ أحيانًا بالتعبير عن إعجابها. ومع الزمن، جعلتُ أحسّ بأنّ أمومتَها كانت تزدوج بالصداقة. وهكذا أصبحتْ أمّي سهيلة صديقتي كذلك.

لم يدهشْني أن تطرح سؤالَها الثاني قبل أن أجيب على الأوّل:

ـــــ لم تجمع بعدُ نصيبَكَ في رأس مال المجلّة، أليس كذلك؟

وحين لم أجب، مدّت إليّ يدَها:

ـــــ هذا هو السوارُ الثاني. بِعْهُ وسدِّدْ ما عليك!

حين كنت أعانقها، وأنا أرتعش، تذكّرتُ السوارَ الذهبيَّ الأوّل الذي أعطتني إيّاه منذ ثلاثة أعوام، قبل سفري إلى باريس، وأوصتني بأن أحتفظ بثمنه، "لحين الحاجة وأنتَ في الغربة."

ومرّتين، أحسستُ بالحاجة ـــــ الشديدة ـــــ وأنا في الغربة: أُولاهما حين تأخّر وصولُ قسط من المنحتيْن المخصّصتيْن لي في بيروت، وظلّت مديرةُ الفندق، الذي أسكن غرفةً صغيرةً على سطحه تجاه الپانتيون في باريس، تطالبني بأجرة الأشهر الستة التالية، بعد انقضاء أسبوعين على انتهاء الستّة الأولى المدفوعة الأجرة، فدفعتُ لها ثمنَ السوار الذهبيّ الأول.

والمرّة الأخرى هي تلك التي كنتُ أعاني فيها ضيقًا شديدًا في باريس، بسبب نفاد مصروفي قبل الأوان، وامتناعي عن الاقتراض من أصدقائي. ففوجئتُ، ذات صباح، برسالةٍ في علبة غرفتي في الفندق، كانت فيها دعوةٌ من المصرف إلى قبض حوالةٍ وردتْ باسمي من بيروت. وأعلمني المصرفُ أنّ المبلغ ـــــ الذي هبط عليّ من السماء ـــــ كان من صديقي... محمّد النقّاش. يا إلهي! كيف عرف محمّد أنّني أعاني؟

حين أردتُ، لدى عودتي في أوّل ذلك الصيف، أن أردّ "الدَّيْن" إلى النقّاش، رفض رفضًا باتًّا وهو يقول: "لم يكن ذلك ديْنًا، بل كان هديّةً صغيرةً منّي."

سألتُ أمّي:

ـــــ أتذكرين السوارَ الأوّل؟ إنّكِ تطوّقين عنقي أبدًا بأساورِكِ!

قالت وهي تهزّ رأسَها باستسلام:

ـــــ انتهت الأساور. ستعتمد، بعد الآن، على قلمك.

***

من يوميّاتي

23 كانون الأوّل 1952

ظللتُ أنتظره حتى السادسة، ثمّ غادرتُ المكتب بعد أن تلفن لي مديرُ المطبعة قائلًا إنّ العدد تأخَّر في التجليد، وسيحمل إليَّ في البيت ثلاثَ نسخٍ منه فورَ صدوره.

حوالى الساعة الثامنة، دُقّ بابُ منزلي، فتناولتُ من مدير المطبعة رزمةَ النسخ الثلاث وأنا أشكرُه. ثمّ دخلتُ غرفتي، وأغلقتُ خلفي البابَ.

 

 

جلستُ على الأريكة، متهيِّبًا أن أفتحَ الرزمة. ثمّ تمهّلتُ في فضّ ورقتها.

وبرز لي غلافُ العدد الأوّل من الآداب، وعليه صورةُ الشاعر علي محمود طه.

تناولتُ العددَ بيدٍ ترتجف.

أحسستُ دمعةً تغشى عينيّ. أتراني دخلتُ غرفتي وأغلقتُ خلفي الباب حتّى لا يراني أحدٌ أبكي؟

بعد لحظات، دخلتْ هي الغرفة.

تناولتْ على يميني عددًا منها. وجلستْ إلى يساري، وأخذتْ تقلّبه.

ثمّ ضمّتني إلى صدرها وقالت بصوتٍ مُخضلّ:

ـــــ مبروك!

ابتسمتُ وأنا أمسح دمعتي.

عن يساري، كانت أمّي سهيلة. وعن يميني، ابنتي الآداب.

بيروت

(1) المقصود أرنست همنغواي في روايته الشهيرة، الشيخ والبحر.

(2) العدد الخامس من مجلّة الآداب.

(3) لقراءة "رسالة الآداب" كاملةً، راجع العددَ الأوّل منها سنة 1953: http://bit.ly/2Ey7bsq

سهيل إدريس

سهيل إدريس (1925 ــــ 2008): كاتب من لبنان. له 3 روايات (الحيّ اللاتينيّ، الخندق الغميق، أصابعنا التي تحترق)، وعدد من المجموعات القصصيّة (جُمعتْ لاحقًا ضمن كتابيْن بعنوان قصص سهيل إدريس)، ومسرحيّة (زهرة من دم). مؤسِّس مجلة الآداب سنة 1953، ورئيس تحريرها حتى العام 1991. مؤسّس دار الآداب سنة 1956. ألف قاموس المنهل (فرنسي ــــ عربي) مع جبور عبد النور، قبل أن يستقلّ به لاحقًا. أحد مؤسسي اتحاد الكتّاب اللبنانيين، وأمينه العام لدورات عدة. نقل عشرات الكتب من الفرنسية إلى العربية، وأبرزها مؤلَّفات جان بول سارتر والبير كامو وريجيس دوبريه.