كي لا يصبح التطبيعُ الثقافيّ وجهةَ نظر
16-02-2018

 

بؤسُنا ليس مصادفة، ومع ذلك...

لا شكّ في أننا نعيش منذ سنوات طويلة حالةً من التردّي السياسيّ الفلسطينيّ. وهذا لا يقتصر على السلطة التي تغرق في الفساد، وهدرِ المال، وبلغتْ حدَّ حماية الاحتلال عبر "التنسيق الأمنيّ" معه من أجل تسليم المقاومين إليه، بل تعدّت ذلك إلى "اليسار" الذي دُجِّن قسمٌ منه، وإلى المجتمع الأهليّ الذي باتت مؤسّساتُه عاجزةً عن أداء دورها الحقيقيّ نتيجةً لترويضها وتطويعها كي تتماشى مع أجندات المانحين. وذلك كلُّه لم يأتِ مصادفةً، بل جرى التخطيطُ له بدقّة حتى نصل إلى ما نحن عليه الآن من ضعفٍ وشللٍ وإحباطٍ سياسيّ وانقسامٍ داخليّ وغيابِ قيادةٍ ثوريّةٍ ذات قاعدة جماهيريّة كبيرة.

ومع ذلك، تنضج في السنوات الأخيرة حركةٌ شعبيةٌ طوعيّة، في فلسطين والعالم، تطالب بـ"مقاطعة الاحتلال وفرض العقوبات عليه وسحبِ الاستثمارات منه،" وتُلحِق به الخسائرَ الماديّةَ والمعنويّة، على الرغم من ملايين الشيكلات التي تُرصد لمحاربة هذه الحملة ــ ــ على مستوى الإعلام، والمؤتمرات، والقوانين، والتهديدات الأمنيّة والماليّة العالية.

 

لماذا التطبيع؟

مؤخّرًا، نشهد تصاعدًا في وتيرة مشاريع التطبيع في فلسطين المحتلة، في مجالاتٍ شتّى، بما فيها المجالُ الثقافيّ. كما تثار نقاشاتٌ حادّةٌ حول مبادرات ثقافيّة فلسطينيّة وعربيّة تَتّخذ، في مظهرها العامّ، طابعًا جذّابًا من الناحيتين الماليّة والفنيّة، لكنّ تنظيمَها وإنتاجَها واخراجَها تجري بدعمٍ أوروبيّ أو أمريكيّ أو إسرائيليّ أو فلسطينيّ أو عربيّ، وتحت شعارات من نوع: "عدم تسييس الفنّ" و"بدْنا نعيش" و"ضرورة الحوار" و"التعايش" و"بناء جسور التواصل" و"كسر الحواجز" و"الموسيقى لغة لتقريب الشعوب" و"الركض المشترك من أجل السلام." وقد يجري أيضًا اللعبُ على وتر العلاقات الإنسانيّة، في أفلام دراميّة رومانسيّة، فيصوَّر الصراعُ العربيّ ــــ الإسرائيليّ وكأنّه محضُ مشكلة "نفسيّة" أو خلاف على موضوع آنيّ يمكن تخطّيه "بعقلانيّةٍ وتروٍّ،" خصوصًا متى أُبرز الجانبُ "الإنسانيّ" لدى الطرف "الآخر،" أي "إسرائيل."

اسمحوا لنا، إذن، أيّها الفنّانون!

إنّ تطبيعَ العلاقات بين المستعمِر المضطهِد والمستعمَر المضطهَد، والمساواةَ بين الجلّاد والضحيّة، انحيازٌ يصبّ في خدمة بروبوغاندا المستعمِر والمضطهِد والجلّاد. وإنّ العمل في أيّ مشروع ثقافيّ أو فنّيّ مشترك سيشرعِن محاولةَ "إسرائيل" بتصوُّرٍ زائفٍ عن إمكانيّة العيش بسلام مع القاتل، بدلًا من تعزيز جميع الجهود لإنهاء القتل ومحاسبة القاتل وتقديمه إلى المحاكم الدوليّة.

إنّ المقاطعة الثقافيّة لدولة الاحتلال هي وسيلةُ ضغطٍ على المحتلّ، وصفعةٌ له، وتخلق لديه إحساسًا بالخطر وانعدامِ الأمان. ذلك لأنّها تضرب في الصميم مَواجعَه، فتُلحق به خسائرَ ماليّةً، وتَفرض عليه عزلةً عالميّةً متنامية، وتدفع الناسَ إلى التشكيك في شرعيّته "الأخلاقيّة" بعد فضح جرائمه أمام  الرأي العامّ، خصوصًا متى اتّضح لهذا الأخير أنّ المقاطعة لا تقوم على أساسٍ عنصريّ أو دينيّ أو عرقيّ أو معادٍ الساميّة.

والمقاطعة الثقافيّة لدولة الاحتلال بالغةُ الأهمية تحديدًا لأنّ الثقافة عنصرٌ بالغُ الأهميّة لهذه الدولة! فهي تَجهد كي تَظهر بمظهر دولة الفنّ والثقافة والحضارة، وهي تجهد كي تبدو دولةَ "انفتاح،" وهي تَجهد كي تتراءى للعالم دولةً داعمةً لحقوق "الأقلّيّة العربيّة،" في حين أنّها ــــ على أرض الواقع ــــ لا تنفكّ تقتلنا وتهجّرنا وتسعى إلى طمس هويّتنا العربيّة ووضع العراقيل أمام نموّنا الثقافيّ.

الأسئلة الأهمّ هنا هي: لماذا "يتعاون" فنّانٌ فلسطينيّ مع فنّانٍ إسرائيليّ، في هذا الوقت، وفي المجال الثقافيّ بالتحديد؟ أثمّة داعٍ أو سببٌ اضطراريّ؟ وكيف يجوز أن يقوم فنّانون وسينمائيّون ومثقّفون عالميّون بدعم حركة المقاطعة العالميّة (BDS)، وتلغي أكبرُ الفِرق العالميّة عروضَها في دولة الاحتلال؛ وفي مقابل ذلك يتباهى فنّانون فلسطينيون وعرب بإنتاج برامج وأعمال فنّيّة وأفلام بدعمٍ من جهات إسرائيليّة وصناديق صهيونيّة أو بمشاركة  فنّانين إسرائيليين؟!

لقد عملت "الحملة الفلسطينيّة للمقاطعة الأكاديميّة والثقافيّة لإسرائيل" (PACBI) على بناء معايير خاصّةٍ للمقاطعة الثقافيّة والأكاديميّة، وذلك بعد العديد من الجلسات والنقاشات والمؤتمرات.(1) إلّا أنّ هذه المعايير، على أهمّيّتها، أغفلتْ وجودَ الانتهازيين الذين يحاولون إيجادَ الثغرات فيها من أجل تمرير مشاريعهم التطبيعيّة وضربِ حركة المقاطعة محلّيًّا وعالميًّا.

 

مقاطعة كاملة... وبالمطلق

رُبّ سائل: لماذا نحتاج أصلًا إلى معايير للمقاطعة ما دام الاحتلالُ قائمًا؟ أليست العلاقة الطبيعيّة الحقيقيّة مع المحتلّ هي أن لا تكون هناك علاقةٌ على الإطلاق معه، لا  ثقافيًّا ولا أكاديميًّا ولا على أيّ صعيد مشترك آخر، ومن دون الحاجة إلى تقديم أيّ تبرير؟

بلى، نحن نطالب بمعاقبة شاملة. ومن نتائج ذلك أن يَشعر الفنّانُ الإسرائيليّ الذي يعيش على أرضي وبيتي وقريتي (وقد لا يكون مسؤولًا مباشرةً عن سياسة دولته العنصريّة ولو لم يَخدمْ في جيش الاحتلال ــــ وهذا نادر) بأنّ عليه أن يتحرّكَ ويتّخذَ المواقفَ المنسجمة مع حقوقي الإنسانيّة والقانونية: فيغادرَ بلدي الذي سرقه تحت ناظريَّ، ويعترفَ بوجود احتلالٍ ونظام ابرتهايد ، ويعملَ بشكل دائم وواضح وعلنيّ على إنهاء الاحتلال للأراضي الفلسطينيّة والعربيّة المحتلّة كافّةً، ويُقرَّ بحقّ اللاجئين في العودة إلى بيوتهم ومدنهم وقراهم والتعويض من خسائرهم.

غير أنّ معظم المثقفين والفنّانين الإسرائيليين دعموا الاحتلال، أو/وخدموا في جيش الاحتلال،  أو أخفقوا في إصدار موقفٍ واضحٍ وصريح من عنصريّة دولتهم. فلماذا نعمل معهم؟! وهل انعدم وجودُ ممثّلين ومخرجين وموسيقين وراقصين وأدباء فلسطينيين وعرب ولم يبقَ لدينا إلّا أن نشترك مع... إسرائيليين؟! وكيف يَعقل أن يرقصَ الجلّادُ مع الضحيّة؟ وهل يمكن أن تَعشق المغتصَبةُ مغتصِبَها؟ وهل دورُنا أنسنةُ الاحتلال طمعًا في النجوميّة والجوائز، وإرضاءً للرجل الأبيض؟

 

صعوبة المقاطعة: حقيقة أمْ سراب؟

يواجه البعض صعوبةً في مقاطعة سلعةٍ أو خدمةٍ ما، أو في مقاطعة فنّانٍ أو موسيقيٍّ أو فيلمٍ ما. وقد لا تكون تلك الصعوبةُ حقيقيّة، بل محض سراب تبرِّر لبعض المستفيدين والمطبِّعين انتهازيّتَهم وميوعتَهم السياسيّة.

فالواقع أنّ حملات المقاطعة أفلحتْ في مجالات كثيرة في العالم. والأمثلة على نجاح المقاطعة في إضعاف الدول القويّة كثيرة. فالعمّال البحريّون الذين حظروا الشحنَ الهولنديّ في الأربعينيّات، مثلًا، ساعدوا حركةَ الاستقلال الوطنيّ الإندونيسيّ على هزيمة الجيش الاستعماريّ الهولنديّ، ورفَعَ الحاجةَ إلى التضامن الدوليّ معهم. والمقاطعة والعقوبات التي استهدفتْ جنوبَ أفريقيا من الستينيّات إلى أواخر الثمانينيّات من القرن الماضي، واستهدفت المؤسّسات الرياضيّة والثقافيّة العنصريّة والدولة والشركات التي أيّدت الفصلَ العنصريّ، أسقطتْ نظامَ الفصل العنصريّ فعلًا.

المهمّ، يا عزيزي الفنّان أو المثقف، أن تبدأ بنفسك، ثمّ بمن حولك. وستدرك حينها أنّ المقاطعة ليست فعلًا مستحيلًا لأنّ دائرةَ الوعي بحقوقنا تجاه وطننا ستتّسع شيئًا فشيئًا. وتذكّرْ أنّ قصص النجاح الفلسطينيّة الخالية من التطبيع، على مستوى الشِّعر والرواية مثلًا، كبيرة، وبعضُها وصل إلى "العالميّة."

 

بين حريّة التعبير وحريّة التطبيع

أمّا الفنّانون الفلسطينيون والعرب الذين يَخلطون بين حريّة التعبير وحريّة التطبيع، أو يدافعون عن حريّة الاشتراك مع الإسرائيليين باسم "حريّة التعبير،" فعليهم أن يتذكّروا أنّ حريّة التعبيرِ هي أيضًا حريّةُ المساءلة: مساءلتِهم عن علاقاتهم بالمحتلّ، ومساءلتِهم عن تجاوز أعمالهم الفنيّة لثوابت شعبهم الوطنيّة والأخلاقيّة والقوميّة والإنسانيّة. فالفنّان الفلسطيني لا يعيش في هولندا، مثلًا، كي نقولَ إنّ حريّة تعبيره مطْلقة. التعبير في وطننا المكبّل ذو أبعاد سياسيّة وقانونيّة وإنسانيّة وأخلاقيّة.

في ظلّ بعض مظاهر التطبيع الثقافيّ الفلسطينيّ الفجّ، الذي أصبح محضَ "وجهة نظر" قابلة للتفاوض والنقاش (أسوةً بالخيانة نفسها!)؛ وفي محاولة مرتكبي هذا التطبيع إضعافَ حركة مقاطعة "إسرائيل" وتوهينَ خطاب المقاطعة بشكل عامّ؛ فإنّ علينا جميعًا أن نقف جادّين في وجه هذه الحالات المشبوهة التي تَخدم عدوَّنا. وإلّا حُقَّ لبعض الفنّانين العالميين أن يتساءلوا: "لماذا نقاطع مهرجاناتٍ إسرائيليّة، وجهاتٌ فلسطينيّةٌ تتعاون مع فنّانين اسرائيليين؟ ولماذا نقاطع إسرائيل، والعربُ أنفسُهم لا يفعلون ذلك؟!"

 

عن الخسائر الناجمة عن رفض التطبيع

إذا تساءلنا اليوم عمّن سيعوّض "خسائرَنا" المحتملة الناجمة عن المقاطعة، فالجواب أنّ علينا، في ظلّ الاحتلال، أن نتخلّى عن بعض الأمور (الأساسيّة أو غير الأساسيّة) مقابل الحفاظ على المبدأ الوطنيّ والأخلاقيّ، ومقابل رؤية الصورة بشكل أوسع. وفي هذه الحال فإنّ "خسائرَنا" المحتملة ستبدو ضئيلةً مقارنةً بمحاصرة الاحتلال، وعزلِه، وإلحاقِ الخسائر الماديّة والمعنويّة به. ومن ثمّ، وفي المرحلة الحاليّة التي تشهد مواجهةً مستمرّةً مع العدوّ، فإنّ رفع شعار "بدنا نعيش ونعمل ثقافة بدون شروط ولا قوانين ولا قواعد" هو إسقاطٌ لمشروعنا المقاوم ضدّ الاحتلال.

إنّ الاشتباك الثقافيّ في هذه المرحلة هو الأساس، ومشروعنا الثقافيّ يجب أن يكون مشروعًا مقاومًا. وسكوتنا عن التطبيع الثقافيّ الواضح الذي يمارسه بعضُ الفنّانين الفلسطينيين، ومروِّجو مشاريع "التعايش،" هو كاتمُ الصوت الذي تحدّث عنه ناجي العلي!

 

الجبهة الثقافيّة المقاومة... وزيارات الفنّانين العرب

في مقابل التطبيع والمشاريع المشبوهة، تعمل بعضُ المؤسّسات والفنّانين، وبشكل يوميّ، على بناء مشروع ثقافيّ وطنيّ مقاوم ومشتبك، لإيمانهم أنّ الجبهة الثقافيّة هي أحدُ مكوِّنات الثورة الفلسطينيّة التي ستدْحر الاحتلال. تجدر الإشارة هنا، مثلًا، إلى أنّ أحدَ مكوِّنات الثورة الفيتناميّة التي دحرت الاستعماريْن الأمريكيّ والفرنسيّ هو الفِرق الفنيّة والمسرحيّة ــ ــ وهذه حالُ ثورات أخرى أيضًا.

إنّ الفنّ وسيلةُ نضال، ووسيلةُ حياة، كما أنه وسيلةُ إبداع لإيصال صوتنا إلى العالم. ولقد أصبح حضورُ الفنّانين العرب إلى فلسطين المحتلة، عبر التأشيرات أو التصاريح الصادرة من الاحتلال، حالةً لا يمكن ضبطُها. والاحتلالُ يستغلّ حضورَهم من أجل فتح باب التطبيع على مصراعيْه. وعليه، فإنّ من واجب حركة المقاطعة أن تعيد صياغة هذا المعيار كي لا تُضعفَ معاييرَ حركات المقاطعة العربيّة التي ترفض هذه الزيارات، وكي لا تعطي المطبِّعين مجالًا لاستغلال هذا المعيار. وفي وجود الاحتلال فإنّنا قادرون على الاستغناء عن حضور الفنّانين العرب إلى فلسطين المحتلة، والاكتفاء بسماع أغانيهم ــــ كما كنا نفعل في الفترات السابقة ــــ  عبر الراديو أو التلفاز أو الأسطوانات أو عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ. 

وبناءً عليه، فإنّ من واجبنا، كحَراك ثقافيّ فلسطينيّ وعربيّ، تعزيزَ التنسيق، ومضاعفةَ الجهد الرامي إلى نزع الشرعيّة الأخلاقيّة والقانونيّة عن "إسرائيل،" وفضْحَ ممارساتها العدوانيّة والعنصريّة، ووقفَ كلّ المشاريع الثقافيّة التطبيعيّة، ووقفَ زيارات الفنّانين العرب الى فلسطين المحتلّة.

وعلينا أيضًا التنبّهُ إلى محاولات الاحتلال وأعوانه تشويهَ حركة المقاطعة العالميّة (BDS) ضمن عمل ممنهج وإستراتيجيّ، وذلك من خلال أدوات وفنّانين، لتلميع صورة الاحتلال الصهيونيّ في العالم.

فلسطين

(1)  http://www.pacbi.org/ainside.php?id=16

 

 

رافعة السقوف

اسم مستعار لمناضلة ومثقفة فلسطينيّة.