لكسْر الصمت عن التطبيع العميق!
09-11-2017

 

الشابّة العربيّة من فلسطين 1948، التي تَخْرج إلى عالمِ ما بعد الدراسة الأكاديميّة في إحدى كلّيّات السينما، ستلاقي حقلًا من الحواجز. وهذه الحواجز ليست الرقابةَ بمفهومها التقليديّ الفظّ، ولا كمَّ الأفواه بممارسته المباشرة؛ فالنظام الإسرائيليّ كبُر و"نضج" وبات يعرف كيف يمارس القمعَ الناعم. حقلُ الحواجز الفعليّ أمام هذه السينمائيّة الفلسطينيّة الشابّة يرتبط بجوهر محرِّكات السياسة: بالموارد، بالمال، برأسِ المال، ذاك الذي يملكه "عربُ السرايا،" وفقًا لمعجم سلام الراسي المُثري، كشَعر برنارد شو: غزارةٌ في الإنتاج وسوءٌ في التوزيع، بل إساءةٌ في توزيع ثروات العرب على العرب وعبثٌ بها.

هذه النقطة الأخيرة هي أشدُّ ما يغيب عن جدالات شبابٍ عربيٍّ صادقٍ، ملتزمٍ، راديكاليٍّ، مُفعمٍ بالطاقة. إذ يستفزّه ــــ بحقّ ــــ فيلمٌ اضطُرّت الشابّةُ أعلاه إلى تمويل بعضِه من صندوقٍ إسرائيليّ، لكنّه قد لا يتنبّه إلى الـBig Money، أيْ إلى التطبيع العميق الهائل بين حكومات المال العربيّ وحكومةِ الاحتلال والاستيطان والتهجير الإسرائيليّة. هنا لن ينشأ، لدى حملات مواجهة التطبيع، خللٌ في التوازن فحسب، بل فشلٌ في الفعل السياسيّ الضروريّ نفسِه كذلك: إذ تسلَّط الأضواءُ الكاشفةُ على الشابّة التي أنتجت الفيلمَ، بينما تقبع خلف الكواليس حيتانُ مالٍ وقروشُ رأسمالٍ، عربيّةٌ وإسرائيليّةٌ، تتلاقى وتتلاقح، وتجد فسحةً شاسعةً للتنسيق، بما يرضي مصالحَها وعروشَها وجشعَ حاميها الأمريكيّ!

تلك الشابّة الفلسطينيّة كانت تتمنّى أن تجدَ صندوقًا عربيًّا قُحًّا يعطيها الدفعةَ الأولى في مطلع مسيرتها السينمائيّة؛ دفعةً متواضعةً كي تنتج فيلمًا مصنوعًا بمفردات الحلم الأوليّة. عندها، لم تكن، وسائرَ زملائها، لتطرقَ بابَ أيّة مؤسّسةٍ إسرائيليّة، رسميّةٍ أو تجاريّة، ليبراليّةٍ أو محافظة، لأنّها لا تطيقها أصلًا، ولأنّها حلّت كصخرة اللحْد على حياة أهلها ــــ تهجيرًا وهيمنةً وإذلالًا وغطرسةً ــــ حين كانت نُخَبُ العرب، السياسيّةُ والماليّةُ الحاكمة سنة 1948، تمارس الهزيمةَ بتلذّذٍ لشدّة انبهارها بضوء الاستعمار وولائها المريض لدونيّتها أمامه. هذا الجزءُ من الفلسطينيين، في هذا الجزء من فلسطين، لم يختاروا جوازَ سفر إسرائيل، بل فرضه عليهم التقاعسُ العربيُّ الرجعيُّ الحاكم، حليفُ الصهيونيّة والاستعمار.

هكذا كبرت الشابّةُ ووجدتْ نفسَها تحمل "مواطَنة" دولةٍ هي نقيضُ كيانها ووجدانِها، سياسيًّا ووطنيًّا وإنسانيًّا. وعبْر الحدود المقفلة من الجهات كلّها، كان أثرُ حربَيْ 1948 و1967 بالنسبة إليها جدارًا أعلى وأبشعَ من الجدران التي ستشيِّدها إسرائيلُ حول الضفّة وغزة بعد نحو نصف قرن، وبعد انتفاضتين، حين انفلت جيشُ الدولة التي تحمل تلك الشابّةُ مواطنَتها بـ"فضل" زعماء أمّتها، الذين واصلوا إذعانَهم على امتداد انتفاضتين ونيّف... حتى الآن.

أحدُ أجداد هذه الشابّة، المؤرِّخُ الشيوعيّ إميل توما، كتب مرّةً تحت عنوان "الحركة الثقافيّة العربيّة" ما يأتي:

"لقد لاحظنا أنّ حكاّمَ إسرائيل رغبوا في أن يتحوّل أبناءُ الجماهير العربيّة إلى حطّابين وسقاةِ ماء... و[عرقلوا] التعليمَ الثانويّ والجامعيّ. بل إنّهم ضربوا حصارًا ثقافيًّا على النشء العربيّ في حرمانه من تاريخه، وتراثِه، وحتى لغتِه العربيّة الصحيحة. وفي الفترة الأولى من قيام الدولة [الإسرائيليّة] أقاموا سدودًا بين الجماهير العربيّة والعالمِ العربيّ حتّى لا يتسرّب الإنتاجُ العربيّ، بألوانه المختلفة، إليها. وذهبوا إلى أبعد من ذلك، حين اقترحوا "نشوءَ إنتاج عربيّ (ثقافيّ، قصصيّ، شعريّ، فكريّ) باللغة العبريّة كما نشأ إنتاجٌ عبريّ باللغة العربيّة وبعشراتِ اللغات الأخرى... لقد اتّضح التناقضُ بين التعليم بالطابع القوميّ العدميّ في المدارس الحكوميّة والبلديّة، وبين المناخ العامّ بالبلاد في القطاع العربيّ؛ ففي حين تعرّض الطالبُ العربيّ إلى التعليم المشوَّه في المدارس الإعداديّة والثانويّة، كان في مقدوره، بفضل نشاط الحزب الشيوعيّ الإعلاميّ، التعرّفُ على تراثه الثقافيّ العربيّ ــــ الفلسطينيّ الخاصّ والعربيّ العامّ... ومن حقّ الثقافة العربيّة التي نمَت في إسرائيل، في تربة الثقافة العربيّة الفلسطينيّة، أن تفتخر بانتصارها على العقبات التي أقامتها المحافلُ الحاكمةُ الإسرائيليّة أمامها، وبنجاحها في تجاوز الإحباطات التي واجهتها من مختلف المصادر الداخليّة والخارجيّة."

***

                                                                                                                   (الصورة لمحمد بدارنة)

تلعب المؤسّساتُ الرسميّة في حالات الدول دورًا مركزيًّا في عمليّة الإنتاج الثقافيّ. أمّا بالنسبة إلى فلسطينيٍّ أو فلسطينيّةٍ من فلسطين المحتلّة عام 1948، فإنّ الوضع مختلف تمامًا. ذلك أنّ مصدر التمويل الرسميّ الأوّل للمشاريع والمبادرات والمؤسّسات الثقافيّة هو وزارةُ الثقافة الإسرائيليّة. ووفقًا لمعطيات السنوات الأخيرة، فقد كانت نسبةُ ما تخصِّصُه هذه الوزارةُ لمجمل مشاريع الفلسطينيين العرب ونشاطاتِهم الثقافيّة 3% فقط من ميزانيّة هذه الوزارة، علمًا أنّ نسبةَ الفلسطينيين بين المواطنين داخل فلسطين 48 هي 20%.

هذه المعطيات وردتْ في دعوى قضائيّةٍ قدّمها ضدّ الحكومة "مركزُ مساواة لحقوق الجماهير العربيّة" و"لجنةُ رؤساء السلطات المحلّيّة العربيّة" في 3 حزيران 2012. وطالبا، كلاهما، بأن تقدِّم وزارةُ الثقافة الإسرائيليّة ميزانيّاتٍ للعرب الفلسطينيين بما يماثل نسبتَهم من المواطنين في الدولة الإسرائيليّة، وفقًا للقانون المحلّيّ والدوليّ الخاصّ بالأقلّيّات، وبما يشمل مؤسّساتِ الأدب والسينما والمسرح والرقص والغاليريهات والمتاحف ومدارس الفنون والمكتبات ومؤسّسات بحث الثقافة العربيّة.

اعتمادًا على وثيقة الدعوى القضائيّة المذكورة، يمكن تشريحُ ميزانيّة وزارة الثقافة الإسرائيليّة للعام 2011 مثلًا ليتبيّن الواقعُ كالآتي:

كانت الميزانيّة العامّة 551 مليون شيكل، أمّا حصّةُ العرب منها فكانت أقلَّ بقليل من 18 مليون شيكل فقط (3%). وبينما حصلتْ مؤسّساتُ الموسيقى اليهوديّة على 47 مليون شيكل، خُصِّص لمؤسّساتٍ ترعى الموسيقى العربيّةَ 470 ألف شيكل (أيْ 1% فقط). ومن أصل 81,4 مليون شيكل مخصّصة للمسارح في فلسطين 48، هناك 2,4 مليون شيكل فقط مخصّصة للمسارح العربيّة (أيْ 2,9%). وقد حصلتْ مؤسّسة سينمائيّة عربيّة وحيدة على 169 ألف شيكل من أصل 38 مليونًا خُصّصتْ لإنتاج الأفلام (أيْ ما نسبتُه 0,04% فقط).

وفي حين مَوّلتْ وزارةُ الثقافة الإسرائيليّة مؤسّسات رقص ورقص معاصر بمبلغ 29 مليون شيكل، فإنّ حصّةَ العرب صفر. وموّلت الوزارةُ مؤسّسات ثقافة جماهيريّة ومشاريعَ مسرحيّة قيد الإنشاء بمبلغ 9,4 ملايين شيكل، أما حصّة العرب فصفر. وخصّصتْ حوالي 14 مليون شيكل للأدب العبريّ، وصفرًا للعرب. وخصّصتْ 4,5 ملايين شيكل لـ"الحضارة والتراث،" وصفرًا للعرب. وموّلتْ مدارسَ الفنّ بمبلغ 9 ملايين شيكل، وبصفرٍ للعرب. ورصدتْ ميزانيّةً بمبلغ 37,7 مليون شيكل للمتاحف، وصفرًا للعرب.

هذا، وتخصّص وزارةُ الثقافة الإسرائيليّة 40 مليون شيكل لمؤسّسات ثقافيّة يهوديّة حصرًا، وهي مغلقة أمام مؤسّسات عربيّة. وليس هناك متحفٌ، ولا أيّةُ كلّيّة للفنون، في أيٍّ من البلدات العربيّة. ثمّ إنّ 80 % من البلدات العربيّة تفتقر إلى فعّاليّات "سلّة الثقافة" الوزاريّة المخصّصة لدعم أنشطة الثقافة. كما أنّ 92 % من البلدات العربيّة لا تحصل على دعم الوزارة للفنّانين. وفي 72 % من البلدات العربيّة لا توجد فعاليّاتٌ تعبّر عن الثقافة والفنّ الفلسطينييْن.[1]

***

تحلم الشابّة الفلسطينيّة العربيّة داخل فلسطين 48 بأصواتٍ تؤازرها من وطنها العربيّ. ولكنّها تحلم، في موازاة ذلك أيضًا، ببضعة صناديق دعم عربيّ فعليّ، شرط أن لا يكونَ مالُها مقتطَعًا من عيش أهلها العرب ولا من مَشغلهم أو معملهم، بل من ميزانيّات البذخ الكافر لزمرةِ أمراء، أو لشلّةِ أثرياء عرب تابعين لهم ويحتكرون الثرواتِ الوطنيّة. أو هي تحلم بتأسيس صندوق دعمٍ من أموال الاحتفالات البروتوكوليّة الفاقعة، للترفيه الفارغ المُجهِّل، المسمَّى "نشاطات ثقافيّة،" في أفخم الفنادق. وسيكون مجديًا لو اقتُطع هذا المالُ ممّا رصده نظامُ حكمٍ متوارَث، في "عائلةٍ حاكمةٍ" ما في الخليج، لصرفه على قلب حكومةٍ هنا أو فرض حاكمٍ هناك، وباسم الديمقراطيّة والحريّة طبعًا ــــ أندرِ سلعةٍ في الدول التي تسرقها مثلُ هذه العائلة.

عندها، لو توفّر مصدرُ دعم عربيّ، بل صندوقُ قروضٍ عربيّ، لَما فكّرتْ تلك الشابّةُ الفلسطينيّةُ في تمويلٍ جزئيٍّ شحيح لفيلمها من صندوقٍ إسرائيليّ. لا، ولن يخطر في بالها أبدًا أن تمثِّل المؤسّسةَ الإسرائيليّة في فيلمها، مثلما لا تفكّر الغالبيّةُ الساحقةُ من زميلاتها وزملائها في تمثيل إسرائيل في كتبهم أو مسرحيّاتهم أو منتَجهم الفنيّ البصريّ من أيّ نوع. وحتى لو تلقّى هؤلاء ميزانيّةً جزئيّةً ضئيلةً من صندوقٍ إسرائيليّ ما، فإنّهم يرفضون رفضًا قاطعًا أيّ شرطٍ أو إملاءٍ على مضمون منتَجهم ولا شكلِه. هذا الخطّ الأحمر واضح في الجليل والساحل والمثلّث والنقب، ولم يُرسم اليوم. لذا، يجب تخفيفُ حدّة الصراخ المتسرّع التلقينيّ علينا هنا في هذا الشأن!

ملاحظة: قبل أيّام، وتحديدًا في 12 نوفمبر،  تداولت المحكمة في شكوى مسرح "الميدان" العربيّ في حيفا، ضدّ وزارة الثقافة والحكومة الإسرائيليّة، بسبب حجب الميزانيّات عنه لأنه أنتج مسرحيّةً موضوعُها الأسرى الفلسطينيون. وهو يصرّ على حقّه الكامل في اختيار جميع المضامين التي تتفق مع توجُّهه، سياسيًّا ووطنيًّا وفنّيًّا. حاليًّا قدّمت الدولة، ممثّلةً في وزارة الثقافة الإسرائيليّة، ردَّها إلى المحكمة على دعوى المسرح ضدها. ونحن في انتظار إصدار قرار حكم نهائيّ في الأسابيع القريبة.

***

خلاصة القول: إنّ جهلَ الحقائق يُفسد كلَّ شيء، بما في ذلك الفعلُ السياسيّ المُجدي. وقلةُ منسوب الشجاعة تُفسد هي أيضُا، وإنْ غاب الجهل. وأقصد بذلك أنّ مَن يمتنع عن مواجهة التطبيع العميق، الأمنيِّ والعسكريّ والاقتصاديّ والدبلوماسيّ، بين أنظمةٍ عربيّة معروفة، وبين المؤسّسة الحاكمة الإسرائيليّة (وهو تطبيعٌ جارٍ بوتيرة متزايدة في الفترة الأخيرة بسبب غياب الحياء)، ويركّز بدلًا من ذلك على فنّانٍ عربيّ استقبله أشقّاؤه في مسرحٍ أو مقهى في رام الله أو الناصرة (ولم يعرِّجْ على أية مؤسّسة رسميّة إسرائيليّة)، فإنّه لا يسكت عن قول الحقّ فحسب، بل يتورّط أيضًا في دوائر الازدواجيّة والنفاق وممالأة الأنظمة العربيّة الرجعيّة الثريّة المهيمنة الواضحة الأجندات، والمتربّعة (إلى جانب حكّام إسرائيل) في قلب الحظيرة الأمريكيّة، فيصبح بذلك شريكًا كاملًا في مخطّط التطبيع الفعليّ الاستراتيجيّ الأشدّ خطورةً.

فلنتفضّلْ بقول كلمة حقّ عند سلطان جائر. ولنواجهْ حكّامًا وحكوماتٍ وسياساتٍ ظالمة. ولنكفَّ عن مهاترات حرق الوقت والجهد واللغة في معارك افتراضيّة لن تحرِّك حجرًا على أرض الواقع.

فلسطين (حيفا)

 

[1] في العام 2016 خُصّص 20,5 مليون شيكل من ميزانيّة الوزارة الإسرائيليّة للمواطنين العرب، تنفيذًا  لقرار محكمة. صحيح أنّه شكل ارتفاعًا بمبلغ مليوني شيكل قياسًا إلى اعام 2011 (إذ كانت الميزانيّة أقلّ من 18 مليون شيكل للعرب)، لكنّ النسبة المخصصة لم ترتفع، بل يمكن القول إنّها تراجعتْ لأنّ ميزانية الوزارة نفسها ارتفعت. يُنظر:

http://www.mossawa.org/ar/article/view/602

هشام نفّاع

هشام نفّاع: كاتب وصحفيّ ومترجم. درس العلومَ السياسيّة والفلسفة في جامعة حيفا. يعمل محرِّرًا في صحيفة الاتحاد الحيفاويّة، حيث يحرِّر الملحقَ السياسيّ ــــ الثقافيّ الأسبوعيّ. يكتب المقالة السياسية في بعض المنشورات الصحفيّة، إضافةً إلى الاتحاد. صدر له: انهيارات رقيقة (رواية، 2012)، ومؤخّرًا طبعةٌ عربيّة لروايته الثانية، لوزُها المُرّ.