ليلى والمجنون
21-08-2016

 

ليلى كائنٌ وحيد، تعيش بمفردها مع حيطان غرفتها في البنسيون المتواضع منذ أكثر من عشر سنوات. تأكل وحدها وتنام وحدها، وقد ضمّت ركبتيْها إلى صدرها في محاولةٍ يائسةٍ للشعور بالدّفء والونس. تُلملم نفسها متقوقعةً على حرمانها. تقضي معظم نهارها في نومٍ متقطّع، تتخلّله كوابيسُ مكرورة، تجعلها تستيقظ فزِعة، ناشفة الريق. تمسح دموعها بطرف الغطاء، تنظر من خصاصِ الشبّاك لتكتشف أنّ الوقت مازال عصرًا ولم تأكل شيئًا. تتثاقل على نفسها كيلا تُفوّت الغداءَ مع صاحبة البنسيون العجوز. تتناهى إلى سمعها أصواتُ البنات من الغرف المجاورة. تمتعض لضحكاتهنّ الماجنة. تشعر بالامتنان لصاحبة البنسيون لأنّها سمحتْ لها بالبقاء في غرفتها ومحاسبتها شهريًّا، ومقاسمتها الغداء. أمّا وجبتا الإفطار والعشاء فتتناولهما في المستشفى الذي تعمل فيه ممرّضةً منذ عشرين عامًا، حتّى بعد أن أصبحتْ رئيسةَ الممرّضات. كلمتُها هيَ العليا لدى مدير المستشفى النفسيّ الذي تتفانى في خدمته. د. شاهر يكبرُها بسنواتٍ كثيرة، ويعاملها كابنةٍ مسكينة لم تعرف كيف توقع رجلًا في شِباكها، منذ أن مات أبواها في زلزال أكتوبر 1992.

كانت في العشرينات من عمرها حين عادت من عملها عصرًا فوجدتْ بيتها كومةً من التراب، والحجارةَ مخلوطةً بدماءِ أبويها وجيرانها. وقفت مفجوعةً أمام حطام بيتها القديم. لمحتْ وشاحَ أمّها الزهريّ ومسبحةَ أبيها الكهرمان. حاولت أن تصرخ أو تبكي. كان الحزن أكبر من أن تحتمله الدموع أو النواح. ارتكنتْ إلى يد جارتها العجوز التي نجت لأنها كانت قد خرجتْ للتوّ لقضاء بعض لوازمها. أسندتْ رأسَها إلى كتفها وأغمضتْ عينيها، وحين فتحتهما وجدتْ أنّ الزمن تقدّم بها كثيرًا، وزايلتها الدهشة، وبات الكلّ في نظرها يستوي والعدمَ.

فقط شخصٌ واحدٌ كان يردّها إلى الحياة. تراه صباح كلّ يوم وهو يجالسُ الصمتَ وحده. أحضرتْ له كتبًا كثيرةً، تقرأها قبله كي تفتح مجالًا لنقاشٍ كان يؤجّله دائمًا. تعرفه منذ سنوات عديدة. استسلامه لجلسات الكهرباء كان يعذّبها. ذات يوم سألته عن اسمه وحياته الماضية. ابتسم وانصرف عنها. تحبّ صمتَه، وتتمنّى لو أحسّ بها وأهداها بعضَ دهشتِه وسكينتِه. ستحترفُ البهجةَ لأجلِه، وستلمع عيناها، ويباغتُها خجلُ البنات حين يقعن في الحب. خمس دقائق فقط، لتسرقه من ذاته التي يدور في فلكها وحيدًا مثلها. تشعر بقلبها وهي تناوله الدواءَ اللعين، فيُغمضُ عينيه ويغوص إلى الوراء على كرسيّه الهزّاز بلا حراك، وهو يُرهفُ السمعَ إلى أصوات الطبيعة حوله. حين تهمُّ بالكلام، يُشير إليها بالتزام الصمت.

أتخبره بأنّه يَعْدل كلَّ الرجال في نظرها؟ فقط لو يخرج صوتُه وتسمعه. سيكون أكثر فتنةً لو تبادلا أطراف الحديث. سيكون مشهدًا مثاليًّا للحبّ العُذريّ الذي تحسُّه نحوه. ستعدو وتخاصم سنواتها الأربعينيّة. ستدسُّ في شايه سكّرَ الحبّ. ستُخبره أنّها ستكفُّ عن البكاءِ لأجله فقط.

ذاتَ يوم فكّرت في إهدائه قارورةَ عطر. دارت على محلّات العطور نهاراتٍ كثيرةً حتّى استقرَّت على  فيرساتشي. طلبتْ إلى البائع إن يلفّها بعناية. ظلَّت أيامًا طويلة تتحيَّن فرصةَ الانفراد به. لمّا انتهى من جلسة الكهرباء اقتادته إلى غرفته، وهو يتخبّطُ بين يديها، حتّى وقع منها، فسارع أحدهم إلى مساعدته بالنُّهوض. حين استقرّ في سريره هادئًا مطيعًا، أخرجت اللفّة في حرصٍ شديد، وفضَّتها ودنت بزجاجةِ العطرِ حتّى شعرتْ بتلاحق أنفاسه. في حنانٍ نثرتْ بعضًا منه عليه. استنشقه بعمقٍ وهو سادرٌ في إغماضته. كانت قاب قوسين أو أدنى منه حين داهمته ارتعاشةٌ مفاجئة لمّا أحسّ باختلاط العطر برائحة أنثى تزحف نحوه. أشاح بوجهه عنها، وطوَّح بزجاجة العطر حتّى تناثر زجاجُها على الأرض، والتحف بالغطاء كأنّه سلحفاةٌ مريضة. أقبل الطبيب، يُلازمه اثنان. اقتادوهما إلى حجرة جلسات الكهرباء. سارت وراءه وقد استطال المكانُ كسرداب بلا نهاية، تُطلُّ عليها رؤوسٌ لأناسٍ كثيرين راحت تتساءل ــــ في غضب مكبوت ــــ عن سبب ظهورهم المفاجئ، بينما رائحةُ العطر تزكم أنفَها.

مصر

اميمة عزّ الدين

كاتبة مصرية. حاصلة على ماجستير ادارة الأعمال من جامعة قناة السويس.

من إصداراتها: الحرير المخمليّ (رواية - 2007) – الكاتبة (رواية – 2003) - ليلة الوداع الأخيرة (قصص – 2010) – موت هادئ (شعر -2013)، والعديد من كتب الأطفال.