مدخل لفهم المشاريع الفكريّة لمحمد عابد الجابري (ملفّ)
15-10-2016

 

عندما ننظر إلى مسار الجابري، نلاحظ أنّ كلّ مؤلَّفٍ من مؤلَّفاته يمثّل مرحلةً من المراحل المتداخلة، التي ترمي إلى إنجاز مشروع فكريّ متكامل، ينمو ويتطوّر بحسب الإشكاليّات الجديدة التي تفرض نفسَها عليه، وللإجابة على المشاكل التي تخلّقتْ من العمل السابق. إنّه مشروعٌ ينتظمه ناظمٌ واحد، هو الرغبةُ في اكتساب رؤية جديدة شموليّة إزاء مشاكل الفكر العربيّ المعاصر، تخلّصُه من الإشكالات التي وضعته فيها الرؤى القديمةُ، وتنظر إلى الأجزاء في إطار الكلّ، وتربط الحاضرَ بالماضي في اتجاه المستقبل.

هذا لا يعني أنّ الراحل قد خطّط لنفسه هذا المسار؛ فلقد عبّر غيرَ مرّة عن رفضه الحديث عن "ضربٍ من التخطيط المسبّق" يوجِّه أعمالَه، مؤكّدًا "صُدْفيّة" التعالقات التي حكمتْ كتاباته. وإذا كان أميلَ إلى اعتبار كلّ مشروع من مشاريعه محاولةً مكتفيةً بنفسها، نشأتْ عن تحدٍّ أمْلتْه سياقاتٌ محدّدة، فإنّه لا تفوتُنا وحدةُ التوجّه الفكريّ نحو إعادة بناء المستقبل، ومعالجةُ القضايا الجديدة باستثمار التراث العربيّ الإسلاميّ والمناهج الحديثة بعد تبيئتها.

توظيفُ الجابري للماضي في النظر إلى المستقبل، وتوظيفُ المستقبل في النظر إلى الماضي، وبعبارة أخرى، التفكيرُ في المستقبل بوصفه تجاوزًا للحاضر والمستقبل: هذه هي السماتُ الغالبة على كتابات صاحب نقد العقل العربيّ. والهدف هو التحرّرُ من قيود الماضي، ومن أوهام المستقبل معًا. ومعروفٌ أنّ الرجوعَ إلى الماضي، وإعادةَ بنائه بالصورة التي تجعل من المستقبل نتيجةً "طبيعيّةً" له، من مرتكزات فكر النهضة الأوروبيّة. كما أنّ الدعوة إلى القطع مع التراث تلخِّص الأطروحةَ التي ارتبط بها فكرُ "ما بعد الحداثة" بعد ثورة نيتشه على هيجل، وهي الثورة التي تتلخّص "في الدعوة إلى إحلال الجينيالوجيا، أو نقد الأصول، محلَّ فلسفة التاريخ التي تنطلق من بناء الأصول... وإذن فالمطلوب ’اليوم‘ هو تحريرُ التاريخ من العقل، والعقل من التاريخ، لا بل تحرير الماضي من المستقبل، والمستقبل من الماضي".(1)

وفيلسوف "العقل العربيّ" يرى أنّ تحرير المستقبل من الماضي إنما يتمّ عبر إعادة بناء الماضي، لا عبر إلغائه. بل إنّه يعتبر “تحريرَ الماضي من المستقبل” شرطًا في عمليّة البناء؛ بمعنى أنّه يجب تجنّبُ قراءة طموحاتنا أو مخاوفنا المستقبليّة في الماضي، أيْ إسقاطِها عليه، ومن ثم "اكتشافِها" فيه.

وهكذا سار التوجّه الفكريّ للجابري نحو إعادة قراءة تراثنا الثقافيّ، والبحثِ عن الطريق الذي يقودنا إلى فهمه في تاريخيّته أولًا، ومن أجل استثماره في إيجاد موقفٍ راهنٍ من قضايانا الفكريّة ثانيًا. وما تتميّز به قراءتُه أنّه أراد لها أن تكون قراءةً إبستيمولوجيّة، واعيةً بأنّ السبيلَ الوحيد للتحرّر من الهاجس الايديولوجيّ هو الوعيُ بحضوره؛ ذلك أنّ الوعي بالدافع الايدبولوجيّ "خيرٌ لنا ألفَ مرّة من أن نُغفله، فنتحدثَ حديثًا إيديولوجيًّا ونحن نعتقد أنّنا براءٌ من الإيديولوجيا."(2) ولم يكن اهتمامُ الجابري بالإبستيمولوجيا إلّا من أجل توظيفها "غرضيًّا،" لكونها تمدّنا بمفاهيمَ وأدواتٍ إجرائيّة تساعد على قراءة التراث قراءةً معاصرة، وعلى استثمار عناصره الإيجابيّة في تطلّعاتنا الراهنة.

عندما يدرس صاحبُ نقد الخطاب العربيّ المعاصر التراثَ فإنّه يفعل ذلك من أجل إعادة تأسيس الذات العربيّة على أسسٍ جديدةٍ ترتكز على العقلانية الرشديّة. وإعادةُ تأسيس الذات تتطلّب، بالنسبة إلى الجابري، ما يسمّيه "الاستقلالَ التاريخيّ،" أي "التحرّرَ" من الفكر الأوروبيّ ومن التراث معًا؛ بمعنى امتلاكهما بعد فحصٍ نقديّ، تكون الذاتُ خلاله مالكةً لزمام أمرها، غيرَ مندمجةٍ في موضوعها، بل تعمل على دمجه فيها وعلى احتوائه بقدر حاجتها.

هذا الاستقلال التاريخيّ لن يتأتّى لنا إلّا بعقلٍ جديد، ومن ثم ضرورة نقد "العقل العربيّ." وهذا النقد لم يكن شعارًا إيديولوجيًّا للمدح أو القدح، وإنما دراسةً للقوانين العامّة المؤثّرة في تكوين هذا العقل؛ تلك النظمِ المعرفيّةِ التي أسّستْها ظروفٌ آنيّةٌ، وجعلتها تَحْكم هذا العقل، وتتسلّط على رؤية الفرد العربيّ إلى الأشياء. وهكذا توصّل الجابري إلى أنّ سرّ تخلّفنا يرجع إلى "البنية المحصَّلة" من النظُم المعرفيّة الثلاثة (البيان والعرفان والبرهان)، وإلى البنية المعرفيّة اللاشعوريّة التي تؤسِّس التفكيرَ وتوجّهه داخل الثقافة العربيّة الإسلاميّة ككل.

ومن هنا تبرز أهميّةُ وراهنيّةُ دعوته إلى "عصر تدوينٍ جديد" لتكوين "عقلٍ عربيّ" جديد، جاعلًا من إعادة ترتيب تراثنا الطريقَ نحو ذلك. ذلك أنّ ترتيبَ التراث في سياقه التاريخيّ، معتمدين على الاستقراء والاستنتاج والمقاصد والكلّيّات والنظرة التاريخيّة، متحرّرين من سلطة اللفظ وسلطة القياس الفقهيّ وسلطة التجويز، عمليّةٌ تستلزم عقلًا. ومن هذه الممارسة سيتكوّن لدينا عقلٌ خاصّ. وسيتجدّد "العقلُ العربيّ" من هذه الممارسة النقديّة للتراث العربيّ.

وتشاء الأقدارُ أن ينهي الراحلُ مسيرتَه الفكريّة بتفسير القرآن الكريم، ودافعُه إلى ذلك تلك السهولةُ التي أصبح يتعامل بها "العربُ" مع النصّ المقدّس؛ فبسهولةٍ غريبةٍ يتمّ الاستشهادُ بآيةٍ وتكفيرُ البعض. وقد أبرز الجابري أنّ التعامل مع هذا النصّ يستلزم شروطًا معيّنةً لفهمه، وأنّ السبيل الأمثل لفهمه هو:  الاعتمادُ على ترتيب النزول، وشرحُ المعاني وفق مسار التنزيل وتساوقِه مع السيرة النبويّة والدعوة.

كثيرًا ما صرّح الجابري بأنّه يمارس السياسةَ في الثقافة. وقد تبيّن لنا ممّا سبق أنّه انتصر للعقلانيّة  وللعقل. وتحكيمُ العقل معناه الخروجَ من مرحلة التبعيّة للآخر، سواءٌ تمثّل في الفكر الغربيّ المعاصر أو في التراث العربيّ الإسلاميّ، والمضيَ قدمًا في بناء دولة الحق والقانون.

المغرب

(1) محاضرة "مستقبل العرب في ظل النظام الدوليّ،" نادي العروبة، 1992.

(2) نحن والتراث.

عصام عابد الجابري

طبيب أسنان من المغرب. نائب الأمين العامّ لمؤسّسة محمد عابد الجابري للفكر والثقافة. له دراسات ومقالات منشورة في جرائد ومجلات مغربيّة وعربيّة.