مذكّرات طفلة غزّاويّة
19-06-2016

كلّما تواصلتُ مع أقاربي في غزّة، عبر الإنترنت، تخيّلتُ غزّة كما رأيتها في زيارتي الوحيدة لها عندما كنتُ طفلةً منذ أكثر من ثلاثين عامًا.

بالنسبة إليّ، تتلخّص غزّة في مخيّم الشاطئ، في بيوت جدّي وأعمامي وعمّاتي المتقاربة، في أرجوحة العيد، ورائحة الخبز والمناقيش، والكعك الذي كانت تعدّه ستّي، وفي الرمال التي كنا نتمرّغ فيها على شاطئ غزّة.

لم أسكن في فلسطين؛ فأنا أعيش الآن في لبنان، بعدما نشأتُ في الإمارات العربيّة المتّحدة، وقضيتُ فيها طفولتي وسنواتِ الدراسة وبداياتِ شبابي، ولي فيها أجملُ الذكريات. إلّا أنّني تربّيتُ على حبّ فلسطين، وعلى أمل العودة إليها يومًا ما. وكنتُ أحفظ الأغاني الثوريّة، وألقي قصائدَ محمود درويش في المدرسة والجامعة في المناسبات الوطنيّة ـــ كيوم الأرض، ويوم التضامن مع الشعب الفلسطينيّ، وذكرى النكبة، وغيرها.

كنتُ أؤمن بأنّ وجودنا خارج فلسطين موقّت، وبأنّ عودتنا إليها حتميّة. حتّى في الأعياد، كنتُ أستيقظ على أغنيةٍ حفظتُ كلماتها لكثرة تكرار أبي لشريط التسجيل؛ أذكر منها: "بِدَي أعيـّد في بلادي، ما بين أهلي وأولادي...غربة ما بدّي غربة، الغربة حرقت فؤادي."

كان عمري أحدَ عشرَ عامًا عندما زفّ إلينا أبي ذلك الخبرَ السعيد: "سنسافر إلى الأردن لقضاء عطلة الصيف ورؤية الأقارب هناك. ثمّ تذهبون مع والدتي التي ستأتي خصّيصًا لاصطحابكم إلى غزّة".

سافرنا إلى الأردن، وقضينا عطلة ممتعة بين عمّان وإربد. ثمّ أتت ستّي. كانت ملامحها تشبه الصورة الّتي رسمتها في مخيّلتي لفلسطين: بلهجتها المميّزة، وبجبينها الذي لفحته الشمس، وبشعرها الذي غزاه الشيب من معاناة التهجير وليالي الخوف والقلق.

ذهبنا برًّا إلى المعبر الذي يفصل الأردن عن الضفة الغربيّة. أذْكر كيف وقفنا في طابور طويل ننتظر تفتيش الصهاينة لأغراضنا. رحتُ أسرح بخيالي، وأعيش مشهدًا ثوريًّا لطالما حلمتُ فيه في غربتي: رأيتُني أشتم الجنديّ الذي يعبث بأغراضنا وينظر إلينا بسخرية وتحدٍّ، ثمّ صفعته، وبصقت في وجهه، فهجم عليّ ليضربني، فثار عليه كلُّ مَن حولي وضربوه.

كانت ستّي تعرّفنا إلى أسماء المناطق التي نمرّ فيها، ثمّ طلبت إلى السائق أن يتمهّل عندما اقتربنا من إحدى الأراضي الزراعيّة الواسعة. قالت وهي تغالب دمعةً انسابت على خدها: "هاي بيّارتنا سرقوها اليهود، الله يهدّهم... كانت جنّة يا ستّي، الله لا يباركلهم فيها، ويجعل كل لقمة ياكلوها منها سمّ يهريلهم مصارينهم."

***

وصلنا إلى غزّة، إلى مخيّم الشاطئ، حيث بيتُ جدّي الذي يسكن معه أحدُ أعمامي وعائلته.

 شهرٌ مضى كالحلم: من بيت جدّي، إلى بيت عمّتي، إلى بيت ابن عمّي. مجموعة أطفال، لا يتجاوز عمر أكبرنا السادسة عشرة، نتنقّل مشيًا، ونحن الـذين لم نكن نخطو خطوة خارج البيت من دون صحبة أمّي أو أبي.

"دشّريهم يا عمّتي. خلّيهم يطشّوا مع أولاد عمّهم. الله يِعْلم إيمتى يشوفوهم مرّة تانية. تخافيش، الدار أمان." كانت ستّي تقول لأمّي القلقة دومًا.

سألتُ جدّتي يومًا: "ليش يا ستّي كلّ مكان بتسمّوه مخيّم؟ بالأردن بيت خالتي وخالي بمخيّم الحسين، وعمّتي بمخيّم شنلر، وإنتو هين بمخيّم الشاطئ؟"

أجابت: "يا ستّي، المخيّم للناس اللي بيتهجّروا من أراضيهم. لمّا إجوا اليهود وأخذوا بيوتنا إحنا تهجّرنا بسنة الثمانية وأربعين من حمامة عغزّة، وعمّتك وأخوالك تهجّروا عالأردن." وأخذت ستّي تدعو على اليهود "الله يهدّهم،" وتبكي.

***

تُرى، هل سيقدّر لي أن أزور غزّة مرّةً أخرى؟

بيروت

امل أبو حطب

فلسطينية مولودة في غزّة، نشأت في الإمارات واستقرّت في لبنان بعد الزواج. حائزة ماجستير في علوم البيئة من الجامعة الأميركيّة في بيروت، وأم لشابّين: فارس وكفاح.