مقدّمة القصّة في مغامرتها القصيرة
24-04-2017

 

 

هربتْ مقدّمةُ القصّة التي كان يكتبها. رآها وهو مستلقٍ على الأريكة تتمطّى على شاشة حاسوبه، فلم يأبهْ. عرف أنّها تريده أن يتابعَ الكتابةَ كي يضع شخوصًا وخاتمةً لها، ثمّ يضمَّها إلى أخواتها في المجموعة. كان ينظر إلى السقف تارةً، وإلى السماء المُتبدّية من النافذة تارةً أخرى، مفكّرًا في الشخوص والأحداث والخاتمة المناسبة.

استمرَّ في تأجيل الكتابة. لكنّ مقدّمة القصّة ملَّت الانتظار. مدّت رأسَها محاولةً أن تتسرّب من الشاشة. حاول تثبيتها بأصابعه. لكنّها تسرَّبتْ كالماء، إلى الطاولة، فإلى الكرسيّ، ثمّ قفزتْ إلى الأرض، وبدأتْ تحبو كطفلٍ على بلاط الغرفة. أراد أن يخبرها أنّها ليست سوى مقدّمة. ناداها: "عودي! سأكمل الكتابة، ثمّ تفعلين ما شئتِ." لكنّها لم تستمع إليه. كانت تحاول الوقوف، فتقع على الأرض. راح يبحث في غُرَف المنزل عن شيء يلتقطها به، فلم يجد.

حين رجع رآها واقفةً تحاول الخطوَ. لاحقها، فهربتْ منه من غرفةٍ إلى أخرى. راح يركض خلفها، فتُسرع مطلقةً صرخاتِ الفرح، كأنّها تقلّد ابنتَه حين يُلاعبها.

بدأتْ تكبر شيئًا فشيئًا. وقفتْ لترى ما خلف النافذة. وحين رأت البحر، حاولت الخروجَ، فلم تستطع. أشارت إليه كي يفتح لها النافذة، فرفض. أراد أن يعيدَها إلى حاسوبه. قال لها: "أنتِ مجرّدُ مقدّمة، لن يعرفَكِ الناسُ والمارّة، ولن يفهمَكِ الأطفالُ إذا رأوْكِ خارجًا."

حين فتحتْ زوجتُه البابَ لتدخل البيت، سارعت المقدّمة إلى الخروج منه. ركضتْ نحو البحر. رأت أطفالًا يلعبون بالرمل، فأرادت أن تشاركهم اللعب. لكنّ الأطفال فرحوا عندما رأوْها، ثمّ أخذوا يفكّكون حروفَها ويصنعون منها كلماتٍ وجُملًا. ثمّ كتبوا منها أغنيةً عن بلادٍ لا حروبَ فيها، وعن آباءٍ يعودون إلى بيوتهم في المساء سالمين. أعجبتهم اللعبة، فعملوا من حروفها قصيدةً، ثمّ أغنيةً، فقصّةً صغيرةً: عن بلادٍ مشمسةٍ، تسقط فيها الثلوجُ، فيتقاذفون كُراتِه؛ وعندما يملّون، تذوب الثلوج، فتصبح بحرًا، يلهون بأمواجه.

أخذت صيحاتُهم تتعالى، وضحكاتُهم تكبر. ثم بدأتْ تردّداتُ أنغامهم تملأ الشاطئ، وتثير انتباه الكبار.

الصَّبيّة الجالسة على الصخرة كانت ترنو إلى الماء، وترمي دموعَها فيه. سمعتْ ضحكاتِ الأطفال وصرخاتَهم الفرحة. التفتت نحوهم، فرأت حروفًا وكلماتٍ تشكّل لوحاتٍ جميلةً تحلِّقُ فوق رؤوسهم، وتغيِّر ألوانَها، كما أراد الأطفالُ منها أن تفعل. توجّهتْ نحوهم. رأوا حزنها، فأعطوْها القصّة. ركَّبَت من حروفها كلماتٍ، صارت قصيدةً كتبتْها إلى حبيبها، ثمّ قذفتها إلى سطح الماء، بعد أن بثّتْ في أذنها سرًّا. تمنَّت عليها أن تذهب إلى الطرف الآخر من البحر، وتجد حبيبَها.

بدأت القصيدةُ تقفز فوق الماء. تتراقصُ أحيانًا على نغمات الكلمات الجميلة داخلها، وتبكي أحيانًا أخرى للحزن الذي أودعتْه الصبيّةُ القصيدةَ. وإذ كانت تسبح فوق الماء، رآها الصيّادون الفقراء، فتذكّروا بلادًا جميلةً، وعاشقاتٍ ينتظرن قصائدَ الغزل، وتذكّروا الخبزَ، ودفاترَ أولادهم.

ذهبت القصيدة بعيدًا بعيدًا في البحر. تبطئ لتلهو مع السمك الذي يقفز فوق صفحة الماء. تسبحُ وتغوصُ، ثمّ تحاول التحليقَ كما النوارس. ولكنّها حين تتذكر الصَّبيّةَ تُسرع. اقتربتْ من سفينةٍ ضخمة، فخافت قليلًا من منظرها المهيب فوق الماء. ولكنّها، حين رأت البحّارةَ على ظهرها ينظرون إليها بلَوعةٍ، اطمأنَّت. عرفتْ أنّهم تذكّروا زوجاتِهم، أو حبيباتِهم المهجورات على أطراف القارّات.

وصلتْ إلى الشاطئ الآخر، فرأت صبايا جالساتٍ فوق الصخور يتأمّلن البحرَ، ويرمينَ دموعهنّ فيه. ورأت شبّانًا يرْنُون إلى البحر، ويُودِعونه حزنَهم. بحثتْ بينهم، فلم تجد الفتى. جالت في الشاطئ، ثمّ في المدينة، بحثًا عنه. بحثتْ في الشوارع، ثمّ ذهبتْ إلى مدن أخرى. كانت ثمَّة حروبٌ ومجازرُ وحزنٌ وجوعٌ وعويلُ أطفالٍ. فكَّرَتْ أن تلقي القصيدة على مسامع المارّين، علَّها تواسيهم أو تجعلهم يرشدونها إلى مكان الفتى. لكنّ الجميع كانوا حَزانى، لا وقت لديهم ولا شهيّة لأشعارِ فتاةٍ عاشقة.

عادت إلى مدينةِ البحر، فراعَها عددُ السفن المتراصفة في الميناء. رأت عمّالًا بثيابٍ رثَّةٍ متَّسخة، يعملون بكدٍّ هناك. لمحتْ بينهم شابًّا يشبه الفتى الذي صوّرته لها صبيَّةُ الشاطئ. اقتربتْ منه لكي تتأكّد، لكنّه أشاح بوجهه عنها. اقتربتْ أكثر، لكنّه تجاهلها. حاولتْ بثَّهُ كلماتِ الرسالة، فلم يستمع إليها، بل لم ينظر إليها. عند الغداء، جلس على رصيف الميناء في فيء السفينة يتناول طعامَه. دنَت منه، فسمع بعضًا ممّا كانت تقوله هذه المرّة، ولم يستطع إكمالَ طعامه. نظر صوبَ البحرِ الذي بان من ثغرةٍ بين سفينتين. بدا وكأنّه يحاول تذكُّرَ التفاصيل التي كانت تقصُّها عليه. أخبرها كم نسيَ من أشياء، فلم يبقَ في ذاكرته إلّا عذابُه اليوميّ، وقصَّةُ سفرهِ في البحر: حين تكوَّم، والعشراتِ من الهاربين مثله من الحروب والمجاعات، في قعر مركبٍ قديمٍ كاد يتكسَّر مرارًا بسبب زيادة حمله. أخبرها كيف تاهَ المركبُ في البحر بعد أن نزل منه المهرِّب في بداية الرحلة، وعاد تاركًا الجميعَ لمصيرٍ مجهول. وحين أعادوهم في مركبٍ آخر إلى المكان الذي انطلقوا منه، أحسَّ أنّه دخل دوَّامةً لا خروج منها. قال لها إنه أصبح أسيرًا في هذه البلاد، يكابِدُ مشقّة العيش وصعوبةَ العمل. يتحمَّلُ ذُلَّ البقاء فيها، ولا يستطيع العودة.

حَزنتْ لأنّه لم يتكلّم عن الصَّبيّة. لم يذكر اسمها، ولا أيّة قصّةٍ من القصص التي تجمعه بها. بدَت وكأنّها لم تجد للصَّبيّة حبيبها، فعادت إلى شاطئها الأوّل. غافلت الجميعَ: السفن والعمّال والصبايا والشبّان الجالسين على صخور البحر، وبحَّارة السّفن، والصيادين الفقراء، والصَّبيّةَ الحزينةَ، والأطفالَ الذين كانوا ما يزالون يلهون فوق الرمل. توجَّهتْ نحو منزل الكاتب. قرعت الجرس، ففتح لها البابَ. دلفتْ خائبةً ببطء. لم تنتظر أن يتكلَّم معها. تعرِف أنّه سيقول لها: "أنتِ لست سوى مقدّمة القصّة." خلعتْ حذاءها، ونفضت الرملَ عن رجليها، وبقايا الملحِ عن جسدها، ثمّ رمت عنها رسالةَ الصَّبيّة وأناشيدَ الصغار وقصائدَهم.

صعدتْ إلى الكرسيِّ، فإلى الطاولة، ثمّ وَلَجت الحاسوبَ. وهناك استقرَّت، منتظرةً... كأنّها عاشقةٌ تراود حبيبَها كي يأتي إلى أحضانها، فيُكملَ الكتابة.

مالك ونّوس

كاتب صحفيّ ومترجم سوريّ. نشر ترجمات ومقالات ومراجعات كتب في صحف ودوريّات سوريّة وعربيّة. نقل إلى العربية كتاب:غزّة، حافظوا على إنسانيّتكم، للمتضامن الدوليّ فيتوريو أريغوني عام 2011.