من أتون الحرب إلى خطاب الإيديولوجيا
16-02-2018

 

ردًّا على رواية ماهر اليماني عن الحرب الأهليّة والاجتياح الإسرائيليّ 1978.

 

نشرتْ مجلّة الآداب، وعلى مدى عدديْن (كانون الأول/ديسمبر2017 وكانون الثاني/يناير2018)، حوارًا مطوّلًا أجراه الأستاذ يسري الأمير مع الصديق الرفيق ماهر اليماني، تناول بعضًا من ذكرياته عن الحرب الأهليّة والاجتياح الإسرائيليّ للجنوب اللبنانيّ (آذار/مارس 1978).*

كنتُ والرفيق ماهر في الفترة بين عاميْ 1976 و1978 رفيقيْ سلاح، وتزاملنا في قاطع بنت جبيْل؛ فقد كنتُ قائدًا لـ"الكتيبة الطلّابيّة" (الجرمق) وللقوات المشتركة الفلسطينيّة ــــ اللبنانيّة، وكان ماهر نائبًا لقائد القطاع الأوسط في الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين. وكانت تجمعنا علاقاتٌ كفاحيّة ٌتتجاوز تلك التي جمعتْ سائرَ فصائل الحركة الوطنيّة اللبنانيّة والفلسطينيّة، وتتخطّى التصنيفاتِ الإيديولوجيّة (من قبيل "اليمين المتنفّذ" و"اليسار") التي لجأ إليها الرفيق ماهر في الحوار والتي تختلط بالموقف من المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ.

وفي جميع الأحوال، ومن واقع تجربتي العمليّة، وبعيدًا عن النقاشات الفكريّة في شوارع بيروت ومكاتبها السياسيّة، فلعلّي أُسجّل هنا أنّ العلاقة في الميدان وفي ساحات المعارك لم تكن دومًا مرتبطة بالإطار الإيديولوجيّ للأحزاب اللبنانيّة والفصائل الفلسطينيّة. ويعود ذلك إلى تفوّق الوطنيّ على الإيديولوجيّ، وطغيان همّ مواجهة العدوّ على التناقضات الثانويّة وعلى ثقافة الكادر ووعيه بهذه القضايا.

ومن هنا تميّزت العلاقةُ الكفاحيّةُ في القطاع الأوسط مع الجبهة الشعبيّة التي كان يقودها ماهر اليماني، وتراجعتْ مع الجبهة الديمقراطيّة، على الرغم من أنّ الأخيرة أقربُ إلى برنامج حركة "فتح" السياسيّ (مع ملاحظة أنّ كتيبة الجرمق كان لها موقفُها المميّز من برنامج النقاط العشر وعمليّة التسوية). أمّا في قطاع النبطيّة ــــ الشقيف، وفي اجتياح 1982 (كنتُ قائدًا لهذا القطاع)، فلم تكن العلاقة مع مسؤول الجبهة الشعبيّة في مستوى العلاقة مع الرفيق ماهر، في حين تميّزت العلاقة مع الجبهة الديمقراطيّة التي كان يقود قطاعَها الرفيقان أبو اللطف وعجاج الدولة. ذلك أنّ معادلة العلاقات بين الفصائل لا تخضع فقط لتوجيهات القيادات الأعلى وأوامرها، وإنّما أيضًا للسمات الفرديّة للقيادات المحليّة ومدى استعدادها للتعاون والعطاء.

وغنيٌ عن القول أنّ ما ينطبق هنا على الفصائل اللبنانيّة الفلسطينيّة المختلفة ينطبق أيضًا على كتائب حركة "فتح" ذاتها، على الرغم من خضوعها لقيادةٍ واحدة. فثمّة فوارقُ كبيرة بينها، أكان على مستوى مقارعتها للعدوّ أمْ على مستوى تعاملها مع الجماهير. وهذه بلا شكّ ظاهرة تحتاج إلى دراسة مستفيضة تتعلّق بعجز الفصائل المختلفة عن بناء نموذجٍ موحّد.

السياق التاريخيّ

ما يعنيني هنا، بالدرجة الأولى، هو مراجعة السياق التاريخيّ لتسلسل المعارك بحسبِ ما ورد في حوار الرفيق ماهر؛ ما يشكّل روايةً قد تكون مغايرةً لروايته، أو ناقدةً لها، أو منبِّهةً لذاكرته.

ومن المهمّ ذكرُه أنّ ما سأقوله يُعنى بالحوادث التي جرت ضمن القطاع الذي كنتُ أتحمّل مسؤوليّتَه فحسب. وعدمُ تعليقي على النقاط الأخرى في الحوار لا يعني تسليمي بصحّتها، إذ إنّ الأقدر على توكيد هذه الرواية هم مَن عايشوها. فضلًا عن أنّ الهدف من ذلك كلّه هو تسجيل تأريخٍ حقيقيٍّ للذاكرة الفلسطينيّة اللبنانيّة عن تلك الحقبة المهمّة؛ وهذا بلا شكّ ما نسعى إليه جميعًا.

أوّلًا: خلال عملي قائدًا للقوّات المشتركة في قاطع بنت جبيل، لم أتلقّ أيَّ قرار من "القيادة المتنفّذة التي تبعتْ حركة فتح" بوقف العمليّات عبر الحدود، ولم نقم بمنع أحدٍ من القيام بذلك. وفي الوقت ذاته فإنّ هاجسَ القوّات المشتركة الفلسطينية ــــ اللبنانيّة الرئيس، وجهدَها القتاليّ في هذه المرحلة، تمثّلا في وقف تمدّد الشريط الحدوديّ. فقاتلتْ عملاءَ العدوّ الصهيونيّ في الجنوب في معارك الطيبة/ رب ثلاثين/ والخيام ومارون الراس، ومنعتْه من التمدّد باتجاه بنت جبيل ومن وصْل طرفَي الشريط الحدوديّ. كما واجهتْ، عبر التحشيد الجماهيريّ والعمل السياسيّ، محاولاتِه ضمَّ قرًى مثل ميس الجبل وحولا وعيترون.

وفي المجمل، كانت العمليّات العسكريّة داخل الأرض المحتلّة تُنفّذها مجموعاتٌ خاصّةٌ خارج إطار القوّات المشتركة. ولم يذكر لنا الرفيق ماهر أيَّ عمليّة قام بها قاطعُه في تلك الفترة ضدّ العدوّ الإسرائيليّ في معارضته لـ"قرارات القيادة المتنفّذة" التي قامت بعمليّة دلال المغربي، مع أنّ الجبهة الشعبيّة أعطتنا "الضوءَ الأخضر للاستمرار في العمل العسكريّ ضدّ العدوّ الاسرائيليّ."

ثانيًا: وقعتْ معركة تحرير مارون الراس في الثاني من آذار/مارس 1978، وليس في الثالث منه، كما ورد في الحوار. ولم نفاجأ باحتلال مارون الراس، فقد كان ذلك بمنزلة الرصاصة الأخيرة في جعبة العدوّ لوصل جناحَي الشريط الحدوديّ بعد أن فشل في محاولاته السابقة.

خطّتنا المضادّة لتحرير مارون الراس كانت جاهزة. وعندما وصل الرفيق ماهر إلى بنت جبيل، آتيًا من صور، كنّا قد بدأنا بإجراءات تنفيذها وبتوزيع المهمّات على القوى المشاركة فيها. ورفضنا طلب قيادة القوّات بتأجيل الهجوم إلى حين تعزيزنا بوحداتٍ أخرى. تضمّنت الخطّة إشغالَ قوّات الرائد سامي الشدياق بقصفٍ مدفعيٍّ يمنعه من التمركز على الواجهة المشرفة على بنت جبيل، وتعويق أيّ ترتيبات هندسيّة قد يحاول القيام بها؛ وهذا ما قامت به مدافعُ الهاون التابعة لنا، والمدفعيّةُ الثقيلة بقيادة الأخ واصف عريقات.

كُلّف فصيل من الجبهة الشعبيّة بقطع طريق يارون/ مارون الراس لمنع وصول تعزيزات، ومنع انسحاب القوة الموجودة في مارون الراس. في حين تقدّمت قوةٌ قوامُها 80 مقاتلًا، تألّفتْ أساسًا من "فتح" ومنظّمة العمل الشيوعيّ، بقيادة الأخ جهاد (شفيق الغبرا). وقد صعدتْ هذه القوّة مشيًا للسيطرة على الحدّ الأماميّ المُطّل على بلدة بنت جبيل. وفي اللحظة التي وصلتْ فيها هذه القوةُ الراجلة إلى مارون الراس، انطلقتْ من بنت جبيل، وعبر الطريق الرئيس، قوةٌ محمولةٌ من "فتح" والجبهة الشعبيّة وفصائل أخرى بقيادة عمّار والرفيق ماهر اليماني، لتشكّل النسق الثاني للهجوم.

أهميّة معركة مارون الراس أنّها قد أنهت بشكلٍ إمكان الاعتماد على قوّات الشريط الحدوديّ، وأصبح التدخّل العسكريّ الصهيونيّ المباشر محتمًا؛ بمعنًى آخر، أصبح الاجتياحُ الصهيونيّ للجنوب مسألةَ ساعاتٍ أو أيّام. وجاءت عمليّة الشهيدة دلال المغربي على الساحل الفلسطينيّ لتُعجّلَ فيه.

الاجتياح

ثمّة مغالطاتٌ عديدة في رواية الرفيق ماهر عن الاجتياح، وفي هذه الرواية ما يمسُّه ويمسّ "الجبهة الشعبية". وثمّة تشويهٌ لحدثٍ تاريخيٍّ ما زال شهوده أحياء.

على الرغم من توقّع قيادة الجبهة الشعبيّة الهجومَ الإسرائيليَّ الوشيك، وطلَبِها تجهيز خطّة دفاعيّة، فإنّ الرفيق العزيز يقول:

"أمضيتُ الليل في البازوريّة. في الصباح، وصل رفيق من قيادة القطاع، وأخبرني أنّ الإسرائيليّين يقصفون مارون الراس، فانطلقنا فورًا إلى بنت جبيل. وصلنا حوالى التاسعة والنصف مثلّثَ كونين، فوجدتُ... معين الطاهر، وأخبرني أنّ العدوّ احتلّ مارون الراس."

تقع البازوريّة على مسافة 40 كيلومترًا من بنت جبيل، وهذا يعني أنّه قد تركها نحو التاسعة صباحًا. وإذا علمنا أنّ الهجومَ الإسرائيليّ قد بدأ عند منتصف الليل، وأنّ سماءَ المنطقة بأسْرها قد أنارتها الطائراتُ والمدفعيّةُ الإسرائيليّة، وأنّ القصف كان عنيفًا على الجبهات كلِّها، فمن المستغرَب أن لا يَعلم الرفيق بالهجوم إلّا بعد عدّة ساعات من وقوعه!

ويزعم الرفيق ماهر أنّني أبرزتُ له برقيّةً وصلتني من قيادة القوّات في صيدا تطلب منّي الانسحابَ إلى شمال الليطاني، وهذا في التاسعة والنصف صباحًا على مثلّث كونين بالقرب من بنت جبيل، وأنّ حجّة الانسحاب "أنّ الإسرائيليّين سيتقدّمون إلى النبطيّة، ومن هناك إلى الشهابيّة في القطاع الأوسط." يبدو أنّ ذاكرة الرفيق ماهر في الجغرافيا ومحاور القتال قد ضعفت كذلك: فالنبطيّة شمال الليطاني، وهي من مسؤوليّة وحدات أخرى غيرنا؛ أمّا الشهابيّة فهي جنوب الليطاني، وتقع على الطريق الرئيس بين بنت جبيل وصور في منتصف الطريق إلى البازوريّة، حيث تقع قيادة الرفيق ماهر. ولا يوجد أيُّ رابط بين هذه المحاور.

أمّا أمرُ الانسحاب المزعوم فلم يحدث إطلاقًا، ولم نتلقَّ أيَّ أمر بالانسحاب، لا في ذلك التاريخ ولا بعده. بل في تلك اللحظات كانت مواقعُنا في بنت جبيل صامدةً، وكنّا قد نجحنا في شنّ هجومٍ معاكسٍ على تلّة شلعبون، ووقفِ تقدّم العدوّ إليها بهدف قطع طريق بنت جبيل ـــــ بيت ياحون ــــ تبنين. ولو لم نقم بذلك لما تمكّن الرفيق ماهر من الوصول إلى عيناتا كما يقول.

في تلّة شلعبون لم يُستشهد أيٌّ من رفاقنا الشيوعيّين [على ما يَنقل الرفيق ماهر عن الرفيق زياد حسني ــــ الآداب]: "المعلومات تتحدّث عن سقوط سبعة عشر شهيدًا من الحزب الشيوعيّ ومنظمة العمل الشيوعيّ." فالشيوعيون لم يكونوا موجودين فيها أصلًا، وجميعُ القوة الموجودة على هذه التلّة كانت من "فتح."

أمّا تفاصيل ما جرى في ذلك اليوم فألخّصه على النحو الآتي:

منذ معركة مارون الراس ساد الهدوءُ خطوطَ التماس، وأخلى العدوُّ مستعمراتِه القريبة من المستوطنين. كان الهدوءَ الذي يسبق العاصفة، وكان واضحًا أنّ ثمّة عمليّة عسكريّة إسرائيليّة كبرى على وشك الوقوع، وإنْ كانت الأحوالُ الجويّة العاصفة التي شهدها الجنوبُ بعد معركة مارون الراس قد ساهمتْ في تأجيلها. وصودف أن وقعتْ عمليّة الشهيدة دلال المغربي على الساحل الفلسطينيّ في 11 آذار/مارس لتجعل من هذا الاجتياح أمرًا مؤكّدًا، بعد أن تحقّقتْ شروطُه العمليّاتيّة بعد معركة مارون الراس.

في 13 آذار/مارس مساءً، استُدعيتُ إلى مقرّ قيادة القوّات في صيدا لحضور اجتماعٍ لقيادة الجنوب برئاسة العقيد فخري شقورة، الذي فُرز ليكون مندوبًا لغرفة العمليّات المركزيّة. حضرتِ الاجتماعَ القياداتُ الأولى من الفصائل المختلفة، بعد أن تيقّنت القيادة أنّ ثمّة اجتياحًا وشيكَ الحدوث. وفي رأيي أنّ هذا الاجتماع قد تأخّر عقده، وكان ينبغي أن يُعقد بعيْد معركة مارون الراس، إذ إنّ قرار الاجتياح الصهيونيّ قد اتُّخذ مباشرة بعد تلك المعركة، وجاءت عمليّةُ دلال المغربي ذريعةً له.

في الطريق إلى الاجتماع وخلاله، كانت برقيّاتُ ربحي، قائدِ المجموعات الموجودة في مارون الراس، تتوالى عن حشودٍ للقوات الإسرائيليّة بالقرب من خطّ الهدنة؛ وهذا يعني أنّ المعركة صارت متوقّعةً في غضون ساعات. لذا اعتذرتُ عن عدم إكمال الاجتماع، وغادرتُ صيدا نحو الحادية عشرة والنصف ليلًا، بعد أن أوضحتُ للمشاركين فيه أنّ الحرب باتت قريبةً.

ما إنْ وصلتُ قرب مخيّم البرج الشمالي، نحو الساعة الثانية عشرة ليلًا، حتى كانت السماء قد أنيرت بقذائف الإنارة. أطفأتُ أضواءَ السيّارة، وتابعتُ سيري باتجاه تبنين حيث مقرّ قيادة الكتيبة. ومن خنادق القيادة العربيّة الموحّدة فيها، أخذتُ أتابع الاتصالات والتعليمات الصادرة عن المجموعات المختلفة. وقرابة الرابعة فجرًا، توجّهتُ إلى بنت جبيل برفقة الملازم حسام. كان ربحي في مارون الراس قد توجّه إلى مقربة من الحدود الفلسطينيّة على الجدار الشائك، تجنّبًا للقصف الجوّيّ والمدفعيّ العنيف، وكذلك فعل الشهيد حسّان شرارة والشهيد ماهر الفاعور على تلّة مسعود، حيث تقدّمتْ مجموعاتُهم باتجاه عين إبل واشتبكتْ مع العدوّ في مواقع لم يتوقّع أن يجري الاشتباكُ معه فيها.

بعد أن هدأ القصف عاد ربحي إلى مارون، حيث كان الصهاينة يعتقدون أنّ المقاومة فيها قد انتهت، وكانوا متحلّقين حول نارٍ أوقدوها. دار اشتباكٌ طوال عشر دقائق كاملة. وقد اعترف الجنرال غور بمقتل ثمانية وإصابة آخرين بجراح. في الثامنة صباحًا وصل ربحي ومجموعاتُه إلى بنت جبيل. واستمرّت المعارك عنيفةً في بنت جبيل على تلالها ــــ المشتى، ومسعود، وشلعبون، وصفّ الهوا.

غادرتُ بنت جبيل في السابعة صباحًا إلى الطيرة لترتيب خطّ الدفاع الثاني من حداثا إلى الطيرة فبيت ياحون، ونشر كمائن في هذه المنطقة. خلال هذه الفترة التقيتُ بالرفيق ماهر على مثلّث كونين. عدتُ إلى بنت جبيل في الواحدة ظهرًا، ووقفتُ في موقع صفّ الهوا أراقب سيرَ المعركة على التلال، حيث دفعت بمجموعات إضافيّة لمهاجمة العدوّ المندفع باتجاه تلة شلعبون. كان من الواضح أنّ المعركة ستستمرّ لساعاتٍ محدودةٍ أخرى. غادرتُ إلى قيادة الكتيبة في تبنين لترتيب إدامة الاشتباك في الساعات التي تليها، ووُضع عددٌ من المجموعات في بيت حانون وحداثا.

عصرًا، تمكّن العدوّ من احتلال تلّة مسعود وتلة شلعبون، وأُعدم الشهيد محمد الشحيمي، قائدُ فصيل تلة شلعبون، بعد أن نفدتْ ذخيرتُه. ولم ينجُ من جميع أفراد الموقع سوى أبو الفدا، الذي اختبأ بين قبور أثريّة في إحدى المغاور، وحمته جدرانُ القبور من شظايا القنابل التي رماها جنودُ العدو داخل المغارة، وفي الليل تمكّن من الانسحاب. كما أَعدم العدوُّ في صفّ الهوا الشهيدين مطيع وناصر، من مؤسّسة السينما الفلسطينيّة، بعد أن لجأا إلى أحد الملاجئ هربًا من القصف الجويّ، وأُسر زميلُهما رمزي الراسي، الطالبُ في الجامعة الأميركيّة.

استشهد للكتيبة الطلّابيّة في معركة بنت جبيل21 شهيدًا، واستشهد عددٌ كبيرٌ من مقاتلي منظّمة العمل الشيوعيّ على تلّة مسعود. وبعد الانسحاب الاسرائيليّ عُثر على رفات الشهداء، ودُفنتْ جثامينُهم في ضريحٍ خاصّ، وأُقيم لهم نصبٌ تذكاريٌّ على مدخل المدينة. كما أُقيم نصبٌ آخر بعد حرب 2006، ضمّ شهداءَ الكتيبة من أبناء بنت جبيل وشهداءِ المقاومة. وشهدتْ بنت جبيل احتفالًا ضخمًا بالتحرير، أُبّن فيه الشهداءُ بكلمةٍ ألقاها أحدُ رفاقهم، وألقى فيه السيّد حسن نصر الله خطابَ التحرير.

هذه حقيقة معركة بنت جبيل التي لم يذكر الرفيق ماهر كلمةً واحدةً عنها، وأوحى مضمونُ حديثه بأنّ انسحابًا مبكّرًا قد حدث، لا منها فحسب، بل من المنطقة كلّها أيضًا. وهذا منافٍ لتطوّرات الحوادث اللاحقة. والسبب بسيطٌ، إذ لم يكن هناك أيّ موقع للجبهة الشعبيّة على تلال بنت جبيل، وكان تموضعهم في منطقة الطيرة وكفرا وعيناتا، حيث توجّه الرفيق ماهر، إضافةً إلى مجموعةٍ تموضعتْ في مارون الراس بعد تحريرها.

في الحوار الذي يزعم الرفيق ماهر أنّه دار بيننا على مثلث كونين يقول إنّه أبلغني بما يأتي:

"لن ننسحب، وسنقاتل بحسب خطتنا." والخطة هي التوزّع على "مجموعاتٍ صغيرة (ثلاثة مقاتلين أو أربعة)، تُشكّل كلٌّ منها وحدةً تشمل مضادًّا للدروع ورشّاشات. كما وزّعنا مخازن سلاحٍ احتياطيّةً، صغيرةً، على العديد من المواقع، وتيقنّا أنّ كلّ مجموعة تعرف مكان تلك المخازن."

كلامٌ جميلٌ يمثّل نموذجًا ثوريًّا لحرب العصابات، تضمّن تطبيق قاعدتها الأساسيّة المتمثّل في المحافظة على الذات وإفناء العدوّ. ولكن كيف طُبّق ذلك؟ دعونا نذهب إلى ما قاله الرفيق ماهر.

في الساعات التي قضاها الرفيق ماهر في عيناتا قام بإرسال (أي سحب) "مجموعة فدائيّي خلق إلى صور خوفًا من وقوعهم في يد الاسرائيليين." وحاول البحث عن رفيقٍ كويتيٍّ مفقود "لكنّه كان على الأغلب قد استُشهد في مارون الراس،" ما يوحي بأنّه الخسارة الوحيدة في هذه المعركة. ثم اجتمع مع قادة المجموعات في محاولة لـ "تقدير نقاط تقدّم العدو لتجهيز الكمائن على عُقد المواصلات الإجباريّة. ثمّ توجّهنا على رأس المجموعات إلى وادي عاشور، حيث نستطيع من هناك الوصول إلى تقاطعات الطرق في صدّيقين وجويّا وشمال كفرا."

باختصار، فإنّ هذا يعني، وفق منطوق الرفيق، أنّه اتّخذ منذ صباح اليوم الأول للاجتياح قرارًا بالانسحاب من منطقة بنت جبيل، وأنّ خسائر الجبهة الشعبيّة في هذا القاطع كانت شهيدًا واحدًا سقط في مارون الراس، وأنّ حضوره إلى المنطقة كان من أجل تنظيم ذلك.

استمر الاجتياح الصهيونيّ ثمانية أيّامٍ بلياليها، بفضل المقاومة المستمرّة على محاور التقدّم. وهنا استخدمنا تكتيكَ العُقد المتتالية: فوضعنا الكمائنَ المتتابعة على خطوط تقدّمه، ومن ثمّ وُضعتْ عقدةٌ قويّةٌ فيها كمائن عدّة. حدث هذا في بيت ياحون وحداثا وتبنين والشهابيّة وجويّا، حيث دارت معركةٌ كبيرة. وخلال هذه المعارك استُشهد 7 مقاتلين، وأُسر متطوّع إيرانيّ كان هو الأسير الوحيد لنا في هذه الحرب. وفي اليوم السابع للحرب دفعنا بقوّة إضافيّة إلى محور دردغيا العباسيّة، حيث قصف العدوّ مسجدَ العبّاسيّة بعد المقاومة الضارية التي واجهها هناك ودفعتْه إلى التوقّف قبل أن يصل إلى ساحل البحر.

هل حدث مثل ذلك ضمن رواية الرفيق ماهر ووفقًا للخطّة الموضوعة؟ يقول الرفيق إنّ العدوّ في اليوم الأوّل "لم يكن قد تقدّم حينها، فلم يحصل الاشتباك." لكنّ العدوّ لم يتقدّم في اليوم الأوّل لأنّه كان ما يزال مشتبكًا على الحدّ الأماميّ لقواتنا! أمّا في اليوم الثاني فقد وصل [ماهر] (من دون اشتباك) هو ومجموعاتُه "إلى البازوريّة بناءً على توجيهاتٍ من القيادة... حتى المجموعات التي كان يُفترض أن تبقى انسحبتْ بناءً على أمر القيادة ذاك!"

في اليوم الثامن للحرب وصلت القواتُ الإسرائيليّة إلى البازوريّة، لكنّ الحظّ لم يحالف الرفيق ماهر الذي توجّه "مع رفيقين لنسف الطريق الإجباريّ بين البازوريّة ووادي جيلو"؛ ذلك أنهم تأخروا، "إذ دخلت الدبّابات [الإسرائيلية] قرية البازورية... عدنا أدراجَنا، واتخذنا مواقع دفاعيّة حول صور."

الاشتباك الوحيد الذي يتحدّث عنه حدث "في برج رحّال باتجاه مخيّم القاسمية" في اليوم الثامن للحرب، حين اشتبكت مجموعةٌ مشتركة مع قوّةٍ معادية ودمّرتْ آليتين، واستشهد آمرُ الفصيل [محمود ياسين] متأثّرًا بجراحه.

***

يختصر اليماني روايته للاجتياح في جملةٍ يقول فيها: "كان قرارُ الجبهة واضحًا في القتال، وشاركتْها فيه فصائلُ أخرى مثل الجبهة الشعبيّة ـــــ القيادة العامّة، التي قدِمتْ مجموعاتُها من بيروت، وشاركتْ في التصدّي للغزاة في صدّيقين وفي رأس العين مع الجبهة الشعبيّة في صور."

لا شكّ لديّ في قرار الجبهة الشعبيّة وغيرها من الفصائل في القتال. وأجزم أنّ ثمّة بطولاتٍ قد حدثتْ لمقاتلين مجهولين في القطاعات المختلفة. ولكنّني أجزم أنّه إذا كانت روايةُ الجبهة الشعبيّة، عبر الرفيق ماهر في حواره مع الآداب، هي روايةَ الاجتياح الحقيقيّة، فإنّ حجمَ ما فيها من الإساءة للجبهة الشعبيّة ولقرارها بالقتال وشجاعة مقاتليها أكبر من أن يُحتمل؛ فضلًا عن اختزال التاريخ الحقيقيّ للمقاومة والحركة الوطنيّة بقصّةٍ من هنا أو هناك. ولعلّ سببَ ذلك أنّ الرفيق ماهر في هذا الحوار قد تغلّب عنده الجانبُ الإيديولوجيّ والمناكفاتُ السياسيّة على رؤية الأشياء كما هي. ولعلّ هذا يتّضح  في الفقرة الختاميّة حين اعتبر "أنّ الانخراط في الحرب في وجه قوى اليمين اللبنانيّ أدّى إلى إبعاد التناقض الداخليّ مع اليمين الفلسطينيّ عن دائرة الاهتمام، بل أدّى إلى الاتساق والتحالف معه." 

عندما تظهر الإيديولوجيا بهذا الوضوح، تخضع له الذاكرةُ، ويَفقد السردُ التاريخيُّ معناه. ومعه نفتقد الرفيق ماهر اليماني، المناضلَ الصلبَ ذا التاريخ الحافل؛ المناضل الذي لا يحتاج إلى مثل هذه المناكفات كي يسجِّلَ دورًا.

 

* https://goo.gl/LzcrGu

 https://goo.gl/7jQL1M

معين الطاهر

كاتب وباحث فلسطينيّ. عضو سابق في المجلس الثوريّ لحركة فتح، والمجلس العسكريّ الأعلى للثورة الفلسطينيّة. ساهم في تأسيس الكتيبة الطلّابيّة منتصف السبعينيّات. قائد للقوّات اللبنانيّة ــــ الفلسطينيّة المشتركة في حرب 1978، منطقة بنت جبيل ــــ مارون الراس، وفي النبطية ــــ الشقيف عام 1982.