من شَامَا(1) للعين القِبْلِيّة(2)
13-11-2016

 

 

في تلك الفترة، كان أكلُ اللحم في حدّ ذاته ترفًا، والسفرُ ضياعًا، والزواجُ منديلًا أبيضَ تجتمع عليه كلُّ البيوت. أمّا مشوارُ "العين،" فكان مهمّةَ النسوة في قريةٍ تعاني شحًّا في الرجال.

لم يكن هناك ما يميّزُها. فهي تسكن في شاما البلد، بمحاذاة بستان تينٍ ومارس؛(3) زيتون اختلف الورثةُ عليه، وحرثتْه بنفسها من دون أن يعترضَ أحد.
لها من الأولاد خمسة، وسادسٌ لم يغادرْ أحشاءها. الزوج "قاصد وجه الكريم،" وهذه جملة تردّدها أمّي، أكبرُ عنقود الأبناء. وإلى اليوم لا نعرف إنْ كان قد وصل.
ضنكُ العيش حملتْه على رأسها. ومع ذلك، ما انحنى لها ظهرٌ؛ فالانحناءُ يعني الوقوع. وكيف تقع مَن سافر زوجُها وترك لها حَمَلة اسمه، وأمَّه، وأختَه الكسيح؟!

بدايةَ الشتاء تصبح الروائحُ وقحةً. تلتصق بثيابنا الثقيلة، كرائحة الطابون التي تناثرتْ من أكمامها وهي تهزّ أمّي لتخلعَها من نومها. كانت تلطم خدَّها، وهي تنظر إلى شعاع شمسٍ يشقّ عتمةَ السماء. حملتْ جرّتَها ومضت آملةً أن تلحقَ "رَبَعاتِها"(4) إلى عين الماء القبليّة؛ فقد تركنَها غارقةً في نومها، ولن تسْلَم من ألسنةٍ ستسمُها بالكسل وقلّة التدبير.
ثوبُها مرفوعٌ حتّى وسطها. وسروالُها لم تعد ترى لونَه. قطعتْ أكثرَ من ثلثَي المسافة من دون أن تصادفَ أحدًا. حتّى الشمسُ لم تشرق، بل اختفَت!
وقفتْ للحظات يلفّها شعورٌ بالجزع. ثمّ كان قرارُها بالاستمرار، وعينُها معلّقةٌ بالسماء التي دفنتْ نجومَها وراء غيم يمشي على عجل.
بيدين مرتجفتين، ألقمتْ فمَ الجرّة حلمةَ العين، ولم تصبر عليها لتشبع. انتزعتْها بعد دقائق وقفلتْ راجعةً. قلبُها يسبق أنفاسَها. ولم يكبح خطواتِها إلّا اقترابُها من مارس الزيتون، الذي يتوجّب عليها قطعُه لتصل بيتَها. تمتمت في "عِبِّها،" ومشت في ليلٍ حالك.
كان صوتٌ، بل عدّة أصوات، تهمس وتنفلت منها ضحكة. تجاهلتْ ما ترامى إلى سمعها، خصوصًا أنّها لم تفهم منه شيئًا. توقّف الصوت. وسرعان ما تبعتْها تلك الظلالُ. ركضتْ بكامل عزمها بعد أن ألقت حمولتها، وهي تصيح: "يا خضر نجِّني... يا خضر نجِّني..."
دخلت البابَ الخشبيَّ الكبير، فشعرتْ بشيء من الأمان. امتشقتْ درجَ الصوّان لتجد أمّي جالسةً فوق فراشها.
دسّت نفسَها في حِجْر ابنتها ذاتِ الأحد عشر عامًا. وأطبقتْ على كفّيها. وبهستيريّةٍ كرّرتْ:
ــــ لو بِدْري الجنّ بده يلحقني ما رحتش...
لكنّ خوفَها على شرفها أن يُدنّس، إذا ما عرف أحدٌ بمشوارها الليليّ، لم يتركْ لها إلّا خيارَ الاستمرار ذاك. المسكينة كانت تبكي بحرقةٍ وهي تحاول أن تُقْنع أمّي بأنّ تعبَها من جلسة الطابون، وحمْلَها بالشهر السادس، أوقعاها فريسةً لغفوةٍ قُبيل المغرب. وحلفتْ أغلظَ الأيمان أنّها عبّأتْ جرّتها، ولكنّها أوقعتها.

ماتت جدّتي تلك الليلة. وروايةُ أمّي تأرجحتْ بين مُصَدِّقٍ ومُكَذِّب، وبين ذُممٍ توسّعتْ وأخرى اتّقت اللهَ.

لم تجدِ النسوةُ ماءً تغسِل جدّتي به. فانتظرن مَن يقطع المسافةَ، من شاما إلى العين القبليّة. وهي المسافة ذاتُها التي أقطعُها أنا اليومَ بسيّارةٍ، أركنُها وأترجّلُ منها عند بداية مارس الزيتون، الذي أصبح وراء إشارة "قفْ" بالعبريّة.
هنا، بالضبط، أقصى ما يمكنني الوصولُ إليه. فمن دون تنسيق مع ضابط الارتباط سأكون عرضةً لرصاصةٍ تترصّدُني منذ اقتربتُ من هذا الشبك المعدنيّ. 

 عمّان

هوامش:

1- شاما: شمال، بلهجة قرى وسط فلسطين.

2- قبليّة: نسبة إلى القبلة، وهي الجهة الجنوبيّة، بلهجة قرى وسط فلسطين.

3- مارس: قطعة أرض مستطيلة الشكل.

4- ربعاتها: قريباتها وصديقاتها.

 

اسماء عوّاد

كاتبة فلسطينيّة مقيمة في الأردن. حاصلة على دبلوم تكنولوجيا المعلومات