نساءٌ حَلمْنَ بوطن: وردة بطرس إبراهيم، أيقونةُ الجمهوريّة اللبنانيّة الأولى
20-02-2017

 

في التاسع عشر من أيّار سنةَ ١٩٤٦، هدَّد عمّالُ شركة إدارة حصر التَّبغ والتنباك اللبنانيّة ــــ الرِّيجي وعاملاتُها بإعلان الإضراب العامّ إذا لم توافق إدارةُ الشركة على مطالبهم، وأهمُّها: زيادةُ الرواتب والتثبيتُ في الوظيفة.(1) توقَّع المضرِبون أن تماطلَ الإدارةُ في تلبية مطالبهم، فلجأوا إلى تكتيكٍ تصعيديّ: عمدتْ مجموعةٌ من العاملات إلى توزيع بيانٍ على زملائهنّ وزميلاتهنّ في الأقسام الأخرى من الرِّيجي، ودعوْنهم إلى مؤازرتهنّ في الإضراب الذي سيعلنَّه في الأيّام القادمة. فما كان من إدارة الرِّيجي إلّا أن اتَّخذتْ قرارًا بنقل جان تويني، أبرزِ القادة العمّاليّين في الرّيجي، من مركز الشركة الرئيس في بيروت إلى فرعها في طرابلس. كما ساندت الحكومةُ اللبنانيّةُ، عبر وزارة المال، واستنادًا إلى سلطة الوصاية الرسميّة على الرّيجي، قرارَ نقل تويني، وأيّدتْ رفضَ إدارة الشركة التفاوضَ مع العمّال قبل أن يتراجعوا عن إضرابهم. وزادت مواقفُ صائب سلام، وزيرِ الداخليَّة آنذاك، من تعنُّت الإدارة تجاه مطالب العمّال المحقَّة؛ فقد اشتُهر بقوله إنّ سياستَه تقوم على مبدأ "الحزم والعزم." بيْد أنّ هذا التهويل لم يفتّ من عضد المضربين، فقامت إدارةُ الرِّيجي بطردِ أربعٍ وعشرين عاملةً وعاملًا من وظائفهم، جلُّهم من قائدات الإضراب والناشطين في التحضير والتحريض ضدّ الإدارة.(2)

كان للصحف اليساريّة قصبُ السبق في تعرية نوايا الإدارة، وفي التصريح بأنّ مَن طُردوا من العمل كانوا جميعُهم نساءً عاملاتٍ نظَّمن الإضراب.(3) في هذا السياق، تجدر الإشارةُ إلى أنّ نضالاتِ المرأة في لبنان لم تسترعِ انتباهَ معظم رجال الصحافة والقادة النقابيّين ومثقّفي الأربيعينيّات من القرن الماضي. هكذا تحمَّلت العاملاتُ من الاستهتار بلقمةِ عيشهنّ، ومن تعسّفِ قرارات الرِيجي، ما لم يقع على زملائهنّ الرجالِ أنفسِهم. وبرغم هذا التهميش، أظهرت المضرباتُ صلابةً نادرةً، فتشبّثن بمطالبهنّ وقرَرنَ السيرَ حتّى النهاية.

بعد مضيّ شهر على الإضراب، أصدرتْ إدارةُ الرِّيجي مذكّرةً تدعو فيها جميعَ العمّال الى إنهاء الإضراب، ووعدتهم بدراسةِ مطالبهم إنْ عادوا إلى أعمالهم. لكنّ المضربات والمضربين لم يتلقّوْا أيّةَ إشارةٍ إيجابيّةٍ من الإدارة التي مضت في التسويف. عندها قاموا باحتلال معمل الريجي ومستودعاتِه المركزيّة في منطقتيْ مار ميخائيل وفرن الشُّبّاك (بيروت)، واعترضوا شاحناتِ الشركة ومنعوها من تحميل علب السجائر المعدَّة للتوزيع في الأسواق المحلّيّة.(4) بعدها، حاول أزلامُ الإدارة فتحَ أبواب المستودعات في فرن الشبّاك بالقوّة وشلِّ الإضراب. فبادر العمّالُ إلى تشكيل عددٍ من اللجان لحراسة أملاك الشركة من التعدّيات، ولمنع دخول عمّالٍ من خارج الملاك استخدمتْهم الإدارةُ لكسر الإضراب.

استعدّ الجميعُ لمواجهةٍ طويلة، وأعلنوا استعدادَهم لبذل الغالي والرخيص في سبيل إنجاح الإضراب. الحكومة اللبنانيّة أَرسلتْ على الفور قوّةً كبيرةً من الشرطة إلى مركز الإضراب عند مستودعات الريجي، فأمعن أفرادُها في مضايقة المضربين عبر تهديدهم بالاعتقال وشلِّ إرادتهم بقوّة السلاح. تصاعدتْ حدّةُ التوتّر والغضب، فشكّلتْ مجموعةٌ من العاملات لجنةً للإضراب بقيادة العاملة أسمى مَلكون. وحذا الرِّجالُ حذوَهنّ، فشكّلوا لجنتهم بقيادة توفيق سبيْتي. اجتمعت اللجنتان وأعلنتا عن صَهر نشاطيْهما في إطار لجنةٍ موحَّدة. وفي إحدى الكنائس القريبة من مستودع الرّيجي في فرن الشبّاك، اتّخذت اللجنةُ الموحّدةُ قاعةً أصبحتْ، خلال ساعات، "غرفةَ عمليّات" الإضراب. وراحت ترسم خطواتِ الإضراب القادمة.

كانت الخطوة التنظيميّة الأولى لهذه اللجنة تشكيلَ لجان فرعيّة، أهمُّها تلك التي هدفتْ إلى حماية العاملات والعمّال من الاعتقال ومن الحؤول دون عودتهم إلى العمل؛ فقد حاولت الشركة، قبل ذلك وبمساعدة الشرطة، إقامةَ حاجزٍ عند مدخل المستودعات والمكاتب، لتمنعهم من الدخول. ولا شكَّ في أنّ مثل هذه الخطوات التنظيميّة قدّم دليلًا واضحًا على تطوّر وعي النقابيّين والنقابيّات. وقد أغدق الصحفيّون الذين وفدوا إلى مكان الإضراب عباراتِ الإعجاب والتقدير عليهم، ووصفوا ما رأوْه فيهم من "رباطة جأشٍ ووعيٍ وتفهّمٍ وإدراك."(5)

من النساء اللواتي لمعتْ أسماؤهنّ في هذا الإضراب: جوزفين أشقر، ماري بلطجي، نجلا دكّاش، روز داموري، لور ديب، سعدى حبيْقة، وردة بطرس إبراهيم، جميلة إسحاق، ماري خطّار، ماري جعجع، أسمى ملكون، ماري مارديني، رفيقة مجاعص، بهيجة نهرا، لطيفة رشدان، جميلة شهوان، عفيفة ثابت، وسيلة دبوق. أمّا زملاؤهنّ الرجال فحكوْا عن روح التفاني التي تمتّعنَ بها، ووصفوهنّ بالـ"قبضايات" الصلبات اللواتي لا يثني من عزيمتهن شيءٌ. وفي المقابل، أبدى أصحابُ المناصب العليا في إدارة الريجي سخطَهم على المضربات، ورموْهن بنعوتٍ بائسةٍ مثل: "متهوِّرات، عناصر غير منضبطة،" ما كشف عن قلقٍ حقيقيٍّ من تحدّي النساء لهم بخروجهنّ إلى الحيّز العام، الذي هو في الغالب حكرٌ على الرجال.

لقد سمح نظامُ القيم المهيمِن باستغلالهنّ بطريقةٍ أقسى من الرجل في العمل الصناعيّ.(6) وهذا التمييزُ الجنسيّ والسلطةُ الذكوريّة انعكسا في ظروف العمل، وفي مستوى الأجر، وفي المعاملة داخل الشركة. وانتقل هذا الإجحافُ إلى النسيج الاجتماعيّ والسياسيّ والقانونيّ؛ فالنظام اللبنانيّ نظامٌ قبليٌّ ــــ طائفيٌّ يستند على مثل تلك السلطة الذكوريّة التي تضع المرأةَ في علاقةٍ دونيّةٍ بالرجل دومًا.(7) هكذا، اعتُبرتْ عاملاتُ التبغ المضرِبات عناصرَ غير منضبطة، تمرّدن على الدور المرسوم لهنّ في الهيكليّة الاجتماعيّة، ووُصمنَ باللاعقلانيّة كي يقال إنّهنّ لا يدركن نتيجةَ أفعالهنّ.

إنّ إطلاقَ صفة "التهوّر" على النساء يكاد يكون ممارسةً شبهَ عالميّة عبر التاريخ. فالمرأة عندما تشارك في إضرابٍ ما، أو تبادر إلى التوقّف عن نظامٍ ما، تُعتبر أنّها دخلتْ في حالةٍ "استثنائيّة،" مقارنةً بالوضع السابق الذي كانت خاضعةً فيه لنظامِ عملٍ واضح، رَسَمَتْ قوانينَه سلطةٌ طبقيّةٌ ذكوريّة. لذا، يكون الخروجُ عليه تحدّيًا للقيم العامّة وتهوّرًا قد يُلحق الضررَ بالانتظام العامّ، الأمرُ الذي يستدعي القوّةَ لـ"إعادة الأمور إلى نصابها": أيْ لإعادة المرأة إلى الشركة والبيتِ والحقل وكلِّ الأمكنة التي "يتوجّب" عليها أن تعمل فيها. ويعني هذا، أيضًا، إعادتَها إلى "صوابها،" أيْ إلى دورها أمًّا أو زوجةً في نظام العائلة، أو فلّاحةً في حقلِ تبغ، أو عاملةً في مصنع تبغ.

في المرحلة التي تلت الاستعمارَ الفرنسيّ، استقطبتْ صناعةُ التبغ النساءَ من جميع الطوائف اللبنانيّة خصوصًا بعد تراجع صناعة الحرير، بفعل دمج اقتصاد لبنان بالسوق العالميّة في منتصف القرن التاسع عشر.(8) وساعد الوضعُ شبهُ المستقلّ لـ"جبل لبنان،" التابعِ لنظام المتصرّفيّة بين العامين ١٨٦١ و١٩١٤، على تحقيق هذا الانعطاف، إذ نَعِمَ الجبلُ باقتصاديّاتٍ تحرّرتْ نسبيًّا من قبضة الباب العالي في اسطنبول. وفي فترة قصيرة، أصبح التبغُ من صادرات جبل لبنان الأساسيّة إلى مصر وغيرِها من بلدان السلطنة العثمانيّة.(9)

كان للمرأة دورٌ أساسٌ في هذا النشاط الاقتصاديّ، فقدّمتْ بعملها مصدرَ دخلٍ لعائلتها. الجدير ذكرُه أنّ أهمّيّة عمل المرأة في التبغ، كمثيله في الحرير، يَدحض المقولاتِ الاستشراقيّةَ التي تعطي المرأةَ دورًا هامشيًّا في الشرق الأوسط والمجتمعات الإسلاميّة في عمليّة إنتاج الربح. وفي أحسن الأحوال، كان عملُها يوصَف بالنشاط الثانويّ، ويُلحَق بعملها المنزليّ، فلا يُعيل عائلتَها، ولا يأتي بأجرٍ منتظم.

أمّا اذا وضعنا جانبًا المفهومَ الرأسماليَّ للعمل، أيْ مفهومَ القيمة الماليّة لأيّ عملٍ في سوق التبادل الرأسماليّة، فإنّنا سنكون أمام حقيقة ساطعة كالشمس، وهي أنّ عمل المرأة كان دعامةً أساسيّةً لأفراد عائلتها؛ وأنّ وجوهَه المختلفة، المرتبطةَ بالبيت والحقل والمصنع والسوق، كان غايةً في الأهمّيّة، ويَصعبُ تخمينُه ماليًّا (أفي إمكان العقل الرأسماليّ، مثلًا، أن "يُقَرِّشْ" قيمةَ عمل المرأة في صنع "المونة" استعدادًا لموسم الشتاء، أو أن يحدّدَ ساعاتِ العمل التي صرفتها؟)

ثمّ إنّ المرأة اللبنانيّة دخلتْ سوقَ العمل الرأسماليّة في منتصف القرن التاسع عشر من خلال صناعة الحرير والمنسوجاتِ القطنيّة والصوفيّة. فعمِلتْ نساءُ الأسرة الفلّاحيّة نهارًا في الحقل إلى جانب الزوج والأولاد، وليلًا حملت النَولَ لتحوكَ الملبوسات، فكست أجسادَ عائلتها، وباعت بعضَ ما حاكته للتجّار في السوق. وغالبًا ما كان يأتي تاجرٌ من بيروت، أو مدنٍ أخرى، فيتعاقدُ مع ربّ الأسرة، و"يوصيه" على البضاعة التي ستصنعها زوجتُه وأمُّه وأختُه وابنتُه، ويحدّد البدلَ الماليّ، ويتّفق معه على وقت التسليم بعد أن يعطيه الموادَّ الخامّ.

أمّا بالنسبة إلى زراعة التبغ وصناعة الدخان فنادرًا ما خلا منزلٌ ريفيّ، وبخاصّةٍ في منطقة جبل لبنان الشماليّ وقرى جبل عامل، من حاكورةٍ لزراعة شتلة التبغ الخضراء، ما رفد العائلةَ بمبلغ ماليّ محترم. وتلا ازدهارَ زراعة التبغ، هذه، نشوءُ معامل دخان في مناطق لبنانيّة عدّة. لكنّ شروط العمل في هذه الصناعة اتَّخذت الطابعَ الموقّت؛ فكما كانت زراعةُ التبغ موسميّةً (مرّتين في السنة)، كانت صناعةُ الدخان موسميّةً أيضًا، ما أثّر في طبيعة العمل والأيدي العاملة التي شكّلتِ النساءُ فيها نسبةً لا تقلّ عن أربعين في المائة. والحال أنّ طبيعة العمل الموسميّة هذه أرخَت بظلالها الثقيلة على القوى العاملة، فوسَمتْها بعدم الاستقرار، تبعًا لحالة الموسم الزراعيّ الذي غالبًا ما ارتبط بالمُناخ الجغرافيّ والوضعِ الصحّيّ وانتشارِ الأمراض التي كثيرًا ما فتكت بمواسم الدخان وأدّت إلى انخفاض الأجور، وخصوصًا أجور النساء. فانعدمت التقديماتُ الصحّيّة والاجتماعيّة، والحقوق والمكاسب التي كان يَحصل عمّالُ الصناعات الأخرى على بعضٍ منها.

ارتكز العملُ في صناعة الدخان، قبل دخول الماكينة إليها، على العَمالة المكثَّفة والمُركَّزة. فشكَّلت اليدُ النسائيّةُ نموذجًا مثاليًّا لهذه المهنة، لكون النساء ــــ كما زعم خبراءُ الصناعة وأربابُ العمل ــــ يملكن "أناملَ سحريّةً،" ويتمتّعن بصفاتٍ كـ"الطاعة" و"سهولة التعلّم والانقياد،" ويقبلن بأجورٍ زهيدةٍ مقارنةً بأُجور الرجال. وكانت عمليّة إنتاج الدخان تجري في معملٍ مقسّمٍ إلى غرفتين أو ثلاث: تُستقبل بدايةً أوراقُ التبغ المُكبَّسة والموضَّبة في بالاتٍ من الخَيش، فتنقعها النساءُ ساعتين أو أكثر، وبعد تنشيفها، يبدأ فرمُها باستخدام "الهاوِن" و"المَنقَلة" (التي استُخدمت سابقًا في فرم أوراق التوت البرّيّ لإطعام دود الحرير).(11) هذا العمل المضني والمُملّ، الذي قامت به النساءُ، حوّل التبغَ إلى دخانٍ للأركيلة والغليون، أو معجونٍ للمضغ، وبودرةٍ للشمّ، قبل ظهور ورق اللفّ، ومن ثمّ السيجارة من أوروبا في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر.

وأُضيفت مرحلةٌ جديدةٌ في عمليّة إنتاج الدخان، ألا وهي لَفُّ السجائر. فراحت "أناملُ النساء السحريّة" تتسابق في إنتاج أفضل السجائر شكلًا، وفي زمنٍ قصير، تلبيةً لحاجات السوق. وقد تزايدتْ علبُ السجائر باطِّرادٍ في السوق الرأسماليّة، فاستهلكها كثيرون إذ أصبحتْ، بالنسبة إليهم، عنوانًا للحداثة والتحرّر والمتعة الشخصيّة. وأتت السجائر بأرباح هائلة على المستثمرين، الذين لم يولوا الأضرارَ الصحّيَّةَ الناتجةَ من التدخين أدنى اعتبار.

ضربتْ سلطاتُ الاستعمار الفرنسيّ عرضَ الحائط بمعارضة تجّار التبغ والصناعيّين والفلّاحين في لبنان لأيّ احتكار في إنتاج التبغ، وفَرضَوا سنة ١٩٣٥ احتكارًا على هذا القطاع يقضي بتسليمه إلى عدّة شركاتٍ أجنبيّة، شكّلتْ "كونسوريومًا" ماليًّا عُرف باسم "شركة إدارة حصر التبغ والتنباك اللبنانيّة" (الريجي)، وذلك مقابل اقتطاع مبلغ من المال لخزينة دولة لبنان الكبير. ومنذ تأسيس الريجي شكّلَتِ النساءُ ٤٥٪ من القوّة العاملة، وبينهنّ عددٌ لا يُستهان به من الشابّات العازبات، عمل معظمُهنّ في الأقسام التي لا تتطلّب مهاراتٍ فنّيّة، بينما احتلّ الرجالُ معظمَ الوظائف الإداريّة.

كانت مدّة العمل المقرَّرة للعاملات من السمات الأكثر ضررًا في سياسة الريجي التوظيفيّة. فكنّ يوظَّفن ستّةَ أشهرٍ فقط، وبعدها يُفصَلن من العمل، وفي الموسم الجديد يوظَّفن من جديد، ومن ثمّ يُحرمن الحصولَ على عقدِ عملٍ دائم ودخلٍ مستمرّ على مدار السنة، وتغلَق عليهنّ الأبوابُ أمام أيّ تعويضٍ ماليّ نتيجةً للفصل الاعتباطيّ من العمل. أمّا أجورُهنّ (3 دولارات يوميًّا) فكانت أقلَّ بكثير من أجور زملائهنّ الرجال، علمًا أنّ ساعات العمل كانت تسعًا يوميًّا.(12) وممّا فاقم من معاناتهنّ عمومًا، ومعاناةِ عاملاتِ التبغ خصوصًا، أنّ المُشرِّع لم يجترح قانونًا يحميهنّ ويصون حقوقهنّ من تعدّيات أرباب العمل المستمرّة. وكانت الحركة العمّاليّة قد بدأتْ لتوِّها في تنظيم تحرّكات للضغط على الحكومة اللبنانيّة ومجلسِ النوّاب لإقرار قانونٍ للعمل، أسوةً بباقي الدول الحديثة التي بدأت تنال استقلالها تباعًا.

 

في الطريق الى الإضراب

في الأشهر القليلة التي سبقتْ إضرابَ عمّال الريجي، نَجَحَ العمّالُ والموظّفون في شركة الكهرباء في تحقيق مطالبهم، ولكنْ ليس عبر الإضراب، بل عبر الوسائل القانونيّة والمحاكم. فقد تقدّم أحدُ عمال الكهرباء، ويُدعى حسن الدرزي، بشكوى ضدّ شركة الكهرباء؛(13) فأصدرت المحكمةُ حكمَها لصالحه، ما شجّع عمّالَ الكهرباء الآخرين على التقدّم من إدارة الشركة طالبين معاملتَهم بالمثل. وسرعان ما انتقلتْ أخبارُ انتصارات عمّال شركة الكهرباء وموظّفيها إلى العمّال والموظفين في شركة الريجي؛ فتقدّموا، في ١٩ أيّار ١٩٤٦، من الإدارة بلائحةِ مطالب، أهمُّها الحصول على المكاسب التي حصلَ عليها عمّالُ الكهرباء، مهدِّدين بإعلان الإضراب إذا لم يُستجب إليهم. كما طالبوا بالآتي: 1) زيادة في الأجور؛ 2) إلغاء القرض الماليّ الذي أعطتهم إيّاه الشركةُ سابقًا بديلًا من مطلبهم بزيادة الأجور، والحصول على قرض جديد يعادل أجرَ شهر؛ 3) إعطاء العاملات تعويضًا كاملًا من نهاية الخدمة عندما يتركن العملَ بداعي الزواج؛ 4) تثبيت العاملات والعمّال الموقّتين أو الموسميّين؛ 5) إعطاء العاملات المُثبّتات التقديماتِ والتعويضاتِ والعلاواتِ ذاتَها التي يحصل عليها زملاؤهنّ الرجال.

حاولتْ إدارةُ الريجي تلافي الخوض في مطالب عُمّالها وموظّفيها، ومن ثمّ إجهاضها، مدّعيةً ــــ كما فعلتْ شركة الكهرباء من قبل ــــ أنّها شركة أجنبيّة لا تتبع القانونَ اللبنانيّ.(14) وساهم في تعنّت مثل هذه الشركات الأجنبيّة ما كان يجري بين السلطات الفرنسيّة والقوى الوطنيّة السوريّة من صراعات سياسيّة؛ إذ رَفَضَ الرئيس الفرنسيّ شارل ديغول (١٨٩٠ ــــ ١٩٧٠) الانسحابَ من سوريا ولبنان، بل قصف دمشقَ بالطائرات في 29 أيّار 1945 ردًّا على مظاهرات الجماهير والقوى الوطنيّة السوريّة.

وفي السياق الزمنيّ ذاته تقريبًا، كانت تباشيرُ تحرّكٍ عمّاليّ آخر قد بدأتْ بالظهور في لبنان، مطالبةً بإقرار قانونٍ للعمل يُنظِّم العلاقةَ بين العامل وربِّ العمل، ويحفظ حقوقَ العمّال، ويشرح لهم واجباتِهم. لكنّ ولادة هذا التحرّك كانت مُتعثّرة: إذ اصطدم، تارةً، بنظام اقتصاديّ يعتمد على الخارج ويحميه الاستعمارُ؛ وواجهَ، تارةً أخرى، حكومةً بائسةً ضمَّت وزيرًا للداخليّة جشعًا، يتباهى برفع شعار "الحزم والعزم،" ويستهدي به في خططه ومواقفه من العمّال، من دون النظر إلى أسس مطالبهم القانونيّة.

هكذا أتى إضرابُ عمّال الريجي وموظّفيها كـ"الشعرة التي قصمتْ ظهرَ البعير." فسالت دماءٌ شابّةٌ أرغمتْ سلطةَ الرأسمال على التراجع وإقرارِ قانون العمل. كما أجبرت شركاتِ الامتيازات الأجنبيّة على الالتفات إلى مطالب عمالها.

الصِدام الدامي

لم تأبَهِ الحكومةُ اللبنانيّة لأحقيَّة مطالب عمّال الريجي، وأصرَّت على إنهاء سيطرة العمّال على مستودعات الشركة، مُدَّعيةً حرصَها على استمرار تزويد السوق اللبنانيّة بالكمّيّات المطلوبة من السجائر. هكذا أَمرَ صائب سلام الشرطةَ اللبنانيّةَ بفَتح المستودعات بالقوّة. وعلى الفور، أرسلتْ شركةُ الريجي شاحنةً إلى مستودعاتها في بكفيّا أوّلًا، لتحميل صناديق الدخان ونقلها إلى بيروت. بعد التحميل، اتّجهت الشاحنة إلى مستودعات الريجي، في مار مخايِل في الضاحية الشرقيّة لبيروت، لتفريغ حمولتها كي تُوزَّع لاحقًا على التجّار. وفورَ اقترابها من المركز المذكور، تجمهرَتِ العاملاتُ المُضربات حولها، وساندَهنّ زملاؤهنّ من العمّال، ومنعوا الشاحنةَ من تفريغ حمولتها، فاتّجهتْ بحمولتها الى مستودع آخر للريجي في فرن الشبّاك (بيروت الشرقيّة أيضًا). كانت أخبار التصدّي للشاحنة في مستودع مار مخايل قد وصلتْ بسرعة البرق إلى العاملات في مستودع فرن الشبّاك، فزادت من عزيمتهنّ وإصرارهنّ على تلقين الشركة درسًا آخر. وفي الوقت ذاته، وصلت الأخبارُ إلى رجال الشرطة الذين ساءهم، على ما يبدو، انتصارُ العاملات والعمّال عليهم في المواجهة الأولى، وعظُمَ عندهم التراجعُ والاستسلام، وصمّموا على تلقين النساء درسًا يكون عبرةً لمن اعتبر، عملًا بشعار "الحزم والعزم" الذي أطلقه وزيرُ الداخليّة.

هذا ما يُفسّر ــــ في رأيي ــــ استعمالَ القوّة المُفرِط من قِبل رجال الشرطة، وإطلاقَهم النارَ على نساءٍ عزلاوات، "ذنبُهنّ" الوحيدُ: أنّهنّ تَجرّأنَ على وقف العمل، ثمّ نزلن إلى الشارع يتحدّيْنَ سلطةً جائرةً أوجَدها المُستعمِر، واحتللن مبانيَ شركةٍ أجنبيّةٍ ترفض أن تعطيهنّ أبسطَ حقوقهنّ المشروعة. حماسةُ الشابّات أوقدتْ نارَها أحلامُهن بالتخلّص من الظلم والتمييز الطبقيّ والجنسيّ. ومن ثمّ فقد كانت معركتُهنّ تشمل معاركَ اجتماعيّةً أخرى، مبطّنةً، ضدّ التقاليد والسلطةِ الذكوريّة وإرادةِ المستغلِّين التي تُعيد إنتاجَ وضعهنّ الدونيّ في العائلة والمجتمع، وتعيد إنتاجَ تبعيتهنّ للرجل.

لقد شكّلَ العملُ المأجور لهؤلاء الشابات جسرًا للعبور إلى مرحلةٍ جديدةٍ في حياتهنّ بعد مخاضٍ عسير، عرفتْ خلاله عائلاتُهنّ أقسى أنواع الوجع والخوف والجوع. هكذا افترشنَ الطريقَ أمام عجلاتِ الشاحنة المشؤومة ليمنعنها من الدخول إلى المستودع، ثمّ صِحنَ بأعلى أصواتهنّ: "لن تمرَّ الشاحنةُ إلّا على أجسادنا."(15) عندها سارع رجال الشرطة الذين كانوا يرافقون الشاحنةَ إلى إطلاق النار لتفريق النساء وإخلاء الطريق. هرع زملاؤهنّ لحمايتهنّ، فأطلق رجالُ الشرطة النار مباشرةً على أجسادهنّ المطروحة أرضًا. ولأربعين دقيقةً متواصلة، راح رصاصُ الشرطة ينهمر على الطرق، وبين أرجل المُضربات والمضربين، وعلى الجدران والأشجار المحيطة بالمكان. منازلُ الحيّ نفسه لم تسلم من رصاص "الحزم والعزم."

قُتلت العاملة وردة بطرس إبراهيم على الفور عندما أصيبت برصاصة في رأسها، و"وُجدتْ في خندقٍ محاذٍ للطريق وقد سقط نخاعُ رأسها على الأرض بجانبها." وقال شاهدُ عَيان إنّ دماغَ وردة تناثر على يديْ خطيبها، سبع خنيصر، الذي كان يقف إلى جانبها. كانت مجزرةً حقيقيّةً، جُرح فيها أيضًا ١٢ عاملًا وعاملةً، وثلاثةُ أشخاص من المارّة لا ناقة لهم ولا جمل، وأُصيب عاملٌ وعاملةٌ من الريجي بعطلٍ دائم. وواصلت الشرطةُ قمعَها، فراحت تطارد العاملات والعمّال في الشوارع والأزقّة المحيطة بالمَحَلّة، فتمكّنتْ من اعتقال تسعةٍ من المقاومين المضربين. المُضحك المُبكي أنّ وزارة الداخليّة أصدرتْ بيانًا كاذبًا، ادَّعت فيه أنّ العمال هم الذين بادروا إلى إطلاق النار.

صُعقَ الرأيُ العامّ بأخبار هذه الجريمة، وبالوحشيّة التي مارسها رجالُ الشرطة وأسيادُهم ضدّ إضرابٍ سلميّ قام به مواطنون لبنانيّون عُزّل. وجاءت ردودُ الفعل الأولى من القيادة العمّاليّة التي دَعَت عمّالَ لبنان إلى التوقّف عن العمل عشرَ دقائق استنكارًا لممارسات الحكومة الوحشيّة وشركة الريجي، وتضامنًا مع عاملات الدخان وعمّاله. وراح عددٌ كبير من نوّاب لبنان ورؤساء الأحزاب والجمعيّات الأهليّة والعمّاليّة والمراجع الدينيّة يعبّرون، في برقيّاتهم، عن استيائهم من الطريقة التي تعامل بها رجالُ الشرطة مع المضربات والمضربين. وامتلأتْ غرفُ مستشفى أوتيل ديو، حيث رقدت العاملاتُ والعمّال من الجرحى، بعشرات باقات الورد وبطاقات التضامن والتعاضد. وغَطّت صفحاتِ الجرائد اليوميّة برقياتُ الإدانة ضدّ الشرطة وأسلوب قمعها. وتحوّلت المناسبة إلى ما يشبه العرسَ الوطنيّ لـ"وردةِ الإضراب،" وردة بطرس إبراهيم، ضدّ "شوك الحكومة" وصائب سلام. فقد أثار استشهادُها، والجراحُ البليغة التي أصابت أجسادَ زميلاتها من العاملات والعمّال، مشاعرَ الغضب على السلطة وشركةِ الريجي. وفسحَتِ المجال واسعًا للتعبير عن دعم مدنيّ لمطالب عمّال الدخان. والأهمّ من ذلك كلّه كان ازدياد حجم التأييد الشعبيّ للمطلب الأساس الذي رفعتْه الحركةُ العمّاليّة، وهو إقرار قانون العمل. فلولا دماءُ وردة بطرس إبراهيم وزميلاتها وزملائها التي أُهرقتْ دفاعًا عن لقمة عيش العمّال، لنام هذا القانونُ في أدراج الحكومة لسنواتٍ، وربّما لعقود، قبل أن يرى النور. أمّا زميلات وردة وزملاؤها، فراحوا يحومون حول منزل صائب سلام أيّامًا عديدة، وهم يقيمون المظاهرات الصامتة أو "يُصفّرون،" ويلقون بمسؤوليّة المأساة على عاتقه حين أعطى أوامرَه بفتح النار على المضربات والمضربين.(16)

مونريال

1- النهار، 4 حزيران 1946، ص 4.

2- تشكّلت البنية العمّاليّة في الريجي خلال فترة الأربعينيّات من 1500 عامل وموظّف ثابتين، و350 عاملًا موقّتًا. ولا تبيّن الإحصاءاتُ المتوفّرة نسبةَ الأيدي العاملة النسائيّة فيها.

Malek Abisaab, Militant Women of a Fragile Nation (Syracuse: Syracuse University Press, 2010)

3- إلياس البواري، تاريخ الحركة العمّاليّة والنقابيّة في لبنان: 1908-1980، الجزء الأول (بيروت: دار الفارابي، 1986)، ص 278، 321.

4-  النهار، 27 حزيران 1946، ص 2.

5- المرجع السابق، صفحة 321.

6- من مقابلة مع عاملة (و. د) شاركت في الإضراب، وذلك في 1 كانون الأوّل 1997، بيروت.

7- Peter Gran, Beyond Eurocentrism: A New View of Modern World History (Syracuse: Syracuse University, 1996)

8- ما لا يقلّ عن ٢٠٠ "فبركَة" تبغ انتشرتْ في بلدات جبل لبنان بعد سنة ١٨٨٠، وما بين ألفين إلى أربعة آلآف عامل وعاملة انخرطوا في هذه المؤسّسات. راجع:

La Ministère des Affaires étrangères, Nantes, L'indicateur: Libano-Syrien, 1928-29, Per 356, 15-16.

9- جوزيف أنطوان لبكي، متصرفيّة جبل لبنان: مسائل وقضايا، 1861-1915 (بيروت: دار الكرمة، 1995).

10- مصطفى بزّي، "تطوّر الحِرف والصناعات الشعبيّة في جبل عامل،" المؤتمر الأول للثقافة الشعبيّة في لبنان (بيروت: وزارة الثقافة، 1993) و MAE, Nantes, Syrie-Liban, April 20, 1935, carton 719.

11- محمد سعيد القاسمي، قاموس الصناعات الدمشقيّة (باريس: موتون، 1960)، ص 337.

12- مصطفى العريس، مصطفى العريس يتذكّر (بيروت: دار الفارابي، 1982)، ص 422-423.

13- في ربيع العام 1946 رفع عمّالُ شركة الكهرباء المضربون عدّة مطالب كان أهمّها: "تشريع العمل؛ عدم الانتقام من العمّال النقابيين وغير النقابيين بطردهم من العمل إلّا في ظروف سرقة أو ما شابهها؛ رفع بدل غلاء المعيشة أو رفع أساس الراتب...؛ تثبيت الموظّفين والعمّال بعد سنة من دخولهم العملَ على الأكثر وتنظيم ترقية الموظفين والعمال القانونية؛ جعل الأجرة شهريّةً بعد مضيّ أربع سنوات؛ تنظيم الزيادات السنويّة؛ إعطاء العمّال أجورَ أيّام المرض والراحة الأسبوعيّة والفرصة السنويّة." الياس البواري، تاريخ الحركة العماليّة، الجزء الأوّل، 269.

14- منَحت السلطة الاستعماريّة الفرنسية مجموعةً من المُستثمرين الأوروبيين عدّة امتيازات اقتصادية في البلدان الخاضعة لها. واستهدفت هذه الامتيازات أهمَّ المرافق الاقتصاديّة المربحة، فانبثقت شركاتٌ احتكاريّةٌ لإدارة هذه المرافق كان أهمّها في لبنان: شركة التنوير(الكهرباء) والترامواي؛ وشركة إدارة حصر التبغ والتنباك اللبنانيّة؛ والشركة العامّة للطرقات؛ وشركة إدارة المرفأ؛ وبنك سوريا ولبنان. ولم يصبح الريجي شركة وطنيّة لبنانيّة إلّا بعد اتّفاق الطائف عام 1989.

15- النهار، 30 حزيران، 1946، ص 1.

16- و. د، مقابلة مع المؤلّف (27 كانون الأوّل، 1997). هذا وقد أنهى عمّالُ الريجي إضرابَهم وحصلوا على عددٍ من مطالبهم، كالزيادة في المعاش، وعلى تعويضات ماليّة لعائلة الشهيدة وردة وللعمّال الجرحى. ودفعت الشركة أجورَ العمّال عن أيّام الإضراب، وسمحتْ لكلّ العمّال والموظّفين الذين نُقلوا تعسفيًّا من مراكزهم بالعودة إلى وظائفهم السابقة. كما أفرجت الحكومة عن كلّ المعتقلين لديها.

مالك أبي صعب

مالك أبي صعب: أستاذ التاريخ في جامعة ماكغيل في مونريال (كندا). من مؤلّفاته : مناضلاتُ أمّةٍ هشّة (بالإنكليزيّة، 2010)، وشيعة لبنان: الحداثة، الشيوعيّة، إسلاميّو حزب الله (بالإنكليزيّة أيضًا، بالاشتراك مع رلى الجردي، 2015).