نعم... قدّمتُ شكوى ضدّ الحكيم! (ملفّ)
27-01-2017

 

 

البداية...وما قبلها

تصادف هذه الأيّامُ ذكرى وفاة أبي ماهر اليماني، أخي ورفيقي، ومن أوائل رفاق الحكيم جورج حبش ووديع حدّاد. هؤلاء كانوا نواةَ "حركة القوميين العرب،" وأبو ماهر كان قائدًا نقابيًّا جماهيريًّا حتى اتّصل به الدكتور وديع ونظّمه وضمّه إلى "الحركة."

كنتُ أسمع عن الحكيم لأنّني ابنُ عائلةٍ مناضلةٍ في صفوف "الحركة،" فعرفتُ أنّه شخصيّة عظيمة محترمة. وقبل أن أبلغ الخامسةَ عشرة، انغرس في ذهني أنّه المطارَدُ الأوّلُ من الرجعيّات العربيّة، ولا سيّما النظام الأردنيّ.

بعد خروجنا من السجن في اليونان سنة 1970 على أثر عمليّة تبادُل [راجع النبذة عن المؤلّف ــــ الآداب] انتقلنا إلى مصر، فالأردن، حيث التقينا الحكيمَ للمرّة الأولى. سلّم علينا ودعانا إلى الجلوس. قدّم موقفًا سياسيًّا ضدّ النظام الأردنيّ، وضدّ مشروع روجرز. دخّن في ساعةٍ واحدةٍ ثمانيَ عشرة سيجارةً من نوع كمال، فزاد تعلّقي به كشخصيّةٍ نضاليّةٍ ثوريّة "تعبّي الراس."

 

مع أبي ماهر والشهيد وديع

عدتُ إلى لبنان. وهناك أتيحت لي فرصٌ كثيرة للقاء به؛ إذ كنتُ مع الشهيد حدّاد في مجال العمليّات الخاصّة الخارجيّة، وتمّ تكليفي بحراسة اجتماعات بعض الرفاق بالحكيم. فبدأتُ أكتشف في الحكيم ميزةَ القرب من الناس. كان، مثلًا، يسألُنا باستمرار عن أحوالنا وعائلاتنا، وعن أوضاع المخيّمات، أو القطاع العسكريّ، وغير ذلك من التفاصيل. وكنّا نُسرّ كثيرًا بتواضعه في كلامه معنا. هكذا ازددتُ قربًا من شخصيّته من دون أيّ تفكيرٍ في التفاصيل، وحسمتُ الأمر آنذاك: حبش هو القائدُ الثوريّ الفلسطينيّ العربيّ الذي يريد تحريرَ كلّ فلسطين وتحريرَ الوعي العربيّ. لم تكن عندي العدّةُ النظريّة، لكنْ ما كنتُ أراه فيه كان كافيًا ومتّسقًا مع ما تربّينا عليه في "الحركة."

تطوّرتْ معرفتي بالحكيم مع حضوري بعضَ اللقاءات التي أجراها مع أبي ماهر ووديع حدّاد وقياداتٍ أخرى. صرتُ ألاحظ عنايتَه بالتفاصيل، وطُرقَ تحليله للأمور والقضايا. وكنّا نتشارك الغداءَ أو العشاءَ في بعض هذه الاجتماعات، أو أكون حاضرًا حين يزوره بعضُ الأصدقاء، فأتلمّسُ فيه صفاتِ القائد والإنسان. وهكذا انتقلتُ، أنا ابنَ المخيّم البائس، إلى مجال الاحتكاك بفئاتٍ اجتماعيّةٍ جديدة: من محامين، وأطبّاء، وشخصيّات سياسيّة...

في لقاءات الحكيم مع الشهيد وديع ــــ وكانت تتمّ في بيت أحدهما، ويشارك في بعضها أبو ماهر ــــ كانت الأجواء تتنقّل من السياسيّ الصرف إلى الإنسانيّ البحت. هناك شهدتُ على تباين الآراء أحيانًا بين الحكيم من جهة، وأبي ماهر ووديع حدّاد من جهة ثانية، في ما يخصّ موضوعَ العملَ [العسكريّ] الخارجي وآليّات تنفيذه؛ فوديع لم يكن يخبر أحدًا، بمن في ذلك الحكيم، تفاصيلَ ما يُخطِّط له من عمليّات، ولا مواعيدَ إنجازها. ومع مراجعتي للعديد من هذه الاجتماعات، ولا سيّما الخلافيّة، صرتُ أكثرَ انفتاحًا على شخصيّة الحكيم النضاليّة والإنسانيّة: غضبه وسروره، انزعاجه وارتياحه، ردود أفعاله المدروسة عادةً... إلّا في حالات نادرة.

أذْكر مرّةً أنّ خصامًا وقع بينه وبين أبي ماهر إزاء موقفٍ اتّخذتْه الجبهةُ الشعبيّة في حقِّ وديع حدّاد. اصطحبتُه في الثالثة فجرًا إلى منزل أبي ماهر في برج البراجنة؛ كان العتب سيّدَ الموقف، وكنتُ على يقين من أنّ ذلك يخصّ تضامنَ أبي ماهر مع حدّاد. بعد اللقاء اعتكف أبو ماهر فترةً عن حضور الاجتماعات.

أبة ماهر اليماني

حين صرتُ مرافقًا للحكيم

توطّدتْ معرفتي بالحكيم من خلال بعض الزيارات التي شاركتُه فيها. في إحداها نمنا في صور، وفي الصباح زرنا القواعدَ العسكريّةَ في الجنوب اللبنانيّ. في قاعدة الكفير في العرقوب، كنّا أربعةَ مرافقين معه. استيقظنا صباحًا فإذا به قد حضّر لنا القهوةَ، وهجم علينا يريد أن يصارعنا مازحًا. وأشهد أنّنا، نحن الأربعةَ، لم نستطع "تثبيتَ" كتفيه؛ فقد كان نشيطًا مفعمًا بالحيويّة.

في أواخر سنة 1979، كُلّفتُ بمهمّة السكرتير المرافق للأمين العامّ، فازددتُ قربًا منه، وبتّ أقْدرَ على ملاحظة شخصيّته بشكلٍ يوميّ، وأقدِّر حجمَ مسؤوليّاته الهائلة، سواء على صعيد الجبهة الداخليّ، أو على الصعيد الخارجيّ (العلاقات السياسيّة وغير ذلك). في تلك الفترة راقبتُ كيف كان يتعامل مع الأمور بصبر وحكمة وأخلاق. كان يسألني أحيانًا عن رأي الناس في بعض القضايا وفي مواقفنا بالذات، وكنتُ أنقلُ إليه ما يقولونه، أسلبًا كان أمْ إيجابًا، وأوضح له رأيي الشخصيّ، فيوافقني في أحيانٍ كثيرة، لكنّه غالبًا ما يقول إنّ الموقف يحتاج إلى تروٍّ وصبر.

ما أحبُّه...ويزعجني!

على أنّ مقدرة الحكيم الهائلة على الصبر والتحمّل كانت أمرًا أحبُّه بقدْرِ ما يزعجني أحيانًا، وخصوصًا حين "يغضّ الطرفَ" عن بعض الشوائب في سبيل تأمين الوحدة (الفكريّة والتنظيميّة والسياسيّة) ضمن الجبهة الشعبيّة، وضمن السياق الفلسطينيّ المقاوم بشكل عامّ.

ما كان يزعجني في هذا الصبر أنّه فسح المجالَ للوصوليّة بأن تعمل ضمن اصطفافاتٍ جهويّةٍ وسياسيّةٍ وفكريّة (وهو ما كان الحكيمُ يرفضه في الأساس)، وبأن تتطوّرَ لتأخذ بعدًا تنظيميًّا انعكس في مجمل عمل الجبهة، وأدّى إلى بداية الأزمة التي تعانيها. إيمانُ الحكيم بالتغيير جعله يَدعم عمليّةَ ضخّ العناصر الشابّة إلى الهيئات القياديّة، وتسليمِها مسؤوليّاتٍ كبيرةً، وذلك لكونه يرى فيها "نواةً يساريّةً" واعدة، مع أنّ العديد منها لم تكن بالكفاءة المطلوبة فكريًّا وتنظيميًّا ونضاليًّا، وعجزتْ عن التغيير المنشود. هذه العناصر استفادت من توجّه الحكيم نحو "تجديد القيادة،" فتمّ خلقُ جوٍّ من التكتّلات التنظيميّة التي سمحتْ ببروز الانتهازيّة والفساد وإيثار المصالح الذاتيّة.

 

التوجّه نحو الاستقالة

قبل المؤتمر الخامس للجبهة (شباط 1993)، طلب أبو ماهر اليماني إعفاءَه من مهمّاته القياديّة، ودعا الحكيمَ إلى أن يحذو حذوَه من أجل فسح المجال أمام عناصر شابّةٍ ذاتِ كفاءةٍ كي تتولّى المسؤوليّة. تروّى الحكيم في اتّخاذ الأمر، لكنّ أبا ماهر كان قد اتّخذ قرارَه وعاد إلى بيته. اجتمع الحكيمُ بمعظم أعضاء اللجنة المركزيّة ليشاورهم في موضوع تنحّيه وتركه مهامَّه. في كلِّ ما شهدتُ من تلك الاجتماعات، ومنها ما كان مع أعضاء قيادات الفروع، أصرّ الجميعُ على رفض فكرة تنحّي الحكيم، وعلى بقائه في سدّة القيادة، معربين عن مخاوفهم على مصير الجبهة إنِ اتّخذ خطوةً كهذه. وفي الاستراحة [بين الاجتماعات]، توجّه إليّ بالسؤال عن موضوع التنحّي، فقلت له: "علّمتمونا أهميّةَ التغيير وضرورته... لكنّني يا حكيم أحبُّك."

ــــ ومَن ترى مِن بعدي؟

أجبتُ بلا تفكير:

ــــ أبو علي مصطفى، فهو قائد وثوريّ وشجاع وأخلاقيّ وبروليتاريّ. معظم مَن حكى معك [الآن] غير صادق. أعرفُ ماذا يقولون في الخارج، ومعي أسماؤهم إنْ شئت...

ابتسم، وهزّ رأسَه قائلًا:

ــــ أعرفُ ذلك تمامًا.

ومع بدء المؤتمر، كانت الجبهة تناقش مواضيعَ مهمّة، فاعترض بعضُ الرفاق، واتّخذوا موقفًا سلبيًّا من الحكيم، ونجم عن هذا الموقف أنْ حجب سبعةٌ وعشرون عضوًا (معظمُهم أعضاء لجنة مركزيّة عامّة وقيادات فروع) أصواتَهم الانتخابيّةَ عنه لاحقًا! غضب الحكيمُ وقال بمرارة: "أنا استشرتُ كلَّ أعضاء اللجنة المركزيّة، ومعظمَ قيادات الفروع، وبعضَ الكادر. كلّهم طلبوا منّي البقاء، ولم يُشر أحدٌ إلى ضرورة تركي العملَ القياديّ إلّا أبو ماهر اليماني الذي كان مصرًّا على تنحّينا وفتحِ الباب للقيادات الجديدة."

ترك الحكيم القاعةَ إلى غرفة جانبيّة، ورفض رؤيةَ أحد. أردتُ الدخولَ إليه، فحاول عضوان قياديّان منعي، فعجِزا. دخلتُ إليه، وبعد دقائق وصلتْ ضحكتُه إلى قاعة المؤتمر. حاول الجميعُ طوال أعوام أن يعرفوا ماذا قلت له حتّى ضحك، فصمتُّ، وما زلتُ صامتًا. وبقي يومها أمينًا عامًّا ولم يستقل.

 

الأجهزة تكذب!

كنّا في الجزائر مرّةً، وغبتُ عنه. وحين عدتُ سألني أين كنت، فأخبرتُه أنّني كنتُ في المستشفى العسكريّ أفحصُ رأسي بالأجهزة الحديثة. نظر إليّ مبتسمًا، وسألني: "ماذا وجدوا؟"

قلتُ لا شيء.

ــــ ماذا تعني؟ هل وجدوا عقلًا؟!

ــــ نعم. وجدوا عقلًا. وكلّ شيء تمام.

فقال لي، وهو غارق في الضحك:

ــــ وجدوا عقلًا؟! يجب أن يَفحصوا أجهزتَهم الحديثة إذًا!

 

إعلان الدولة

في المجلس الوطنيّ الفلسطينيّ سنة 1988، أُعلنتِ الدولةُ الفلسطينيّة بحضور وفودٍ وشخصيّاتٍ دوليّة. شارك يومها محسن إبراهيم (أمين عامّ منظّمة العمل الشيوعيّ في لبنان) ضمن وفد ياسر عرفات. وفي مقرّ إقامة الحكيم، وبوجود مرافقي الحكيم وأبي نضال مسلّمة من الأرض المحتلّة، طلب وفدٌ بلجيكيّ زيارةَ الحكيم. كانوا ثلاثةَ نوّاب بلجيكيين: رجليْن وامرأة. وافق الحكيمُ على زيارتهم، فدخلوا وأشادوا به كشخصيّة قياديّة فلسطينيّة، ثمّ طلبوا توقيعَه على أوراقٍ معهم "للذكرى." كانت على هذه الأوراق تواقيعُ عددٍ من القيادات الفلسطينيّة في المؤتمر، فسحبتُها قبل أن يُمسك بها الحكيم، الأمرُ الذي أغضب الرفاقَ الموجودين، فيما عمَّ البلجيكَ الذهولُ والصمتُ.

قرأتُ المكتوبَ على ظهر الأوراق، فكانت وثيقة بسّام أبو شريف،* وقد وقّع عليها أمناءُ عامّون من قيادات فلسطينيّة في المؤتمر. أخذ الحكيمُ الأوراقَ وعرضها على الموجودين، فاعتذر البلجيك، لكنّه رفض اعتذارَهم، وأخرجهم ــــ بأدبٍ على عادته ــــ من القاعة. ثمّ قرّب رقبتي إليه وقبّلها أمام الجميع.

في هذا المجلس الوطنيّ، كان أبو عمّار مصرًّا على إعلان الدولة الفلسطينيّة. وكان الحكيم في نقاشاته مع عرفات يرفض هذا الإعلانَ رفضًا قاطعًا، ويطرح موقفَنا القائل إنْ "لا دولة تُعلن قبل التحرير." كثُرت الاجتماعاتُ والحكيمُ يخرج منها ثابتًا على رفضه. وكان محسن إبراهيم يَحْضر هذه الاجتماعاتِ مع أبي عمّار، ويصرّ مثلَه على تبنّي إعلان الدولة، فيما الحكيم يضع العقباتِ والشروطَ في مواجهة هذه الخطوة. وكانت الاجتماعاتُ صاخبةً وطويلةً، وصوتُ الحكيم يعلو فيها. في النهاية، اقترح محسن إبراهيم على الحكيم وضعَ شروطه على هذا الإعلان، وتعهّد بموافقة أبي عمّار على كلّ هذه الشروط بلا نقاش. كان أبو عمّار مهتمًّا بموافقة الحكيم لحظتها أكثرَ من أيّ قياديّ فلسطينيّ آخر، لكنّه كان يعمل ــــ كالعادة ــــ على التنصّل من التعهّدات التي وافق عليها. وانتهى الأمرُ بأنْ رفع أبو عمّار يدَ الحكيم أمام الملأ، معلنًا موافقته على هذا الإعلان!

هذه الموافقة خلقتْ إشكاليّةً كبيرةً داخل الجبهة؛ بل إنّ أبا ماهر بقي في دمشق رافضًا المشاركةَ في هذا المجلس الوطنيّ، ورافضًا ذهابَ الحكيم من الأساس. لاحقًا، وكما كان متوقّعًا، سحب أبو عمّار موافقتَه على شروط الحكيم، والتي كان أوّلها رفض أيّ مفاوضات مع العدوّ الإسرائيليّ. شخصيًّا أرى أنّ دور محسن إبراهيم يومها كان الأساسَ في نيل موافقة الحكيم، بفعل الديماغوجيّة التي مارس فيها النقاشاتِ، وتأكيدِهِ نفيَ أيّ شكلٍ من أشكال المفاوضات أو العلاقات مع العدوّ.

الخروج من بيروت

مع الاجتياح الإسرائيليّ، سنة 1982، كان موقفُ الجبهة الشعبيّة مبدئيًّا: الحكيمُ مع مقاتليه على الجبهات، والمطلوب هو الصمودُ وإلحاقُ أكبر الخسائر بالعدو.

مع وصول الإسرائيليين إلى مشارف ضاحية بيروت الجنوبيّة، طَلب منّي الحكيم تنظيمَ زيارة ميدانيّة له إلى مواقع المقاتلين عند كليّة العلوم في الحدث، وبالطبع رفضتُ ذلك بشدّة. للمرّة الأولى يومها استعمل الحكيمُ صلاحيّاتِه عليّ كأمينٍ عامّ؛ فأجبرني على ترتيب الزيارة والذهابِ معه لتفقّد المقاتلين. تنقّلنا بين المواقع حتّى وصلنا إلى آخر مواقعنا المتقدّمة، حيث كانت تفصلنا عن الإسرائيليين عشراتُ الأمتار لا أكثر. لم يصدّق المقاتلون عيونهم، والتفّوا حول قائدهم والفرحُ يمحو تعبَهم.

عندما عدنا، رفعتُ تقريرًا في حقّ الحكيم إلى قيادة الجبهة، وشكوتُه فيه لأنّه أجبرني على المشاركة في ما يعرّضه للخطر. وكان أن انتقدتْه القيادةُ بشدّة. استدعاني الحكيم، وسألني إنْ كنتُ أنا مَن كتب التقرير، فأجبتُ بالإيجاب. قال: "أريد أن أزورَ المقاتلين وأن أرفع من معنويّاتهم، فما الضيرُ في ذلك؟" أجبتُه: "أذكرُ يا حكيم أنّك زرتَنا مرّةً في قواعدنا في جنوب لبنان، وأذكرُ أنّني شعرتُ يومها بأنّني قادرٌ على محاربة الآلهة. لكنْ، في الوقت عينه، لو مسّك مكروهٌ فماذا سيكون أثرُ ذلك في المقاتلين؟ وكم سيكون ثمنُ خطوة كهذه باهظًا؟"

بعدها، صار الحكيم كلّما رآني يضحك، ويقول لي بصوتٍ خالطه الضحك: "ولكْ إِنتْ بتكتب فيّ تقرير؟!"

على مستوى مجريات الميدان، كان الحكيم مصرًّا على عدم الانسحاب من بيروت، خلافًا لموقف أبي عمّار. وأذكر أنّ الشهيد أبا علي مصطفى حضر يومَها إلى البقاع لقيادة القوّات هناك، فيما بقي الحكيم يقود جبهةَ بيروت، مع قرار صارم بعدم الانسحاب. وقد مورس ضغطٌ هائلٌ على الجبهة للموافقة على الانسحاب، من جورج حاوي ومحسن ابراهيم وغيرهما. كانت الاجتماعات لا تتوقّف. فبدأ الحكيم مشاوراتِه داخل الجبهة: أبو ماهر اليماني مصرّ على الصمود وعدم الانسحاب، وكذا أغلبُ القياديين. وفي ملجأ مبنًى في منطقة كليمنصو، أصرّت القياداتُ اللبنانيّةُ على ضرورة الانسحاب. كان الحكيم قلقًا على الجماهير بعد خروج المقاومة من بيروت، برغم تعهّد الجميع بضمان أمن الفلسطينيين. وانتهى الأمر بتصويت قيادة الجبهة في بيروت، وبالأغلبيّة، على قرار الانسحاب.

طلب أبو عمّار مرافقةَ قيادة الجبهة الشعبيّة له إلى تونس، فرفضتْ، وتوجّهت مع أبي ماهر وعبد الرحيم ملّوح إلى طرطوس (سوريا)، وبقي اثنان من القيادة في بيروت. قرّرت الجبهةُ بقاءَ جميع مقاتليها في بيروت، أعضاءً وقياداتٍ، باستثناء خمسة أعضاء طُلب منهم الخروج، وكنتُ واحدًا منهم. طلبتُ من الحكيم البقاءَ لأنّني أعرف بيروت وقادرٌ على القتال. قال: "يا ابني، احتمالُ دخول العدوّ إلى بيروت كبير." كان راغبًا في تركي في بيروت، وفي الوقت ذاته يريد انسحابي كموقفٍ أخلاقيّ. أخيرًا، أخذ القرارَ ببقائي. وهذا ما تمّ، حيث بدأتْ حكاياتٌ أخرى.

بيروت

- خلاصة حوار أجراه يسري الأمير.

* كان أبو شريف عضوًا قياديًّا في الجبهة الشعبيّة، ثم فُصل منها على أثر زيارة قام بها مع عرفات إلى مصر.

ماهر اليماني

من مواليد 1949. عضو حركة القوميين العرب من العام 1966، واستمرّ في الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين منذ تأسيسها سنة 1967. عمل في قطاع العمليّات الخاصّة مع الدكتور الشهيد وديع حدّاد، منها عمليّة ضد شركة "العال" الإسرائيليّة في اليونان سنة 1968 وسُجن على أثرها بحكم يستمرّ 31 سنة، ولكنْ لصغر سنّه أُنزلت العقوبةُ إلى 14 سنة و3 أشهر. خرج بصفقة تبادل بعد عمليّة خطف طائرةٍ قامت بها جبهةُ النضال الشعبي الفلسطينيّ. وكان السكرتير المرافقَ للدكتور جورج حبش بين العامي 1979 و 1982. عضو لجنة مركزيّة عامّة منذ سنة 2000.

يسري الأمير

كاتب من لبنان. ومدير سابق لموقع الآداب الإلكتروني.