وجهٌ كرتونيّ
17-09-2016

 

ثمّة أشياءُ تستوقفكَ من دون أدنى إشارة. بعد أن تثاقلتْ خطواتُكَ المترنّحة، واهتزّت قدماك النحليتان، ها أنت تستعجل جلوسَكَ على المقعد الإسمنتيّ لحديقة صوفيا. ثمّة أشياءُ تجبرك على أن تأخذ من علبة سجائرك ما لا يقلّ عن عشرٍ دفعةً واحدة. قلقٌ عصيبٌ يجتاح جسدَك النحيف. في الوهلة الأولى ظننتَ أنّه لا حدث، غير أنّه رويدًا رويدًا ازداد عطشًا الى مآرب أخرى. يتوغّل ناخرًا كيانَكَ المشهودَ له بالعزيمة والمقاومة. يتوقّف عن الحركة حيث تعتريه نوبةٌ مجنونةٌ تشلّه عن المشي قيد أنملة. طفلتك الصغيرة، آلاء ماريّا، تصرّ على التشبّث بكمّ قمصيك أنِ "احملْني." تريدك أن تلعب معها، بعد أن تسحق ما تبقّى من السيجارة الأخيرة. تريدك أن ترفعها إلى السماء كما اعتادت، واعتدتَ.

تتفرّس فيها جليًّا، ثمّ تخفض رأسَكَ كالأشرعة المبحرة في متاهات البوح الصامت. لم تفقه كيف شددتَ على يديها الصغيرتين، ولا كيف أنّك لم تنتبه إلى تأوّهاتها وعبراتها المسكونة بالحيرة والدهشة. بحثتَ مليًّا في عينيْها العسليّتين، كما بحثتْ هي في عينيك العسليّتين، عن إجابة لسؤال محدد: كيف سُمح لهذا الصمت المتوحّش أن ينساب بينكما؟

أقصى ما تحاول أن تتذكّره أنّك كنت سعيدًا هذا الصباح. منشرحًا إلى حدّ بعيد. فقد قدّر لك أن تسرق، من زمنك المتقاطع مع العديد من الأزمنة المبعثرة هنا وهناك، القليل من الساعات كي تحفل مع بعض من أنفاسها البريئة.

ــــ ألا يحقّ لنا يا أبي أن نلعب معًا ولو ساعة؟

ــــ هذه المرّة أنا ملْكُ يمينِكِ.

ــــ يا الله يا أبي... ما أروعك اليوم!

كثيرون من أمثالك ردّدوا بمرارة أنْ لا خيار؛ فكلّ أزمنتهم محاصرة بسياج حديديّ صدئ يكاد لا يسمح لهم بالفرار لساعاتٍ لا تروي الظمأ. حتّى إنّ الكثير منهم نسي متى يأتي زمنه ليفرّ. وكم منهم تساءل: أيحقّ له الفرار أصلًا؟

أحدُهم بالأمس فقد ابنته الوحيدة في حادث مرور. وآخرُ زوّجها إلى غريب في بلاد الغربة. هذه الأخبار وغيرها زادت من الهوّة السحيقة التي لازمتك ساعةَ التقيتَ صديقك القديم؛ لمحتَه يجري كالمعتوه في الشارع الطويل، رافعًا يديه كأنّه يصوّر مشهدًا لسائق حافلة وهو يصرخ في المارّة: "لا وقت لدينا. اركبوا جميعًا. الحافلة ستنطلق وكلّ المدن بعيدة!" كان يصرخ زمنًا، ثمّ يتوقّف لحظاتٍ ليغنّي لدمية عروسٍ بين يديه الأغنيةَ الشعبيّةَ: "ننّي ننّي يا بشّة... واش نديروا في العشاء... انديروا جاري بالدبشة." ثمّ يصمت صمتًا موحشًا ليعاود الصراخ. لمحك من بعيد. فرح للقياك. أسرع الخطى نحوك ليحضنك بشدّة، ويسأل بحنان: "أهذه ابنتك؟" يبتسم، ثمّ يسلّم عليها. وقبل أن يعود إلى الشارع الطويل يعطيها دميةَ العروس. يقبّلها. يسألك أن تحفظ له ابنته الوحيدة، ويوصيك بأن تلعب ابنتك معها، وأن تلعبَ معهما: "لا تستحِ... ولا تنسَ أن ترفعهما عاليًا نحو السماء."

صديقك المعتوه، وهو يودّعك، وقبل أن تدهسَه حافلةُ نقل المسافرين العابرة، ظلّ يردّد على مسامعك:

ــــ أرجوك صديقي؛ فأنا مشغول كما ترى، وكلُّ المدن بعيدة.

الجزائر

محمد الكامل بن زيد

كاتب جزائريّ. مدير عامّ مجلة رؤى الثقافيّة الصادرة عن اتّحاد الكتّاب الجزائريين، فرع ولاية بسكرة. صدر له من الروايات: قصر الحيران، وهمس الهمس (2009)، والجنرال خلف الله مسعود – الأمعاء الخاوية (2014). وله من المجموعات القصصيّة: ممنوع الدخول (2001)، ونحتٌ جديدٌ لتمثالٍ أسود (2010)، والمشي خلف حارس المعبد (2013)، وقل لكم اهبطوا جميعًا (2011).