وحشة
16-01-2017

 

 

كان قلبها ينقبض دومًا حين تلتفُّ خلف المنزل عبر الطريق المرصوف، وصولًا إلى باحة الدار الخلفيّة المفضية إلى الحديقة والتنّور والمستودعات. وهذه المرّة أحسّت بذلك أيضًا، كما لو أنّ القلب يُمسي ــــ فعلًا ــــ عضلةً محسوسةَ الأبعاد، تكبر وتصغر على إيقاع النبضات المتسارع. الظلام دامس. وبالرغم من أنّها تعلم أنّها تستطيع المشيَ مُغمضة العينين، فقد واصلتْ محاولة اكتشاف حدود المكان معتمدةً على النظر وحده. لماذا يجب على السكون أن يكون صامتًا هكذا؟ يظلّ مخيفًا حتّى يعتاده المرء. ثمّ، من دون مقدّمات، يُسمع حفيفُ ورقة شجر، أو صوتُ قطرة ماءٍ ظلّت عالقةً على حافة المزراب وقرّرَت السقوطَ أخيرًا، ليعود الصوت هذه المرّة فيصبح هو المخيف.

تذكّرت الشابّةُ حين كانت طفلةً وسألتْ أمَّها عن الأصوات التي تنبعث في الليل من خشب الخزائن ومقابضِ الأبواب. "المادّة تتحرّك،" أجابت الأمّ. "العالم لا يَكفُّ عن التحرّك والتحوّل حتّى حين نظنّه نائمًا،" أضافت بثقةٍ، معلنةً أنّ ذلك هو أحد أسس "الفكر الماديّ." ومنذ ذلك الوقت، بدا أنّ روح ماركس تسكن منزلَ الطفلة، تصفق الأبوابَ، وتجعل الخزائنَ تتنهّد ليلًا.

غاصت في عمق الحديقة مقاومةً رغبتَها في إغماض العينين. أرختْ بثقلها على الأرض مع كلّ خطوة. بلغت المصطبةَ الإسمنتيّة القديمة، وجلستْ عليها وهي تشعر باضطراب متزايد. رغبتْ للحظة في التخلّي عن فكرتها الخرقاء والعودة إلى المنزل، كي تندسّ في السرير تحت الأغطية، أو تختبئ وراء أغنياتٍ صدّاحةٍ في غرفة الجلوس. لكنّها عدلتْ عن الفكرة، محاولة أن تبثّ في روحها قدرًا من الشجاعة كي تُتمّ الأمرَ.

أخذتْ نفسًا عميقًا، وزفرتْ هواءً مشوبًا بالخشية. فتحتْ عينيها على وسعهما، محاولةً أن تُعرّي الكونَ من ظلمته. خرج صوتُها مُتهدّجًا وهي تصرخ في العراء: "ألم تملّوا بعد؟" وحين لم يأتِها الجوابُ نادت من جديد: "هذا يكفي! اخرجوا، ألم تملّوا؟"

وكما لو أنّ الفوز كان من نصيبها في لعبة "الطمّيمة،"* بعد أن كشفت مخابئ اللاعبين الآخرين، هبّت ريحٌ عاتيةٌ مُحمّلةً بأوراق الأشجار ومئاتِ الصرخات المكتومة. خرجتْ من التنّور القديم الساحرةُ التي سكنتْ، في أحلامها، البيتَ المُغطّى بالطحالب والأشجار، تجرُّ ثوبَها البالي، وشعرُها المشعّثُ يتطاير مغطّيًا وجهَها. كانت تحمل السمكة البنيّة التي تطفو ميّتةً زنخةَ الرائحة في الوعاء الزجاجيّ. من المستودع خرج "السارق." لم تكن هناك علاماتٌ تميّزه، لكنّ الفتاة عرفته. ومن خلف السور، قفز المُهرّج مصبوغَ الوجه بضحكةٍ رُسمتْ قسرًا على وجهه. وسرعان ما ضجّ المكانُ بأطيافِ مجهولين، مستجيبين لنداءات الفتاة التي أخرجتهم من أوكارهم، ونفضتْ عن أجسادهم الغبار. تقدّموا نحوها مشاةً وطائرين وزاحفين، وأحاطوا بها من كلّ الجهات. كانت الشابّة تواجه ما ظنّته أسوأَ كوابيسها. أرادت إنهاءَ اللقاء بسرعة، محاولةً تجنّب النظر في عيونهم؛ فالعيون هي أكثر ما يُخيف. ولكنّها أحسّت بخجلها يطغى على رعبها. تخيّلتْ نفسها مديرةً في اجتماع صباحيّ، تؤنّب شلّةً من الوحوش المشاكسين. استجمعت قواها، وقالت: "ألم تسمعوا أنّ في البلاد حربًا؟ إنّها حربٌ حقيقيّة، وهي مخيفةٌ حقًّا ومرعبة. جثثٌ متفحّمة أو منتفخة. قذائف تتساقط من السماء. حوادث اختطاف أو إعدامٍ ميدانيّ. هناك ما يخيف أكثرَ من حفنة وحوشٍ مُتخيَّلين من معلّقات الطفولة."

ارتفع صوتُ الشابّة هنا بما يُشبه الصراخ. وربّما تنبّهت إلى ذلك لأنّها أردفتْ بصوتٍ منخفض قارَبَ العتابَ:  "أنا كبرتُ وتعرّضت لمخاطر واقعيّة، حقيقيّة. لكنّني ما إنْ آتي بزيارة إلى منزل والدي حتّى تعاودوا الظهور من تحت السرير لإخافتي، أو تتلصّصوا عليّ حين أعبر الممرّ." تململ الحشد، وسُمعتْ همهماتٌ وأصواتٌ خافتة. تجرّأ المهرّج ونظر إلى الفتاة متمعّنًا:

 "أتظنّين حقًّا أنّنا ظللنا نختبئ كلَّ هذه السنين منتظرين أن تعودي إلى منزل طفولتك فنخيفَكِ؟ ألا يوجد شيء أفضل نفعله؟!" لاح على وجه المهرج تعبيرٌ غاضبٌ، تحت أصبغة الوجه البيضاء والأنف الأحمر. وأكمل بنبرة هازئة: "أستغربُ أنّك ما زلتِ على قيد الحياة، ولم تموتي بسكتة قلبيّة بعد سماع أوّل رصاصة اخترقت السماءَ فوقك." فكّرت الفتاة بأنّ المهرّج محقّ. لا تَدّعي أنّها كانت شجاعة تمامًا طوال الوقت، أثناء الحرب، لكنّها خاضت القليلَ من المغامرات، وأكملت العيشَ ضمن جوّ الاضطراب. لم تترك العاصمة عائدةً إلى منزل والدَيها حين اشتدّ الخطر. استمرّت في الخروج من المنزل والدراسة والعمل. ولذلك فإنّها لا تستطيع أن تفسّر لماذا تخور قواها، ويضطرب قلبها، حين تُضطرّ إلى قطع الأمتار المعتمة القليلة في الممرّ، كما لو أنّها تعود ابنة السنوات الخمس!

قطعت الساحرةُ حبلَ أفكارها، وخرج صوتُها حادًّا مؤنّبًا؛ فالساحرة، وإنْ كانت غريبة الأطوار، هي في نهاية المطاف مجرّدُ جدّة: "للحقيقة لم تكوني يومًا مبتكِرةً في مصادر خوفك. انظري إلينا! نحن محضُ كليشيهات ظهرتْ في الرسوم المتحرّكة وأفلام الرعب!" حرّكت العجوز خصلات شعرها بيدها المجعّدة، ثمّ أكملتْ كأنّها تذكّرتْ شيئًا: "لكنْ للإنصاف، لا بدّ من الاعتراف بأنّ خيالك ــــ وإن لم يبتكرْ جديدًا يُذكر ــــ اعتمدَ على الكمّ بدلًا من النوع. لكم طالت قائمة مخاوفك وتنوّعت! كثيرًا ما أردتُ أن أسألك عمّا يُخيفك في سمكة بنّيّة ميّتة في الحلم؟ ثمّ... كتاب عالم الأوبئة؟! حبًّا بالله!"

ضحكت الشابّة كما لو أنّها لم تجد جوابًا قد يقْنع الساحرة. فهي تعلم أنّ العجوز مُحقّة؛ إذ لطالما سألتْ نفسَها عمّا يخيفها ممّا لا يستدعي الخوف! لكنّها الآن تدرك أنّ الخوف ينتقل إليها أحيانًا بالعدوى؛ كأنّ هناك ما يأمرها بأن تهاب الساحرات والمرضى النفسيين والقتلى المتسلسلين، وهي تنصاع مستسلمةً للأخيلة التي يرسمها عقلُها. قالت الفتاة مبتسمةً كما لو أنّها تشارك ذكرياتها مع أصدقاءَ قدامى:

"لا أتذكر بالفعل كيف بدأ رهابُ كتاب عالم الأوبئة. لكنّني قلّبتُ صفحاته مرّةً، فشعرتُ بتقزّزٍ من مظهر البثور والتقرّحات الجلديّة، فأغلقتُ الكتاب لأنّني خفت أن تزحف الأمراضُ إلى جلدي. وأخي، الذي استشعر خوفي، بدأ يلاحقني بالكتاب من مكانٍ إلى آخر، وصرت أتجنّب الرفّ الذي يوضع عليه في المكتبة."

أغمضت الفتاة عينيها، وعاد بها الزمنُ إلى حكايا الأشباح والمقابر التي اعتاد أقرباؤها أن يقصّوها في ليالٍ مظلمات، وغرفٍ تعبث فيها الريح. وكان يكفي، مهما كانت القصّة ركيكة الحبكة، أن يتلاعب مَن يقصُّها بصوته ــــ فيروي الأحداثَ بصوت خافتٍ بطيء ثمّ يصرخ فجأةً ــــ حتّى يعتريها رعبٌ يلتفّ على جسدها ويسكن فيه.

فتحتْ عينيها لتجد نفسَها وحيدةً في حديقة المنزل. قطرةُ ماءٍ أخرى تسقط على تنكةٍ صدئة، وحفيفُ شجر اللوز يدغدغ السكون. ضحكتْ في سرّها من التقارب بين المفردتين: "الوحشة شعورٌ، وهي أنثى الوحش في الوقت ذاته!" لكنّها، للمرّة الأولى تشعر بالوحشة من دون وحوشها. أقفلتْ عائدةً إلى منزلها، عابرةً الممرّ الطويل المظلم، وهي تبحث عن عيونٍ تترصّدها خلف الباب، لكنْ لا أحد هناك. سكونٌ مطلق، ووحدة.

دمشق

*الطمّيمة، وتُسمّى الغمّيضة: لعبة يغمض لاعبٌ فيها عينيه، ويختبئ الآخرون، ومهمّتُه معرفةُ أماكنهم.

 

نور أبو فرّاج

 صحفيّة سورية من دمشق. لها مقالات في صحيفة السفيراللبنانيّة وعدد من الجرائد والمجلّات السوريّة.