ووَددْتُ...
17-02-2017

وددتُ لو أستيقظُ في صباح يومٍ باردٍ لأجدَ نفسي على فراشٍ أرضيّ من دون غطاء. أفتحُ خزانتي التي كانت ممتلئةً بالملابس، لأجد قطعةً ممزّقة. أرتديها وأرتادُ جامعة الحكومة. أجلسُ بين أصدقائي على مقاعد الدراسة، حتّى انقضاء وقت دوامي اليوميّ. ثم أقف في انتظار الباص ليوصلني، فأذكر أنّني دفعتُ له في الصباح كلَّ ما أملك. أعود مشيًا، قاصدةً مقرَّ عملي في أحد المطاعم المجاورة لمنزلي، حيث أغسل الأواني والأطباق.
عندما تغيب الشمس، أعود إلى منزلي الصغير وأفرادُ عائلتي المجتمعون حول المائدة منتظرين قدومي، ليبدأوا بتناول عشاءٍ بسيط. يحكي كلٌّ منّا عمّا جرى معه اليوم. إلى أن تنتهي أحاديثُنا، فيقبّل كلٌّ منّا والديْنا، ويخلد الجميعُ إلى النوم.
وتستمرّ الأمنية، حتّى الساعة الرابعة صباحًا، حين يوقظُنا أبي لأداء فريضة الصباح. بعدها مباشرةً موعدُ الجلسة الصباحيّة، وفيها فنجانُ قهوة اعتدتُ كسرَ مرارتِها بقليل من السكّر، وبعض من فتات الخبز المتبقّي من الأمس. كانت أمّي تقول دائمًا: "إيّاكم ورميَ الفتات." بعد نصف ساعة تقريبًا نبدأ بالانسحاب واحدًا تلو الآخر، وأنا أوّلُهم، لأستعدّ للذهاب إلى الجامعة.
كنت أخرج من البيت عند الخامسة والنصف صباحًا، كي لا يفوتني موعدُ مرور باص النقل العامّ طمعًا بكُلفته القليلة. أستقلّ الباصَ قاصدةً مقعدي الخاصّ، إلى جانب الشبّاك في صفّ المقاعد الخامس. يستغرق وصولُ الباص إلى شارع الجامعة قرابة الساعة، وذلك بسبب زحمة السير اللطيفة التي تُميّز بلدَنا العزيز من باقي دول العالم. إلّا أنّها ساعة من أجمل ساعاتي اليوميّة؛ فلي أصدقاء كثر على مدار هذه الساعة.

صديقتي الأولى بائعةُ ورد، اسمُها مرسومٌ على شفتيها: بسمة. تتمركز عند المحطّة الثانية التي يركن الباصُ عندها لخمس دقائق. تعرّفتُ إليها منذ سنة تقريبًا، ومعرفتي بها لا تتعدّى الدقائقَ الخمس هذه، تُعرّفني فيها إلى أنواع الورود التي تحملها. وفي الدقيقة الأخيرة تسألني سؤالًا، إنْ أجبتُ عنه في اليوم التالي، أهدتني وردة؛ وإنْ لم أستطع، اضطررتُ إلى أن أشتريها منها؛ وحينها أرجع مشيًا إلى البيت!

أمّا المحطّة الثالثة، وبدقائقها الخمس أيضًا، فيصعد فيها العمّ سعيد ــــ الرجلُ السبعينيّ ــــ إلى الباص ليعْرض باقة جرائده على الموجودين. يصل إليّ، وكالعادة يرفع قبّعتَه القديمة عن رأسه، حانيًا ظهرَه على الطريقة الفرنسيّة، ويقول: "تحيّاتي إلى سيّدتي الصغيرة." فأبتسم. ثمّ يُعجّل في عمله ليرحل تزامنًا مع انطلاق الباص مرّةً جديدة.

المحطّة الآخيرة هي الجامعة. وأمّا صديقي الأخير في هذه الرحلة اليوميّة فهو أبو محمّد، حارسُ الجامعة. يحبّني لشبهي الشديد بابنته مريم، كما يقول. أقفُ معه قرابةَ الدقيقة، لا أكثر. يطلب إليّ أن أكتب له موعدَ وصوله إلى العمل في ملفّ الدوامات؛ فهو لا يتقن الكتابة والقراءة. ثمّ تنهال عليّ كلماتُ الشكر التي يرافقني صداها حتّى أدخل صفّي.
ومن صفّ إلى صفّ، وساعةٍ بعد ساعة، ينتهي دوامُ الجامعة. فأقصد المطعم حيث أعمل، حتّى غروب الشمس. وكما الأمس، أعود إلى البيت بعد عملي لأجد العائلةَ مجتمعةً على المائدة بانتظاري. نتناول العشاء، ونتبادل الكلام، ثمّ نقبّل والدَينا، ويحين وقت النوم.
وددتُ فقط...

لبنان

حسن ابراهيم عبدالله

مدرّس تربية رياضيّة. إجازة في الإعلام، فرع الإذاعة والتلفزيون. طالب سنة ثانية في العلوم الاجتماعيّة.