BDS: فلسطين تشرف على لحظتها الجنوبأفريقية
04-05-2016

 

مع إطلاق غالبيّة المجتمع المدنيّ الفلسطينيّ وقواه الحيّة، صيفَ العام 2005، للنداء الأوّل لحركة المقاطعة (BDS)، وفيه يطالب المجتمعَ المدنيَّ الدوليَّ بـمقاطعة إسرائيل وسحبِ الاستثمارات منها (ومن الشركات التي تستفيد من نظامها الاضطهاديّ المركّب) وفرضِ العقوبات عليها حتّى تستجيب "للشرعيّة الدوليّة،" تميّزت الحركةُ بمبدئيّةٍ واضحةٍ لكونها تعتمد على أرضيّة أخلاقيّة عليا.

 

في العام 2007 أُتبع النداءُ أعلاه بتشكيل "اللجنة الوطنيّة للمقاطعة،" وذلك بعد الإخفاق الذريع لاتّفاقيات أوسلو في تحقيق الحدّ الأدنى من مطالب ثلث الشعب الفلسطينيّ (سكّان الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة) في استقلالٍ وهميّ، بل أخفق أيضًا في "تحسين" شروط اضطهاد الفلسطينيين. وتُستثنى من هؤلاء الفلسطينيين طبقةٌ كومبرادوريّةٌ فلسطينيّةٌ صغيرة جدًّا استطاعت جرَّ بعض القوى الوطنيّة إلى مربّع أوسلو، والشروعَ في بناء "وهم الاستقلال" من خلال بناء مؤسّساتٍ صُوريّة (حكومات، وزارات، مجلس تشريعيّ،...)؛ وكلّ ذلك كان مصحوبًا بعَلَمٍ يرفرف على استحياء، وبنشيدٍ "وطنيّ" تمّ تغييرُه لتسويق وهمٍ دائمِ الانزلاق.

***

هكذا، إذن، تمّ الترويج لوهم "الاستقلال." وكان ذلك على حساب التحرير، المرتبطِ بمفهوم "تقرير المصير" على أساس حقوقٍ مضمونةٍ في إطار القانون الدوليّ والشرعيّةِ الدوليّة التي تكفل ما تخلّت عنه القوى الفلسطينيّةُ التي تبنّت أوسلو: من انسحابٍ إسرائيليّ من الأراضي العربيّة المحتلّة عام 1967، إلى عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم تبعًا لقرار الأمم المتّحدة 194، فإنهاء السياسات العنصريّة المطبّقة ضدّ سكّان فلسطين 48 على أساس أنّ الأبارتهايد "جريمةٌ ضدّ الإنسانيّة."

مع تفاقم أزمة السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة بأجنحتها المتعدّدة، وغيابِ رؤيةٍ استراتيجيّةٍ جليّةٍ للتحرير، وعدمِ وجودِ فهمٍ واضحٍ لمفهوم "التكتيك" الذي يجب أن تتتّبعه حركاتُ التحرّر الوطنيّ، تقدّمَ التكتيكُ الانتهازيُّ العشوائيّ على حساب الثوابت المبدئيّة. وكان على حركة المقاطعة أن تقوم بطرح بديلٍ من برنامج أوسلو، المبنيِّ على "حلٍّ" عنصريّ، هو "حلُّ" الدولتين. BDS، إذن، حركة تحرّرية تعتمد على حقوق الإنسان الفلسطينيّ كاملةً بلا أيّة تجزئة، وبلا أيّ تمييزٍ بين مكوّنات الشعب الفلسطينيّ الثلاثة: مَن يوجد في قطاع غزّة والضفّة الغربيّة، وذاك الذي يقطن مخيّماتِ اللجوء منذ العام 1948، وذلك الذي يعاني نظامَ أبارتهايد منذ النكبة ويُعامَل "مواطنًا" من الدرجة الثالثة داخل وطنه (حدودِ فلسطين 1948).

وعليه، فإنّ الحسابات "التكتيكيّة" التي تلجأ إليها بعضُ التوجّهات السياسيّة السائدة في فلسطين، متناسيةً أنّنا نمرّ في مرحلة تحرّر وطنيّ من أجل حقوق مدنيّة كاملة في مواجهة استعمار استيطانيّ إقتلاعي، لا تؤدّي دورًا مؤثّرًا في نشاطات حركة المقاطعة. ولذلك، فإنّ المطالب الثلاثة الأساسيّة التي أعلنتْ عنها الحركة، وتحظى بإجماع فلسطينيّ بشكل يتناسب مع القانون الدوليّ، لم تتغيّر خلال السنوات العشر الماضيّة، بل أصبحتْ هي ما يميّز الحركة ليس فقط في فلسطين، بل في بقاع الأرض أيضًا حيث تتنامى الحملة بشكلٍ أصبح يشكّل قلقًا وجوديًّا لإسرائيل. إنّ شعارات الحرّيّة والعدالة والمساواة هي النقيض الجذريّ لكلِّ ما تمثّله الصهيونيّة، التي تعتمد أساسًا على إلغاء الآخر من خلال: تطهيره عرقيًّا، أو حصاره (القتل البطيء)، أو رشوته وإغرائه بـ"تحسين" شروط عبوديّته.

***

ليس غريبًا أن تُجمِع القياداتُ اليمينيّة المتطرّفة التي تحكم إسرائيل على تكثيف الحرب على حركة BDS، ولا سيّما بعد فشل حملة البروباغندا (الهاسبراة) التي قامت بها وزارةُ الخارجيّة لتجميل صورة إسرائيل من خلال تجنيد فنّانين وفنّانات وأكاديميين وأكاديميّات وكتّابٍ وكاتبات ورياضيين ورياضيّات للدعاية لإسرائيل وإبرازها واحةً للديمقراطيّة، وقِبلةً للفنّ التقدّمي، وحاميةً لحقوق المرأة وحقوق المثليين، في محيطٍ ديكتاتوريّ ظلاميّ معادٍ للفنون وللمرأة وللمثليين.

لكنّ حملة البروباغندا فشلتْ فشلًا ذريعًا، إذ يصعب أن تطلبَ من مجرم حرب ــــــــ مكانُه الطبيعيُّ خلف القضبان ــــــــ أن يروّج للسلام والمحبّة. فاتُّخِذ القرارُ "الطبيعيّ" بنقل حقيبة "المقاطعة" إلى وزارة الشؤون الأمنيّة والإستراتيجيّة، وكُلّف الوزير جلعاد أردان بالتعامل مع هذا الخطر "الاستراتيجيّ."

قادت هذه الوزارة حملةً مسعورةً ضدّ الـ BDS، فسخّرت الإعلامَ ووسائلَ التواصل الاجتماعيّ في خدمتها، وبلغتْ ذروتها في المؤتمر الذي رعته جريدةُ يديعوت أحرونوت في 28/3/2016، بحضور أعضاء الحكومة والمعارضة وسفيريْ أميركا والاتّحاد الأوروبيّ. في المؤتمر أُدلي بتصريحاتٍ غايةٍ في الخطورة: من دعوة وزير الداخليّة أرييه درعي (الذي يجري التحقيقُ معه في قضايا فساد) إلى إبعاد نشطاء الحركة، إلى تلويح وزير المخابرات يسرائيل كاتس بعمليّات "اغتيال مدنيّ" لقيادات الحركة الفاعلين، مرورًا بتهديدات وزير الشؤون الاستراتيجيّة جلعاد أردان بالشروع في ملاحقات قانونيّة للنشطاء.

كل ذلك لم يؤثّر في الحركة لكونها حركةً متجذّرةً في النضال الشعبيّ الفلسطينيّ، تستلهم توجّهاتِها من تاريخ الشعب الفلسطيني، ومن النضال الأمميّ ــــ وبالذات من التجربة النضاليّة في جنوب أفريقيا ومن نجاح هذه الأخيرة في القضاء على نظام الأبارتهايد بمساندةٍ أمميّةٍ كاملة. إنّ فشل كلّ الجهود التي بذلها النظامُ العنصريُّ الجنوبأفريقيّ في القضاء على حملةٍ امتدّت من شوارع سويتو إلى بيوت لندن وحواري نيودلهي وجاكارتا لهو دليلٌ على ما يمكن أن تحقّقه حركةُ المقاطعة، BDS، ذاتُ القيادة الفلسطينيّة. إنّ الاستجابات المتتالية من العديد من النقابات العماليّة، والجمعيّات الأكاديميّة، والحركات النسويّة، ومجالس الطلّاب، والفنّانين والشخصيّات الثقافيّة، كلّها تشير إلى اتّجاهٍ واحد: ألا وهو أنّ ما أسميناه "لحظتَنا الجنوبأفريقيّة" قد شارفتْ على الوصول إلى ذروتها!

غزّة

حيدر عيد

عضو "الحملة الفلسطينيّة للمقاطعة الأكاديميّة والثقافيّة لإسرائيل." مستشار سياساتيّ في "شبكة السياسات الفلسطينيّة" (الشبكة). أستاذ جامعيّ في جامعة الأقصى، غزة. مؤلّف كتاب:

    Worlding (post) Modernism: Interpretive Possibilities of Critical Theory