نصّ

    قيلَ لي ذاتَ مرّة إنّ الثقافة زادُ الفقراء. غير أنّ تلكَ العبارة لم تقْنعْني حينها، لِما فيها من مبالغة. أذكر أنّ أخي الأكبر كان يؤنِّبني لدى دخولي الغرفة حاملًا بعضَ الكتب. كان الموقفُ في كثيرٍ من الأحيان مثيرًا للسخرية والتهكّم، على مبدأ "عم...
    مدفوعون بعادةٍ مشوَّشة، نجد أنفسَنا نُثني على اللامتحوّل. نقول له: "شكرًا يا أصيل،" ثمّ نتمسّكُ بأذياله، ونتبرّكُ بها، لأنّه ما زال يحفظ في نفسه شيئًا من الطبيعة. وإنِ استثنينا ما نكيله من شكرٍ للربّ، ولآبائنا وأمّهاتنا، فإنّنا سنجد كيلًا من...
    أجلسُ على الكرسيّ وأنا مصابة بالخدر الجميل الذي تتسبّب به، عن غير قصد، موسيقى. "باب حديقة المنزل مفتوح": همسَ لي الهواءُ المتسلّل من خلفي بذلك. زجاجُ الخزانة أمامي. أراقب عليه اهتزازَ الأوراق والثيابِ المعلّقة على حبل الغسيل في الخارج... بإيقاع...
    دخلتْ غرفتها متثاقلةً. أغلقت الباب وجلستْ على الفراش. نظرتْ حولها. التقت عيناها بعينيها في المرآة. ــــ أهذه أنا؟! اقتربتْ ببطء حتّى لم يعد يفصلُها عن وجه المرآة إلاّ بضعة سنتيمترات. حدّقتْ بصمت. لكنّها سمعتْها ــــ في المرآة ــــ تسأل: ــــ كم...
    لا أعلم كيف يجب أن تبدأ هذه القصّة التي تهرب من سنةٍ إلى أخرى، وهي تحمل اعتذارًا متأخّرًا إلى تانيا. فمنذ حوالي خمس سنوات، كنتُ أقابل تانيا مصادفةً في الحيّ. كانت من الفتيات اللواتي ترى فيهنّ حرصًا على إظهار الحزن، وتعبًا يشبه الأميراتِ...
    وجوه أعرفُ هؤلاء الأشخاصَ الذين يركضون في داخلي في الليل. أعرفُهم جميعًا. ومنذ أكثر من عام وأنا أحاول تسميتَهم، لأميّزَهم بعضَهم من بعض. أعلمُ أنّ الأسماء ليست للتمييز؛ فالأشكال تكفي. ولكنّ المشكلة أنّهم متشابهون، متشابهون بشكل مخيف. وأنا...
    1 ــــ انتبهْ، الحدود أمامك جسدُه يتأرجحُ في الريح تحت عباءة الظلام البارد. يترنّح بعد قليل، ويحدث ما يحدث كلَّ مرّة: يميل قلبُه الصغيرُ مثلَ بندول الساعة، من اليمين إلى اليسار، ومن اليسار إلى اليمين. مشنوقٌ أسطوريٌّ قديمٌ تدلّى من بطن السماء....
    أعيشُ في منطقةٍ معطوبةٍ من العالم. أتحسّس يوميًّا مكامنَ ضعفها. أغوصُ بيديَّ في كدماتها، فأتحسّسُ جسدي.  أخاف أن أرِثَ ندباتِها. أتلمّسُ عينيَّ وظهري قبل أن أنام؛ فمنذ أن تشكّلتُ داخلها واستشعرتُ رحمَها البائسة، وأنا لا ألوي إلّا على حزنٍ لا...
    بلادٌ لا تملك إلّا أن تحبّها وتُجِلَّها وتنبهرَ بها. بلادٌ لا يمكن إلّا أن تذكّرَكَ ببلاد العـُـرب والغِـربـان، هناك حيث تُذبح الأوطان. تذكّركَ بوطنك فتُـشـجيك وتُدمع فؤادك وروحك. تذكّرك به لا لأنّه تشبهه، بل لأنّها لا تشبهه ــــ وكم تمنّيتَ لو...
    سِفْر الانشطار كنّا واحدًا لا يفرّقُنا غيرُ الموت. ثمّ انشطرنا. وكلّما انقسمتْ منّا جماعةٌ نظرتْ إلى نفسِها في انعكاس الضوء على الماء، ورأت كم كان أفضلَ لو تزدادُ انقسامًا للوصول إلى الوحدة والنقاء الذاتيّ. انشطرت الجماعاتُ إلى جماعات. ونسي...
    قبل أيّام، فاجأتني هِـبـة عـاقـل ــــ يـمـيـن ببعض خجلٍ من النفس. فقد أعادت إليّ اثنين من كتبي: المجموعة القصصيّة خـصّـيـصًـا لـلـحـمـيـر، التي كتبها الرائع التركيّ عـزيـز نـيـسـيـن؛ ورواية الكويتيّة الجميلة لـيـلـى الـعـثـمـان، الـمـرأة...
    لقد قرّرتُ أن أغادرَ هذه المعركة. نعم، سأغادرُها الآن. لقد قرّرتُ أن أبتعدَ عن جميعِ أنواعِ الجثث، أن أقبّلَ الخدودَ الحمراء، وأن أرقصَ طويلًا في ضوءِ القمر. سأرمي بندقيّتي، وأُلقي بخوفي ورائي، وأرحلُ إلى بيتنا لأربّي على السطح كلّ أصنافِ الحمام...
  1) خـطـابـة الـرجـال * خطابةُ أكثرِ الرجال (الرجال، لا النساء) لا تعجبني. - ولِمَ؟! * حين أسمعهم، أتذكّر تعريف الخطابة، فأجدني في مناطق الخيبة. - أفصحْ، يا أخي! لا تُدخلني في مناطق الحَيْرة!  * يا عزيزي، الخطابة فنّ الإقناع، لا فنّ ارتداء قناع،...
  - كيف  للمديح أن يضايقك؟ * أيّ مديح تقصد؟ - مدح الغير لك. * لا. بل يضايقني بعضه. - ولِمَ؟ * بعض المديح لا أصدّقه، فيدفع بي إلى أن أشكّ في صدق فضائلي وحقيقتها. يأتيني من انتهازيٍّ مفسود فتختلط مشاعري. وبعضُه أصدّقه فأكاد أبلغ حافةَ الغرور والرعونة...
  أوقفتْني في الحيّ صبيّةٌ في مُقتبل الورد، والندى في عينيْها لم يزل نديًّا طريًّا: ــــــــ أرأيتَ ما وقع؟ ــــــــــ انهارَ الجدار! ـــــــــــ بل سقطت الدارُ على ساكنيها، وما تبقّى إلّا بعضٌ من جدارٍ وهذا الحجر. ــــــــــ كأنّهم لم يأتوا قبل...