"أبو شيبان بعمودان..... أبو شيبان بعمودان."
يصيح الأولاد بلهجةٍ ريفيّةٍ وهم يركضون خلف أبي شيبان مُصفّقين وضاحكين، ومردّدين ما يختصر القصّةَ الشعبيّةَ الأشهر في قريتهم الصغيرة الواقعة في ريف حماه.
تقول القصة إنّ لأبي شيبان عموديْن فقريّين، ولا تفسيرَ آخرَ لقوّته الجسديّة الخارقة. إذ تروي أمّ جبرا أنّه حمل بقرتها حين خرّتْ فوق عجلها وهي تلدُه، وكأنّه يحمل بيضة: فلا رفّ له جفنٌ، ولا تغضَّن ملمحٌ من ملامح وجهه الصلب.
ويُقْسم غازي، بائعُ الخضرة، أنّه لم يستعن إِلَا بأبي شيبان عندما تعطّلتْ سيارتُه المحمَّلة في الطريق الصاعد عند مدخل القرية؛ فقد دفعها أبو شيبان بيديه حتّى أوصلها إلى الساحة، ثمّ مضى مرتاحًا وكأنّه عائدٌ من جلسة شاي.
ويشهد أهلُ الضيعة بأنّ أبا شيبان لم يتأخّر أبدًا عن عبور النهر، أيّامَ الفيض، حاملًا مرضى الحارة الشرقيّة وشيوخها، إلى المستوصف الكائن في الحارة الغربيّة.
كما تُروى قصصٌ أخرى كثيرة، تجعل من حكاية العموديْن الفقريّيْن حقيقةً محتملة، وإنْ كان مُطلِقها الأوّل مجهولًا، أو بقي التحقّقُ منها غيرَ واردٍ في مجتمعٍ شفهيّ الثقافة، مولَعٍ بالخرافات والإشاعات.
حتّى خِلفة أبي شيبان كانت تؤكّد، حسب معتقدات أهل الضيعة، ما يشاع عن فحولته وفتوّته. فما إنْ تزوّج حتّى أنجبتْ زوجته توأمًا ذكرًا أسمياه: شيبان وغسَان. يومَها تنبّأت لهما النسوةُ العارفات بجسدين جميلين قويين، ولكنهنَّ أجمعن أنّهما لن يكونا في جبروت أبيهما وصلابته. فعزم أبي شيبان، حسب زعمهنّ، انقسم في بطن واحد.
شبّ شيبان وغسّان محقّقَيْن النبوءة؛ فلا هما عاديّا القدرة كأقرانهما، ولا هما مقدودان من حديدٍ وفولاذٍ كأبيهما. ولئن أثار الأمرُ لدى المثرثرين غمزًا هامسًا عن خفوت هيبة العائلة وأسطورة قوّتها، فإنّه كان مُرضيًا لأبي شيبان على نحوٍ ما. فقد كان يقول في نفسه: "هكذا أفضل. سيحتاجان واحدهما إلى الآخر أكثر، وسيعرفان أنْ لا غنى لأحدهما عن الآخر. سيحرثان الأرضَ بقوّةِ أربع يدين. سينقلان الماءَ بأربعة سواعد. سيواجهان الحياة كما لو كانا قلبًا واحدًا في رَجُليْن." وهذا ما كان لسنواتٍ طوال، إلى أن جاء صيفٌ قائظٌ ألهبَ البلاد، وألهبَ قلب أبي شيبان على ولديه.
كانت معظمُ المدن والقرى قد اشتعلتْ بسعير التحوّلات: مظاهراتٌ شعبيّة في أغلب المناطق. قواتُ أمنٍ تتصدّى بالرصاص. شهداءُ وجرحى. شعاراتٌ تكثر ومطالبُ تظهر. تسليحٌ وتصعيد. غرباء يتوافدون من كلّ جهات الأرض ليشاركوا في قتالٍ غدا بلا غاية. دمارٌ ومعطوبون ومفقودون. وكلُّ حدثٍ له مَن يرويه، وله مَن يؤكّد عكسه. منشارُ الشقاق أخذ يعمل في جسد البلد الواحد.
بدأ أبو شيبان يلاحظُ جوًّا غريبًا في بيته، ويشمُّ رائحة نسيس الودّ بين الولدين. فقد أصبحا دائمَي التجهّم، لا يتحادثان إلّا بغلظةٍ واضحة. يتجنّبان الجلوسَ إلى مائدة طعامٍ واحدة. يختلقان الأعذار كي لا يجتمعا في مناسبة عائليّة أو سهرة.
وفي ليلةٍ رمضانيّة دخل شيبان إلى البيت حليقَ الرأس، وفاجأ عائلته بقرارٍ لم يسبقْه أيُّ نقاش: "غدًا سألتحق بالجيش لأؤدّي خدمتي العسكريّة." ثمّ استدار صوب أخيه مردفًا: "لا تخف، لن أشيَ بك."
قفز غسّان من جلسته صارخًا: "أيُّ جيشٍ هذا؟ أيُّ جيش؟ هل تسمّي جنودًا يقتلون أهلَهم ويعتدون على مدن بلدهم جيشًا وطنيًّا؟ وهل يستحقّ جيشٌ كهذا أن تسلّمه نفسَك وضميرَك ومصيرَك؟!"
هَوَت كفُّ شيبان على عنق أخيه ضاغطةً بارتجاف. بحلق في وجهه، وتبادلتِ العيونُ الأربع برقًا مشحونًا بالخوف والحبّ والشكّ والكراهية، ثمّ قذفه بكلمةٍ واحدة: "خائن."
توقّفت حواسُّ أبي شيبان عن العمل، وغاب في هبوط حادّ للضغط. احتدّ شيبان مدافعًا عن "الأمن والاستقرار،" مدينًا "الإرهابَ والتدخّلَ الخارجيّ." فانتفض غسّان داحضًا حججَ أخيه التي "تميِّع الظلمَ." راح شيبان يحكي عن مؤامرة تستهدف البلد، وعن واجباتٍ وأولويّات. فرفض غسّان ذلك، مطالبًا بالحقوق والكرامة أوّلًا.
علا الجدال واشتدّ. أوشكَت القبضات أن تتدخّل. صحا أبو شيبان إثر خبطةٍ عنيفة لباب البيت، تلَتها أخرى. فألفى نفسه وحيدًا مع زوجته، التي أمسكتْ بقضبان شبّاك المطبخ وهي تولول باكيةً: "ارجعوا... وَلَكْ ارجعوا."
مضى عامان وأبو شيبان لا يعرف عن ولديه الكثيرَ. يتصّل أحدُهما فلا يخبرُ أباه بمكانه أو وضعه أو رقمِ هاتفه، بل يكتفي بسؤاله عن صحّته وعن أمّه، عن الضيعة والأحوال، وقد يعرضُ إرسالَ بعض المال. لكنّ أحدهما لم يسأل يومًا عن الآخر.
في الاتّصال الأخير، لم ينتظر غسّان أن يسمع شيئًا من أبيه. قال له بسرعةٍ وحزم:
"أبي، سآتي اليوم على رأس مجموعةٍ من الثوّار إلى الضيعة لنحرّرها. سنبدأ بمهاجمة مخفر الشرطة. كفانا ذلًّا ومهانة. سيتغيّر كلّ شيء ونحن مَن سنغيّره. حاولْ أن تخرج مع أمّي موقّتًا إلى أيّ قريةٍ مجاورة. لا تقلقا، الأمور ستكون بخير، ولن أدعَ يدًا تمتدُّ إلى الحقل أو البيت."
لم يكد أبو شيبان يستفيق من خبطة كلام ابنه، حتّى جاءه اتصالٌ قاصمٌ من الآخر:
"بابا، أنا شيبان. اليوم ليلًا أكون في الضيعة. لا تخبر أحدًا، وصلتنا معلومات عن نيّة مجموعةٍ إرهابيّةٍ الاعتداءَ عليها. لا تخف، لن نتركهم يسرقون أمانها. سنبيدهم. اصطحبْ أمّي إلى أحد أقربائنا في المدينة. لن يطول الأمر. وأنا سأوصي رفاقي بشأن البيت."
لمعَ رأسُ أبي شيبان بآلام الدنيا كلّها. سرى الخدرُ في أطرافه، وزاغت عيناه. طقطق حلقه ولسانه بجفافٍ واخز كأنّه لم يشربْ في حياته قطرةَ ماء. وكما تضربُ الصاعقةُ سنديانةً سامقةً فتُنهي خضرتَها المُعمّرة، ضرب الحزنُ قلبَ أبي شيبان فأوقعه أرضًا، خاتمًا أسطورةَ قوّته.
***
في المشفى الوطنيّ في مصياف، اجتمع أقرباءُ أبي شيبان وأهلُ قريته حول الطبيب المذهول. استنطقوه بأصوات قلقةٍ عن حالته، فأجابهم بتردّد يشوبُه الخجلُ والدهشة:
"المؤكّد أنّ أبا شيبان ظهره مكسور. لكنّ حالته غريبة جدًّا. فالعظام والفقرات البادية في الصور الشعاعيّة كثيرة. كأنّ هذا الرجل كان له عمودان."