قبل الشروع في تقسيم الثقافة الفلسطينيّة جغرافيًّا، وتأثيرِ ذلك في المشهد الثقافيّ الفلسطينيّ العامّ، علينا أن ننطلق من قاعدةٍ أساسيّةٍ فنيّةٍ بحت. وهي أنّ على الحالات الفنيّة ــــ أفرادًا أو مؤسَّساتٍ أو إنتاجاتٍ أو مشاريع ــــ أن تندرج ضمن معايير فنّيّة عالية، وأن تتّسمَ بعناصرَ جماليّةٍ إبداعيّة، ولو ابتعدتْ كلَّ البعد عن الشعارات الوطنيّة المباشرة. فهناك العديد ممّن رفع شعاراتٍ وطنيّةً مباشرةً في أعماله الفنيّة ولكنّه لم يكن ذا تأثيرٍ في المشهد الثقافيّ الفلسطينيّ العامّ.
لا ننكر أنّ الهويّة الفلسطينيّة هي أكبرُ آلةِ ضغطٍ على أيّ عملٍ فنّيٍّ. فنحن ما زلنا تحت الاحتلال، ومن الطبيعيّ جدًّا أن نَستخدم الفنّ سلاحًا لمقاومة القهر وآلة العربدة. لكنْ على المبدع أن يُدرك ضغطَ الهويَّة على الثقافة، وأن يتعاملَ معه كواقعٍ، وأن يبحث في بعض الأحيان عن مناطق الحريّة المطلقة في مضمون عمله الثقافيّ وشكله الفنّيّ.
(الثلاثي جبران)
علينا ألّا نستسلمَ لهذه الهويّة فيأتيَ عملُنا "بطوليًّا" لأنّنا نحبّ صورةَ البطل فينا. ولكنّ علينا، أيضًا، ألّا نستسلمَ لهذه الهويّة فنَصبغَ عملَنا بروح "الضحيّة" البكّاءة لأنّنا نحبّ صورةَ الضحيّة.
على المثقّف والفنّان الفلسطينيّ أن يخرج من الصورتيْن المذكورتين، فينتجَ عملَه الفنّيّ على قاعدةِ أنّنا بشرٌ عاديّون، لا أبطالٌ أو مجرّدُ ضحايا، وعلى قاعدة أنّ ما يجري من حولنا من اضطهادٍ واحتلالٍ للأرض والذاكرة والواقع والأحلام إنّما هو واقعٌ سياسيٌّ متغيّرٌ وزائلٌ بالضرورة. وعلى الفنان الفلسطينيّ تحديدًا ألّا يسمح للواقع بأن يُثْقل هويّتَنا السياسيّة ويزيدَ من ضغطها على الثقافة والإبداع؛ كأن يعرِّفَ عن نفسه بأنّه "فنّانٌ فلسطينيّ"ٍ لا "فنّانٌ من فلسطين."
فـ"الفنّان الفلسطينيّ" هو مَن تهيمن على معاييره الفنيّة الهويّةُ الفلسطينيّة. أمّا "الفنّان مِن فلسطين" فهو مَن يغذّي هويّتَه السياسيّة والوطنيّة ثقافةً وتحريرًا.
إنّ انطلاقي من هذا الفكر يحتِّم عليَّ، شخصيًّا، ألّا أرى في فلسطين "بقعًا" جغرافيّةً، وإنتاجًا ثقافيًّا محدّدًا ومسجونًا بتلك المناطق. فالفلسطينيون ليسوا "فلسطينيّي الداخل الأخضر،" و"فلسطينيّي الضفَّة،" و"فلسطينيّي القدس،" و"فلسطينيّي غزَّة،" و"فلسطينيّي المهجر." ولعلَّنا في الماضي، منذ النكبة، وبسبب انقطاع التواصل الجغرافيّ بين تلك المناطق، كنّا في حاجةٍ إلى تعريف العمل الثقافيّ بجغرافيّة المكان. أمّا اليوم فإنّني لا أرى أيّة حاجةٍ إلى ذلك.
إنّ ما يحدِّد انتماءَ الفنّان إلى هويّته ووطنه في عمله الفنّيّ ــــ وإنْ خلا هذا العملُ من أيّ شعاراتٍ وصِفاتٍ وطنيّةٍ وقوميّةٍ أو سردٍ للذاكرة ــــ إنّما هو موقفُه خارج عمله الفنّيّ: عبر تصريحاته الصحفيّة أو مواقفه إزاء ما يجري حولنا من ظلمٍ وانتهاك؛ أو عن طريق تجنُّب الوقوع في فخّ العمل الفنّيّ المشترك مع العدوّ أيًّا كان مضمونُ العمل؛ أو عن طريق تفادي إنتاج أيّ عملٍ فنّيّ مموَّلٍ من جهة العدوّ؛ وأخيرًا عبر الحذر الدائم من المصائد والكثير من المغريات.
أن أكون فنّانًا يعني أن أكون فنّانًا ناجحًا، طموحًا، مثابرًا، موجودًا في الساحة الفنّيّة، محلّيًّا وإقليميًّا وعالميًّا. أمّا أن أكون فنّانًا من فلسطين، فيعني أن أكونَني قبل أيّ أمر آخر. ففلسطينيّتي غير معرّفة، وغير قابلة للتعريف، وتسبق التعريف. هي أَنايَ الإنسانيّة. وهي أكبرُ من أمّي وأبي وصديقي ومعلّمي وجارتي ومدينتي ومكان إقامتي أيًّا يكن. وهي أشمل من أيّ جواز سفر، وأبعد من أيّة فكرة. هي إنسانيّة الفنّان قبل أن يولد فنّانًا.
فلسطين (الناصرة)