قبل تسعة عشر عامًا، رسَمَ انتصارُ تحرير جنوب لبنان، الذي حقّقته المقاومةُ، مشهدًا عربيًّا موحّدًا، تجلّى عبر الاهتمام الإعلاميّ بهذا الإنجاز، إلى الحدّ الذي أثار عصبَ المقاومة لدى الشعوب العربيّة، فانطلقت الانتفاضةُ الفلسطينيّةُ الثانية (انتفاضة الأقصى) بعد شهور. وتأجّجتْ هذه المشاعرُ مع الانتصار التالي للمقاومة عبر التصدّي للاعتداءات الإسرائيليّة على لبنان صيف العام 2006.
إلّا أنّ ذلك المشهدَ الإعلاميَّ لم يدُم طويلًا.
ذلك لأنّ الأنظمة العربيّة لم تحتملْ هذا التحوّلَ في الشارع العربيّ، لأنّها تعْلم أنّ مطالبة الشعوب بحقّها في المقاومة سيهزّ عروشَها. فكان لا بدّ من اجتراح قضايا جديدة وأعداء وهميين كي تَحْرف أنظارَ هذه الشعوب عن انتصارات المقاومة.
أمّا الولايات المتحدة الأمريكيّة، التي أرادت تقويضَ المقاومة من أساسها، فقد وضعتْ مخطَّطًا للنيل من العمق الشعبيّ الذي رسّختْه هذه الانتصاراتُ المتتالية. فوقف جيفري فيلتمان ليَشهد، في الكونغرس الأمريكيّ، على دفع إدارته مبلغَ 500 مليون دولار لوسائلَ إعلاميّةٍ لبنانيّة، ولوسائطها الإلكترونيّة، بهدف تشويه صورة حزب الله.[1]
وعلى ضوء التطوّرات التي عصفتْ بالوطن العربيّ خلال مرحلة "الربيع العربيّ،" تاهت القضيّةُ الفلسطينيّة، التي كان ينبغي أن يجتمعَ عليها الإعلامُ العربيّ. كما أنّ طفرة وسائل التواصل الإجتماعيّ كان لها الأثرُ الفعّال في حرف الوعي باتجاهات مختلفة، وتحت مسمّياتٍ كثيرة.
من الأسئلة التي تواجه أهلَ الإعلام اليوم: هل لا تزال تصحّ تسميةُ "الإعلام العربيّ؟" وأين رؤيةُ هذا الإعلام إلى التطوّرات والقضايا المطروحة: من الفرز الطائفيّ والمذهبيّ، إلى فعّاليّات صفقة القرن، مرورًا بالحرب على الإرهاب؟ بمعنًى آخر، نحن اليوم أمام سؤال يعيد المشهدَ الإعلاميّ إلى نقطة الصفر، وإلى السؤال الأساس: "من هو العدوّ اليوم؟"
لهذا، نحن في حاجة إلى إعادة صياغة مصطلحات ومفاهيمَ إعلاميّة جديدة لتصنيف العدوّ وفق معايير المهنيّة الإعلاميّة، وبعيدًا عن توجّهات المال السياسيّ الذي بات يمتلك معظمَ الوسائل الإعلاميّة الضخمة.
كانت القضيّة الفلسطينيّة قِبلةَ السياسة الإعلاميّة والصحافيّة العربيّة. القضيّة لم تتغيّر. ما تغيّر هو الإعلامُ العربيّ، الذي فقد الكثيرَ من مبادئه المهنيّة والأخلاقيّة والقيميّة. ذلك أنّ العديد من الوسائل الإعلاميّة في العالميْن العربيّ والإسلاميّ لم يعد يرى في "إسرائيل" العدوَّ الأوّل (ولا يراها عدوًّا أصلًا)، وأصبح يروّج لنقل السفارة الأميركيّة إلى القدس ولاعتبار القدس عاصمةً لـ"اسرائيل." [2]
هل لا تزال تصحّ تسميةُ "الإعلام العربيّ؟" وأين رؤيةُ هذا الإعلام إلى التطوّرات والقضايا المطروحة؟
الأخطر من ذلك كلّه هو أنّنا أمام أزمة على مستوى هويّة الإعلام العربيّ. فهل يَنقل هذا الإعلام نبضَ الشعوب العربيّة؟ أين انعكاسُ القضايا المحقّة والعادلة على هذه الوسائل الإعلاميّة؟ أمْ أنّ هذه الأخيرة تحوّلتْ فعليًّا إلى أبواقٍ ناطقةٍ باسم المال السياسيّ والأجندات السياسيّة، الخارجيّة والمحلّيّة؟
***
تحدّث الكثير من المحلّلين والإعلاميين في بدايات الحَراك الشعبيّ العربيّ عن أنّ وسائل التواصل الاجتماعيّ هي بمثابة الوقود الأساسيّ له. غير أنّ بقاءَ (بل تفاقمَ) الأزمات التي عاناها الشعبُ العربيُّ ولا يزال، والزيادةَ القصوى في استخدام الشباب العربيّ لمنصّات التواصل الاجتماعيّ، يؤكّدان أنّ المحرِّكَ الأساسَ لم يكن الأفكارَ المطروحةَ على هذه الوسائل، بل "الغرف الإعلاميّة السود."
فـ"بفضل" مثل هذه الغُرف، بات احتلالُ الولايات المتحدة الأميركيّة للعراق، مثلًا، عبارةً عن نشر الديمقراطيّة في العالم، على الرغم من كلّ المآسي التي جرّها هذا الاحتلالُ على الواقع العربيّ. وقد أدّى اختلالُ المفاهيم والعقائد الإعلاميّة الى اختلال التوازن في الخطاب الاعلاميّ، فأصبحنا أمام وسائل إعلاميّة تحوّلتْ إلى متاريس، يتمترس خلفها جمهورٌ تقدِّم إليه ما يُشبع غرائزَه السياسيّة والمذهبيّة؛ بل ذهبتْ إلى حدّ شيطنة الطرف الآخر والرأي الآخر.
وانجرفتْ أكثرُ هذه الوسائل، تحت مبرِّرات عديدة، إلى نشر العنف، وشاركتْ في استراتيجيّات الجماعات الإرهابيّة. فبثّت أكثرَ مشاهد داعش عنفًا، مزوَّدةً بأفضل التقنيات وأحدثها، ومشبعةً بأفكار التكفير والترهيب. أَلم تنقل معظمُ هذه القنوات مشاهدَ إحراق الطيّار الأردنيّ معاذ الكساسبة؟! والأفظع من مشهد الإحراق نفسه كان المبرِّرات التي ساقتها إلينا هذه الوسائل.[3]
***
وسط هذا المشهد الإعلاميّ، هناك مَن حاول المحافظةَ على الخطاب الوحدويّ المتوازن والمنفتح، وانتهج سياساتٍ موضوعيّةً من خلال التركيز على القيم المهنيّة للإعلام، وتعزيز ثقافة الحوار والتلاقي، والابتعاد عن لغة التحريض، والسعي إلى إبراز القضايا العادلة والمحقّة التي يفترض أنْ تكون جامعةً.
قام العدوُّ الإسرائيليُّ صيف 2006 بتدمير مبنى قناة "المنار" تدميرًا كاملًا
إلّا أنّ أصحابَ القرار الإعلاميّ والمال السياسيّ، المتحكّمِ بما "يُسمح" للجمهور أنْ يشاهدَه وما "يُمنع" منه، قرّروا إسكاتَ هذه الأصوات. فقامت شركةُ عربسات بقطع بثّ قناة المنار اللبنانيّة. وكانت تلك سابقةً خطيرةً جعلتْ من شركات الأقمار الصناعية تتحكّم بالمحتوى الذي تبثّه القنواتُ التلفزيونيّة. وتبعتْها في ذلك الإجراء شركةُ نايل سات، التي حجبتْ هي الأخرى بثَّ قناة المنار عن مشاهديها في العالم العربيّ ودول الاغتراب. وكان قد سبق عربسات ونايل سات، إلى ذلك، العدوُّ الإسرائيليُّ في حربه المدمّرة على لبنان صيف العام 2006، حين قام بتدمير مبنى القناة تدميرًا كاملًا. وبذلك افتعل القيّمون على الشركتيْن المذكورتيْن جريمةً موصوفةً في حقّ الإعلام العربيّ. بيْد أنّ عمليّة كمّ الأفواه لن تُثني أصحابَ الكلمة عن قولها في وجه كلّ سلطانٍ جائر، وإنْ تسلّح بمصطلحاتٍ فضفاضة كـ"الديمقراطيّة" و"حقوق الإنسان."
***
في مواجهة كلّ هذه الانزلاقات على صعيد الإعلام العربيّ، نرى أنّ المسؤوليّة الكبرى تقع اليوم على عاتق المتلقّي، الذي يجب أن يُخْضِع أيَّ معلومةٍ إلى التمحيص والتقصّي لمعرفة مصدر الخبر ومدى صدقيّته، ولاسيّما بعد أنْ انتشرتْ ظاهرةُ "المواطن الصحفيّ" من خلال استعمال وسائل التواصل الإجتماعيّ - - وهذا المواطن يمكن أنْ يكون بعيدًا كلّ البعد عن معايير الإعلام المهنيّة والأخلاقيّة. وقد نكون أمام خطر اهتزاز الركائز الأساسيّة للإعلام في ظلّ هذه الطفرة غير المنظّمة للإعلام الجديد، الذي كان إحدى الركائز الأساسيّة لاستراتيجيّة التوحّش عند العصابات الإرهابيّة.
بيروت