عندما اندلعت الانتفاضة في الثامن من كانون الأوّل 1987، كنتُ أعمل صحفيًّا في جريدة الفجر. كنتُ حينها في الخامسة والعشرين، أُعيل أفرادَ عائلتي، المكوَّنة من أربعة أشقّاء وشقيقتين، إضافةً إلى والدتي، وذلك عقب وفاة والدي سنة 1983.
وكانت المعيشة آنذاك مرهقةً وتتطلّب الكثير. لكنّ ثقافتي الوطنيّة، التي صقلتُها أثناء دراستي في جامعة بيت لحم، ألزمتْني التخلّي عن سائر طموحاتي الشخصيّة. فانخرطتُ في الانتفاضة، التي اندلعتْ ردًّا على واقع الاحتلال، مُطالبةً بالحريّة والاستقلال.
صرتُ عضوًا في اللجان الشعبيّة، المتفرِّعة عن "القيادة الوطنيّة الموحّدة." وبعد بضعة أشهر تعرّضتُ للاعتقال للمرّة الأولى. قضيْتُ ثمانية أشهر في السجن، عزّزتْ إيماني بعدالة قضيّة شعبي. وبعد إطلاق سراحي، في كانون الأوّل 1988، جدّدتُ نشاطي بأن قمتُ بتجنيد شباب مدينة القدس للانضمام إلى الانتفاضة.
ردًّا على سياسة رئيس الوزراء الإسرائيليّ آنذاك، يتسحاق رابين (وكان وزير الدفاع أثناء الانتفاضة)، في تكسير عظام المتظاهرين، انضمّ المزيدُ من الفصائل والمستقلّين إلى فعّاليّات الانتفاضة. كنّا نفخر بنشاطنا في هذه العمليّة النضاليّة، وكنّا مقتنعين بعدالة قضيّة شعبنا. كان الاعتقاد السائد أنّ الانتفاضة ستنتهي بالنصر، مهما طال الزمن. وجاء وقتٌ خلال الانتفاضة كنتُ فيه أنا وإخوتي الثلاثة في السجون الإسرائيليّة، ما اضطرّ أمّي الطاعنة في السنّ إلى "التعرّف" إلى أغلب سجون الاحتلال.
***
رائد عيسى، "الملثّم"، أكريليك على قماش، 2012.
أثناء غزو العراق للكويت عام 1990 ساندتْ قيادةُ منظّمة التحرير الفلسطينيّة الرئيسَ العراقيّ صدّام حسين. فجمّدتْ دولُ الخليج دعمها الماليّ للمنظّمة، وعمدتْ إلى ترحيل العمّال الفلسطينيين.
خشيةً من فقدان المكانة في قيادة الشعب الفلسطينيّ، ولضمان السيطرة على التمويل، باشرتْ منظّمةُ التحرير محادثاتٍ سرّيّةً مع "اسرائيل،" انتهت باتفاقات أوسلو سنة 1993، وبإنشاء السلطة الفلسطينيّة بعد عام. حينها، اعترفت المنظّمةُ بـ"اسرائيل،" في حين اعترفت الأخيرةُ بمنظّمة التحرير ممثلًا شرعيًّا للشعب الفلسطينيّ.
تابعْتُ حفلَ توقيع هذا الاتّفاق السيّئ السمعة أثناء اعتقالي الثاني في السجون الإسرائيليّة، بعد أن أُسرتُ خمسَ سنوات فعليّة. في ذلك الوقت، أطلقتْ "إسرائيل" سراحَ مجموعةٍ من سُجناء حركة فتح، شريطةَ التوقيع على وثيقة نبذ العنف. رفضنا التوقيعَ، نحن اليساريّين الذين عارضنا اتفاقيّاتِ أوسلو، وفضّلنا البقاءَ في السجون إلى حين انتهاء فترة محكوميّتنا. وهكذا لم يطلق سراحي إلّا في العام 1996.
بعد إخلاء سبيلي، استأنفتُ حياتي الشخصيّة، فعملتُ في وظيفةٍ جديدة، وتزوّجتُ، ورزقني الله طفليْن. كما حصلتُ على درجة الماجستير في الدراسات الدوليّة من جامعة بيرزيت.
اليوم، بعد مرور 25 عامًا على اتفاقيّات أوسلو، ما يزال الفلسطينيّون بلا دولة، في حين تُسابق "إسرائيل" الزمنَ لبناء المزيد من المستوطنات والاستيلاء على ما تبقّى من الأراضي الفلسطينيّة. وعندما أصبَح "حلُّ الدولتين" مستحيلًا، انهمرت اعترافاتُ المجتمع الدوليّ في دعمه!
***
استمرارُ الاحتلال، وانقسامُ القيادات الفلسطينيّة، دفع ببعض الشباب الفلسطينيين إلى تحويل أنفسهم إلى "ذئاب منفردة." ومنذ سنة 2015 شرَعوا بدهس الجنود الإسرائيليين وطعن المستوطنين، مؤمنين أنّ الموتَ شهداء أفضلُ من العيش الذليل.
لكنّ روحَ الاحتجاجات السلميّة الشعبيّة ما لبثتْ أن استحوذتْ على الفلسطينيين مرةً أخرى، وبخاصّةٍ في القدس، عندما حاولتْ "إسرائيل" نصْبَ بوّاباتٍ إلكترونيّة في المسجد الأقصى. وقد أفلحتْ تلك الاحتجاجات، التي بدأتْ في منتصف تموز واستمرّت أسبوعين تقريبًا، في إجبار "اسرائيل" على التراجع عن إجراءاتها الجديدة.
***
رائد عيسى، "لحظة خوف"، أكريليك على قماش، 2014.
أيّ دروس من الانتفاضة الأولى؟
الدرس الأساس هو أنّ الفلسطينيين يحتاجون، من أجل نيل حريّتهم واستقلالهم،
إلى قيادة موحّدة ومُخلصة؛ قيادةٍ تلبّي مطالبَهم، شأن "القيادة الفلسطينية الموحّدة" زمن الانتفاضة الأولى، لا قيادةٍ تقدِّم تنازلاتٍ مجّانيّةً إلى سلطة الاحتلال.
الدرس الثاني هو أنْ لا بديلَ لدينا، في الوضع الراهن، من تبنّي استراتيجيّةٍ موحّدةٍ لكسب حريّتنا. ولسوء الحظ لا أرى محادثاتِ القاهرة الأخيرة قادرةً على استعادة الوحدة الوطنيّة، ما دامت مواقفُ حركتَي فتح وحماس تسيران في خطَّيْن متوازييْن لا يلتقيان. كما أنّ الطرفين لم ينخرطا في المحادثات أصلًا إلّا بعد تعرّضهما لضغوطٍ من دولٍ إقليميّة حريصةٍ على تمهيد الطريق أمام "صفقة القرن" الأمريكيّة في الشرق الأوسط. وهذه "الصفقة" ترتكز على تطبيع العلاقات الدبلوماسيّة بين "اسرائيل" وبعض الدول العربيّة على حساب الحقوق الفلسطينيّة، بادّعاء مواجهة "التهديد" الإيرانيّ المزعوم.
أمّا الدرس الثالث والأهمّ فهو أنْ لا خيار أمامنا غير مواصلة الكفاح والصمود؛ فالتاريخ علّمنا أنّ الاحتلال إلى زوال، ما دامت المقاومة صلبةً وراسخةً وموحّدة.
فلسطين المحتلّة