نصوص لبابلو نيرودا
21-08-2016

 

1.     التزام الهدوء

الآن سنعدّ حتى اثنيْ عشر

ثم نهدأ.

 

لمرةٍ واحدةٍ على وجه الأرض،

دعونا لا نتكلّم بأيّة لغة؛

دعونا نتوقّف لثانيةٍ واحدة،

ولا نحرّك أذرعَنا كثيرا.

 

ستكون لحظةً غريبةً

من دون اندفاع، من دون محرّكات؛

سنكون جميعًا معًا

تلفُّنا غرابةٌ مفاجئة.

 

الصيّاد في البحر البارد

لن يؤذي الحيتانَ،

وجامعُ الملْح

سينظر إلى يديه المجروحتين.

 

أولئك الذين يجهّزون الحروبَ الخضراء،

حروبًا بالغاز، وحروبًا بالنار،

وانتصاراتٍ بلا ناجين،

سيرتدون ملابسَ نظيفةً

ويسيرون مع إخوانهم

في الظلّ من دون أن يفعلوا أيّ شيء.

 بابلو نيرودا (1904 ــــ 1973):

شاعر تشيليّ، يُعتبر من أشهر الشعراء وأكثرهم تأثيرًا في عصره. انتسب إلى الحزب الشيوعيّ التشيليّ. من كتبه: عشرون قصيدة حب، وأغنية يائسة. حاز جائزة نوبل في الأدب، وجائزة لينين للسلام.

 

ما أريده ينبغي ألّا يُخلط

مع الجمود المطلق.

فالحياة هي ما هي عليه؛

لا أريد مقايضةً مع الموت.

 

لو لم نكن أحاديّي التفكير إلى هذا الحدّ

بصدد إبقاء حيواتنا مستمرّةً،

لو أننا لا نفعل شيئًا ولو لمرةٍ واحدةٍ،

فلربّما يقاطع صمتٌ عظيمٌ هذا الحزنَ

لعدم فهم أنفسنا أبدًا

ولتهديد أنفسنا بالموت.

لربّما يمكن الأرضَ أن تعلّمنا

كما هو الحال عندما يبدو كلُّ شيء ميتًا

ليتّضح لاحقًا أنّه حيّ.

 

الآن سأعدّ حتى اثنيْ عشر

وعليك أن تلتزم الهدوءَ

وأنا سأرحل.

 

2. الليلة، أستطيعُ كتابة أكثر الأشطر حزنًا

الليلة، أستطيعُ كتابة أكثر الأشطر حزنًا.

 

أكتبُ، على سبيل المثال، "المساءُ تَبَعثر

والنجومُ الزرقاءُ ترتجف بعيدًا."

رياحُ المساء تدور في السماء وتغنّي.

 

الليلةَ، أستطيع أن أكتب أكثرَ الأشطر حزنًا:

أحببتُها، وأحبّتني أيضًا أحيانًا.

 

خلال ليالٍ كهذه الليلة احتضنتُها بين ذراعيّ

بّلتُها مرارًا وتكرارًا تحت السماءِ اللانهائيّة.

 

لقد أحبّتني أحيانًا, وأحببتُها أنا أيضًا.

كيف للمرء ألّا يحبَّ عينيها الرائعتين الساكنتين؟!

 

الليلة، أستطيع كتابة أكثر الأشطر حزنًا.

أن أفكّر في أنّها ليست لي. أن أشعر أنّي فقدتُها.

 

أن أسمع الليلَ الشاسعَ ، وهو أكثر شساعةً بعدُ من دونها.

والشعر يهبط على الروح مثلَما يسقط الندى على المراعي.

 

ما يهمّ بعد أن أخفق حبّي في إبقائها؟

الليل تبعثر وهي ليست معي.

 

هذا كلّ شيء. في البعد، ثمّة شخصٌ يغنّي. في البعد.

روحي لم ترضَ بأنها فقدتْها.

 

بصري يبحث عنها كأنّه يرغب في الذهاب إليها.

قلبي يبحث عنها، وهي ليست معي.

 

 الليلةُ نفسُها تصبغ الأشجارَ نفسَها بالبياض.

ونحن، آنذاك، لم نعد كما كنّا.

 

لم أعد أحبّها، هذا مؤكّد، ولكنْ كيف أحببتُها.

صوتي حاول العثور على الريح ليلمسَ سمعَها.

 

لشخصٍ آخر. ستكون لشخصٍ آخر. يشبه قبلاتي السابقة.

نسيمها. جسدها المشرق. عيناها اللانهائيتان.

 

لم أعد أحبّها، هذا مؤكد، لكنْ ربّما أحبها.

الحب قصيرٌ جدًّا ، والنسيانُ طويلٌ جدًّا.

 

لأنني خلال ليالٍ كهذه الليلة احتضنتُها بين ذراعي،

فإنّ روحي غيرُ راضية أنّها فقدتْها.

 

لكنّ هذا قد يكون الألمَ الأخيرَ الذي تجعلني أعانيه،

وهذه الأبيات قد تكون الأخيرة التي أكتبها لها.

 

3. إذا نسيتني

أريدك أن تعرفي

شيئًا واحدًا:

تعرفين ما يكون عليه الأمر:

إذا تطلعتُ

إلى القمر الكريستاليّ، إلى الغصن الأحمر

للخريف المتمهّلِ عند نافذتي؛

إذا لمستُ،

قرب النار،

الرمادَ الذي لا يمكن لمسُه،

أو جسدَ الجذع المتجعّدَ؛

فإنّ كلّ شيء سيحملني إليكِ،

كما لو أنّ كلَّ ما هو موجودٌ ــــ

العبير، الضوء، المعادن ــــ

قواربُ صغيرةٌ

تُبْحر

نحو جُزُركِ التي تنتظرني.

 

حسنًا، الآن،

إذا توقّفتِ عن حبّي شيئًا فشيئًا،

فسأتوقفُ عن حبّكِ شيئًا فشيئًا.

 

إذا نسيتِني

فجأةً،

فلا تبحثي عني،

لأنّني سأكون قد نسيتُك أصلًا.

 

إذا كنتِ تظنّين أنّ راياتِ الريح
التي تعْبر حياتي طويلةٌ ومجنونة،
وقرّرتِ تركي
على ضفافِ القلب
حيث لديّ جذورٌ،
فتذكّري
أنّني في ذلك اليوم،
في تلك الساعة،
سأرفعُ ذراعيَّ،
وستسافرُ جذوري،
قاصدةً أرضًا أخرى.

 

لكنْ،
لو في كلِّ يوم،
وكلِّ ساعة،
شعرتِ أنّك قدري

بعذوبةٍ لا تسكَّن؛
لو أنه، في كلّ يوم، صعدتْ زهرةٌ
إلى شفتيك لتبحثَ عني؛
آه حبيبتي، آه مليكتي،
ففي داخلي، سيتجدد كلُّ ذلك الحريق.
في داخلي، لا شيء يُطفأ أو يُنسى؛
فحبّي يتغذّى على حبك، يا حبيبتي؛
وما دمتِ حيّةً فسيكون بين ذراعيكِ،
من دون أن يترك ذراعيَّ.

 

4.أنا لا أحبُّكِ إلّا لأنّني أحبّكِ

 

أنا لا أحبُّكِ إلّا لأنّني أحبُّكِ.

أتبدّلُ من محبّتكِ إلى عدم محبّتكِ،

من انتظاركِ إلى عدم انتظارك،

قلبي يتبدّل من البرودة إلى الاشتعال.

 

أحبُّكِ فقط لأنّكِ أنتِ التي أحبّها؛

أكرهُكِ بعمق، وكراهيتك

تخضع  لك، ومقياسُ تغيُّرِ حبّي لكِ

هو أنني لا أراكِ ولكنني أحبكِ حبًّا أعمى.

 

ربما سيستهلك ضوءُ يناير

قلبي بشعاع  قسوته،

سارقًا مفتاحي إلى الهدوءِ الحقيقيّ.

في هذا الجزء من القصة سأكون أنا مَن

يموت، الوحيدَ الذي سيموت،

وسوف أموت من الحبّ لأنّني أحبّكِ،

لأنني أحبّكِ، الـ حُبَّ، بالنارِ والدم.

 

عبير الفقي

شاعرة ومترجمة مصرية، صدر لها ثلاثة دواوين شعرية: أنا لا أكتب إليك (2013)، وروح قديمة بنافذة عرض (2014)، وكلّ شيء يحدث هناك (2016). لها عدة ترجمات ونصوص في مجلات مصرّية وعربيّة.