كنت أحاول أن أرسل مائة دولار إلى شخص في اليمن. مجرّد مائة دولار... ورقة بائسة مطبوعة بحبر رائحته بشعة، لا أُلفة فيها. تسألني الموظّفة بشكل تلقائي: "ما السبب؟" أستوضحها، فتُفهمني بضيق صدر أنّني يجب أن أذكر سبب إرسالي المال إلى الشخص المعنيّ. كان شرح السبب منهكًا، والإحساس بأنّني مضطر إلى مكاشفة هذه السيّدة شيئًا خاصًا بيني وبين أحد معارفي مزعجًا. استنكرتُ السؤال، فلم تكترث، وتابعت عملها. سألتها عن الأمر فأجابتني: "اخترتُ بند المصروف من القائمة." إذًا، لم تُزعج نفسها بانتظاري، واختارت أنّني أعيل شخصًا في اليمن بـ100$!
"ولماذا تسألين عن الأمر؟"
"لست أنا، إنّها أميركا التي تسأل، ونحن مجبرون على أن نسجّل ذلك."
"نحن مجبرون،" قالتها من دون أن تتوقّف عندها. كذلك قالها حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، في معرض تعميمه مجموعة جديدة من القوانين التي تشدّد الخناق على حزب الله. قال "نحن مجبورون أن ننصاع لقرار أميركيّ صرف." لم يتوقّف ليشرب الماء، أو حتّى يبتلع ريقه لصعوبة الموقف. ربّما أصعب ما واجهه هو كيف يدوّر الزوايا: كيف ينفّذ القرار الأميركيّ شكلًا بذكاء، من دون أن يوقع لبنان في أزمة سياسيّة نتيجة لاستهداف حزب لبنانيّ ممثّل في الحكومة بوزراء ونوّاب... ومن دون أن يتسبّب بأزمة للمصارف إذا تعرّضت لردّ انتقاميّ من حزب الله ومن يمون عليهم من أثرياء طائفته.
ولكن، ماذا لو قلنا لأميركا "طزّ" كبيرة؟ ليس لأنّنا لا نريد "محاربة الإرهاب،" فنحن مجبرون على ذلك لنستمرّ في الحياة ــــــــ وفي رأس قائمة الإرهاب عندنا إمبراطوريّة أميركا ــــــــ إنّما لمتعة ممارسة فعل الكرامة الوطنيّة بقول لا، بعدم الانصياع لقرار داخليّ لدولة تبعد عنّا آلاف الكيلومترات. الجواب عن تساؤلي جاهز: سينهار القطاع المصرفيّ نتيجة للعقوبات عليه، وبالتالي سينهار الاقتصاد ويُدمّر البلد!
كيف يُدمّر بلد إذا انهارت مصارفه؟ مَن ركّب الأمورَ بهذا الشكل الغامض، وزرع هذا الوعيَ "البديهيّ" في مؤخّرات رؤوسنا، ولم نعد نجرؤ حتّى على التساؤل حول تلك "البديهيّات"؟ هل تركيب الاقتصاد الدوليّ بهذا الشكل "الغامض" مقصود حتّى نقتنع بأنّ هذا هو المسار الطبيعيّ للأمور، وأنّنا أعجز من فهم تحرّك الكتل النقديّة الكبرى، كالكائنات العملاقة الخرافيّة الشديدة النهم، باتّجاه أماكن أخرى تستطيع أن تقتات فيه ما يظهر أمامها؟
***
عالم الاقتصاد مبنيّ على الغموض المقصود، لا لصعوبة علم الاقتصاد بذاته، لكنْ سترًا للجرائم والمذابح التي تجري في شرايين هذا العالم. تخيّلوا الفلّاح الذي عمل وكدّ، وأحبّه ربّه سنتها، فأعطاه المطر الوفير في وقته، والشمس الساطعة في وقتها، وكانت الأمور ممتازة والغلال مبروكة. وقد بدأ الرجل حصادها، وفي رأسه يوزّع الأموال بين المصاريف والفواتير والتوفير للمستقبل. وتخيّلوا في مدينة بعيدة رجلًا عصابيًّا، يخوض في ألعاب البورصة، يشتري أوهامًا مسجّلة ويبيع أوهامًا أكبر، فتخرب الأمور بين يديه، وتبدأ سلسلة من التفاعلات الرقميّة. وعلى الشاشات التي لا تتوقف تمرّ معلومات وأرقام، ويركض الموظّفون ويبيعون ويشترون، والهواتف لا تتوقّف، والأدرينالين نوافير، لينتهي النهار بكارثة، ويفقد الفلاح أحلامه وهو لا كمبيوتر له ولا لوح رقميًّ.
هل في ذلك مبالغة؟ حصل ذلك في الولايات المتّحدة الأميركيّة، حين قامت أزمة التأمينات العقاريّة، وصحا الناس من نومهم وقد فقدوا بيوتهم التي قسّطوا أثمانها ردحًا طويلًا من الزمن.
ما حذّرت منه المصارف اللبنانيّة، من أنّ عدم تطبيق القانون الذي سنّه مشرّعون أميركيّون (لا ننتخبهم نحن بالطبع)، سيؤدّي إلى محاصرة القطاع المصرفيّ عندنا، وإلى انهياره، وانهيار البلد برمّته... إنّها الجحيم الأرضيّة إذًا: إن خربت المصارف لن ينبت الزرع، لن يولد الاطفال، لن تتناسل الحيوانات وسيصير لحمها مرًّا، لن نتنفّس هواءً! وكأنّ البشريّة لم تعش يومًا بلا مصرف؛ ففي اليوم السابع ادّعى الإله أنّه استراح فيما هو يهندس المصارف وسياساتها.
المصارف يجب أن تبقى إذًا، كي تكون لنا حياة. ولتبقى المصارف فعليها أن تهندس سياسات البلد الذي انزرعت فيه: فترفض سلسلة رتب ورواتب، وتقرّر حجم الزيادات على الأجور، وتتدخّل في صياغة تطلّعات الحكومة المستقبليّة لبناء الاقتصاد... وفي الوقت ذاته تلتهم ميزانيّة الدولة بفوائد سندات الخزينة، وتسهم في نظام الرشى والفساد والتستّر على الفاسدين، وتحفّز الثقافة الريعيّة فتقدّم القروض للسيّارة والبيت والاستجمام، بل لتكبير النهود أيضًا، لكنّها غير مستعدّة لصرف قرش واحد في مشاريع الزراعة والصناعة إلّا مقابل رهن ملكيّة أغلى من القرض الممنوح.
والمصارف في ذلك خارج المساءلة، ولا مشكلة في تغوّلها إلى درجة فرض رسوم على صرف الشيكات وإيداع الأموال، وفرض فتح الحسابات على الموظّفين ــــــــ بعد "صفقة" مع الشركات والمؤسّسات ــــــ ليستلموا أجورهم الشهريّة من غير أن يتمتّعوا بحقّ الاختيار (كان عندي، مثلًا، حسابات في ثلاثة مصارف: إثنان بصفتي مقترِضًا، وواحد للأجر الشهريّ). والمصارف لا تخاطر البتّة معنا، فلا بطاقة اعتماد إلّا وفق شروط، ولا قرض إلّا بكفيل أو رهن.
ثمّة مصارف تمتلك عشراتِ الفروع، في بلدٍ لا اقتصادَ حقيقيًّا فيه، إلّا "اقتصاد" المضاربات العقاريّة والتحويلات الماليّة من الخارج. حقًّا، من أين تأتي أرباح المصارف؟
***
والمصارف، أيضًا، أداة استعباد للخارج، وما نراه الآن في قضيّة التشديد على حسابات حزب الله دليل على انصياع هذه المصارف للإرادات الخارجيّة حفاظًا على أرباحها وامتيازاتها؛ وبغضّ النظر عن الموقف من الحزب، إلّا أنّ موقف المصارف مخزٍ (ناهيك بموقف الدولة ككلّ)، وهي مستعدّة أن تُدخل البلد في مشكلة هائلة قد لا تنحصر في المجال السياسيّ: إذ كيف نطالب من يُحاصَر، بأن يلتزم الهدوء فيما تجمّد حساباته وتكبّل مؤسّساته وتتوقّف عن العمل ويُطرد موظّفوها؟
ولا يتوقّف الأمر عند هذه المسألة الطارئة: فمصارفنا تقيّد حركتنا، وتحصيها، وفقًا للمعايير التي طلبتها الولايات المتّحدة، عند فتح الحسابات، وترصد كلّ تغيير يطرأ في عملنا ووظائفنا وإيداعاتنا، وذلك من دون ضمانات من أنّ هذه السجلّات لن تُقدّم للأخ الأميركيّ الأعلى حين يحتاج إليها.
على أنّ الأمر لا يتوقّف عند لبنان، وهذا لبّ القضيّة؛ إنّه النظام المفروض على العالم البشريّ كلّه، والذي نسج سياسة نقديّة تقول: إنّ الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يموت إن لن يمتلك المال! تخيّل إنسانًا يموت في العالم جوعًا لأنّه لا يحمل في حزامه ورقة مطبوعة لا تغني من جوع! وإن بدا الموقف هذا ساذجًا وطفوليًّا يُضحك أصحاب الفراسة العلميّة الاقتصاديّة، فذلك لأنّهم لا يستطيعون تخيّل عالمٍ يعيش وفق نظام آخر.
فلنسأل الأسئلة معكوسة: أوليست المصارف، بما تعنيه من سياسة تعبُّدِ النقد، هي منشأ الحروب والخراب وتدمير المجتمعات وتحطيم مستقبل أجيال الدول الفقيرة في العالم أجمع؟ أليست مرتبطة بحمّى الاستهلاكيّة التي تستنزف الأرض ومواردها، وتدمّر البيئة بسرعة كونيّة؟ ألا تغذّي تجارات الأسلحة؟ ألا تحمي نظمًا استبداديّة في كلّ مكان؟ كيف إذًا سيأتي دمار هذه المؤسّسات بالخراب؟! أليست زراعة هذه الفكرة في الـ"دي أن إي" الخاصّ بكلّ وليد هي الخراب بعينه؟
***
التبسيط الضروريّ أحيانًا يقتضي أن نتذكّر أنّ الأرض فيها ما يكفينا: فيها حقول وأشجار خارج رفوف السوبرماركت، وماء خارج القوارير البلاستيكيّة، وهواء خارج المكيّفات. الأساس إذًا أن نُعيد ترتيب أفكارنا حول معنى الـ"حاجة؛" الناس بحاجة إلى الأكل والشرب والدفء والتناسل. هذه حاجاتنا الأساس، وما يأتي غير ذلك ــــ ويا مرحبًا ــــ هو نوافل وزيادات قد تكون فائقة الأهميّة، شرط ألّا تمسّ الحاجات الأساس.
يعمل أقلّ من 20% في العالم في الزراعة ومشتقّاتها، وحوالي الـ 30% في أعمال ضروريّة كصناعة الطعام والبناء وغيرها. أمّا الباقون فهم موظّفو مصارف ومؤسّسات إعلانيّة ومثقّفون وخبراء تجميل وعاملون في صناعة أسلحة بمشتقّاتها وناقلون لهذه البضائع ومحامون وفنّانون ولاعبو كرة قدم إلخ... أيّ يعيش تقريبًا نصف البشر عالة على من يؤمّن لهم الحياة بأساسيّاتها. فانظروا إلى توزيع المعاشات والأجور بين الشقّين لتفهموا أنّ العالم كلّه مقلوب رأسًا على عقب.
***
ربّما هي أفكار يوتوبيّة؟ لكن حلم اليوتوبيا حقّ لأولادنا علينا، ولا سيّما أنّ الوضع الحالي مأساويّ، ولا يُبشّر إلّا بالمزيد.
بيروت