يخرج العصفورُ المأسورُ من صندوقه الخشبيّ ليغرِّدَ معلنًا وصولَ رحلة الظلام إلى منتصفها. تغلقُ كتابَ موباسان الذي أنهتْ قراءتَه للتوّ. تخلع نظّارتيْها، فتتماوج المرئيّاتُ أمام عينيها، ويغدو نظرُها أشبهَ بنظر ثملٍ يتسكّع في أزقة الليل بين الحانات. ترمي برأسها إلى الوسادة، فينسكب عليها ما فيه من ذكريات. تتقلّب يمينًا ويسارًا، قبل أن تُسمِّر ناظريْها في السقف. تستحضر حكاياتِ جدَّتها؛ كانت تغفو ما إنْ تبدأ السردَ، ولكنْ لا جدوى من ذلك الآن.
بعد مجهود كبير، تذبل أهدابُها وتستسلم للنوم. ولكنّها سرعان ما تستيقظ جزعةً. خلف نافذتها هرجٌ ومرج، وأصواتٌ مبهمة كأنّها عزفٌ على أوتار غير مدوزنة. يضيء البرقُ غرفتَها لحظةً ثمّ ينطفئ، مخلّفًا وراءه الظلامَ والوحشة. تصطكّ أسنانُها بردًا وخوفًا. تنهض من سريرها بخطًى بطيئةٍ متّئدة. تقف خلف النافذة وتختلس نظراتٍ حذرةً إلى الخارج. لكنّ ليالي قريتها التي تنام باكرًا حالكةُ السواد، وغزارةُ المطر تحجب الرؤية. تستجمع قواها وفضولَها. تأخذ نفَسًا عميقًا. وبأناملَ مرتجفةٍ، تفتح النافذة محاولةً اكتشافَ مصدر الصوت.
تصفعها الرياحُ دافعةً بها إلى الخلف. تتمسّك بحافّة النافذة، وتُطلّ بنصفها العلويّ إلى الخارج. تجحظ عيناها ذهولًا: سكّانُ المقبرة المجاورة ينهضون من قبورهم. تتشابك ظلالُهم المتحرّكة مع ظلال الأشجار الساكنة. تعْبر الظلالُ من خلال أكوام الأتربة المتبقّية على حوافّ الطريق المؤدّي إلى "مملكة النهاية،" كأنّهم يطوفون حول مثواهم الأخير. تندّ عنهم ضحكاتٌ غريبة، وكلماتٌ مبهمة، ثمّ يتفرّقون، فيقف كلٌّ منهم أمام قبره، ممسِّدًا شاهدتَه، فيصدر عنها أزيزٌ تقشعرّ له الأبدان.
أمام هول المشهد تجد نفسَها واقفةً في منطقةٍ وسطى بين الحلم واليقظة. ثمّ تتذكر أنَّ "الموتى لا يكذبون."
تواصل التحديق، يتنازعها شعوران متلازمان: الخوف والاستغراب. تتذكّر اتصالَ ذلك الصديق، فيبدأ قلبُها بالخفقان بسرعة. لقد جاءت الفرصةُ التي ستفتك بكلّ علامات الاستفهام التي تؤرِّقها منذ سنوات. يتحرّك جسدُها لاإراديًّا كدميةٍ تهزّها يدان خفيّتان، فتنتعل فردتيْ حذاء متنافرتيْن وتتّجه نحو المقبرة.
هل سيحرّرها من نقر إزميل الضمير؟
تتذكّر ما قاله موباسان عن اعترافات الموتى الذين - وحدهم - لا يكذبون؛ عن صحوة ضميرهم المتأخّرة. تتساءل: ماذا عساه سيكتب هو؟ دفع بنفسه إلى الحرب؟ الموت؟ الخلاص؟ بجسدٍ خاوٍ من روحٍ احترقتْ خذلانًا منها كما كان يزعم؟ أم أنَّه ألقى باللوم عليها ليخرج من الحكاية كجلّادٍ يتقن تعذيبَ سجينه؟
هل أحبَّها حقًا؟
هل حاول نسيانَها بكلّ الطرق فعلًا ولم يفلح؟
هل يستحقّ ما أحرقتْه من سنوات، زهدًا ووحدةً وألمًا على ما حلَّ به؟ وهل من شأن ذلك أنْ يغفرَ ذنبَها؟
وهل كانت مذنبةً أصلًا؟ أم أنَّ رحيلها كان حقنًا لدماءِ حبٍّ حرَّمتْه القبيلة؟ وإنْ كان الأمر كذلك، فلماذا يزورها كلَّ ليلة متجّهمًا ومعاتبًا، غاسلًا وجهَها بدمعه؟
قبل زمن بعيد مرَّ بها ذلك الرجلُ ليعصف بداخلها. لم يكن حبًّا بقدرِ ما كان بقعةَ أمان. لم يكن يعلم أنَّها ستُجبَر على إفلات يده في منتصف الطريق. كيف للحبّ أن ينقلب نقمةً ويتحوَّلَ إلى حربٍ يموت بها الصادقون؟ عندما سمعتْ بخبر استشهاده، شعرتْ أنّها هي الرصاصةُ التي أرْدته. بدأت تشتمّ رائحةَ الموت في كلِّ ما يحيط بها، وسياطُ الضمير تجلدها كلما ذُكِر اسمُه في حضرتها.
كانت تتوقّع أنْ يوديَ به الشعورُ بالخذلان إلى أحد المصحّات، ولكنه اختار طريقًا لم يخطر في بالها: طريقًا أكثر إيلامًا لها، يشبه الانتحارَ المقنّع.
نعم، هي مَن تخلّت تحت ذريعة العجز والظروف. هي من حَزَمتْ أمتعتَها وذهبتْ بعيدًا، تاركةً وراءها قلبًا نازفًا. حاول إقناعَها بالعودة حتى جفَّ دمعُه. وحين خارت قواه، أقسم لها أنْ لا حياةَ بعدها. ظنّت أنّ الوقت كفيل بترميم جراحه، وأنَّه سينساها بتعاقب السنوات التي جعلته ذكرى بعيدةً، كلّما هبَّت رياحُ أيلول أعادته أمامها.
***
في أحد الصباحات الشتويّة رنّ هاتفُها. صديقُهما المشترك في الجانب الآخر من العالم هاتفَها بعد مرور سنوات ليطمئنّ إلى حالها. حديثُه عن مغامرات الصبا وذكريات البلاد ساقهما إلى سؤالٍ لطالما كانت تخشاه.
- أتذكرينَه؟
سكتتْ لوهلة. كان سؤالُه معولًا يحفر عميقًا في رأسها. أجابت مصطنعةً اللامبالاة:
- ايييه... أيّام!
- أتعلمين أنّ زوجتَه تقيم في المقاطعة التي أعيش فيها؟
- حقًّا؟
- بعد استشهاده، تقدَّم كثيرون للزواج منها، ولكنها رفضتْ. ثمّ هاجرتْ مع عائلتها هربًا من الحرب. لم ترضَ أن تعيش في كنف غيره، وقد تحابّا أكثر من ثماني سنوات، وأثمر حبُّهما طفلةً جميلة. لعلّه حدّثكِ عنها؛ فقد كنتِ الصديقةَ الأقربَ إلى قلبه. تبًّا للقذيفة التي حرمتْ هذه الطفلةَ والدَها!
كان يتحدّث وهي مصدومة تمامًا. ماذا يقول هذا الرجل؟ وعن أيّ زوجة مزعومة يتحدّث؟
تقاطعه:
- أحقًا ما تقول؟ ولكنّه أرسل إليّ يُعْلمني برغبته الانضمامَ إلى الثوّار. وقد حاولتُ إقناعَه بالعدول عن قراره رمْيَ نفسه في التهلكة.
- لا يا صديقتي، هو لم ينضمَّ إلى أيٍّ من الطرفيْن المتحاربيْن. كان يهاب الحربَ والسلاح. عندما استُشهد بقذيفة ضلّت طريقَها، لم أكن قد هاجرتُ بعد. وكنتُ أعرف تمامًا رجالَ المنطقة الذين انضمّوا إلى الثورة، ولم يكن منهم.
ابتلعتْ ريقَها بصعوبة، وسألتْ بصوت مرتجف تقاوم غصَّةً وشيكة:
- ماذا عن زوجته؟ لم أكن أعلم أنّ ثمّة امرأةً في حياته.
- كنتُ أظنّ أنّه أخبركِ. تعلمين أنّنا في مجتمع ريفيّ. وهذا ما دفعهما إلى إخفاء الأمر، ولم يعلنا عنه إلّا بعد أن تقدّم لخطبتها.
***
وسط بحثها عنه بين أطياف الموتى، ووسط عثراتها ونهوضها المتكرّر، سألتْ نفسها: ما الذي قاله هذا الصديقُ المشترك؟ أأحبَّ امرأةً غيري ثماني سنوات قبل أن يتزوّجها، وأنا التي أسَرْتُ نفسي بذكراه طويلًا، أطلبُ المغفرةَ كلَّ يومٍ على خذلاني إيّاه؟! لعنتُ الوطنَ والقبيلةَ والطائفة وكلّ الأشياء التي أجبرتني على الرحيل هربًا من عشق مستحيل. لعنت الحرب والموت اللذين اجتثّا أحد أطرافي.
ومرَّت الأيام ولا يزال ذلك الاتصالُ يهوي بها إلى المزيد من الضياع. وكلّما تقصَّدت التواصلَ مع الأقارب والأصدقاء، كانت تختلق حديثًا عنه لتصل إلى حقيقةِ ما قيل. وكان كلامُهم جميعًا يتقاطع مع ما ذكره ذلك الصديق المشترك.
واصلتْ دورتَها بين أطياف الموتى لاهثةً. تلاحقتْ أنفاسُها، وهي تطالع شواهدَ القبور، علّ الموتى كتبوا عليها حكاياتِ رحيلهم. تابعت البحثَ منهارةً، قبل أن تجثو أمام قبرٍ يفوح منه شذًى طيّبٌ لا يزال عالقًا بروحها. لم يكن ثمّة شاهدٌ على القبر. اجتاحتها هستيريا مجبولةٌ بدمعٍ حارق. حاولت الصراخَ، فأبى صوتُها الخروج. ثمّ أخذت الأطيافُ تتلاشى وتعود إلى مستقرّها. هدأ المكان إلّا من حفيف أوراق الشجر. أحسَّت بيد دافئة تربّت كتفَها، ثمّ سمعتْ صوتًا يخاطبها باسمها. استدارت منتفضةً، فزاغ نظرُها من أثر ضوءٍ باهرٍ تكشَّف تدريجيًّا عن صورة الممرّضة اللطيفة وهي تفتح الستائرَ لأشعّة الصباح.
- انهضي يا جميلتي. لديّ خبرٌ مفرحٌ لكِ. لقد استطعتُ أن أهرّب إليكِ كتابًا جديدًا خفيةً عن مدير المصحّ. هذا الرجل الجشع يمدّد إقامتكِ هنا كلما أغدقتْ عائلتُكِ المالَ عليه. أعلم أنك تعقلين كلَّ كلمةٍ أقولها. هذا العالم مخيف جدًّا، وعاجز عن احتضان أوجاعنا. ليتني أستطيع إخراجَكِ من هنا، وإقناعَهم بأنّك معافاة. ولكنْ أنّى لي أنْ أجد إلى ذلك سبيلًا مع أولئك المختلّين؟
بيروت