أنا متزوّجة منذ ما يقارب تسعةَ أشهر. وأنا حزينة أيضًا منذ تسعة أشهر.
لم أتذوّق طعامَ أُمّي طوال هذه المدّة. بل لم أضحك. منشغلةٌ أنا، كلَّ الوقت، بغسل ملابسِه وترتيبها؛ فهو دقيقٌ جدًّا: إنْ وجدَ خيطًا شاردًا من زرّ القميص امتعضَ، وإنْ وجد عروتَه غيرَ مستقيمة الأطراف عقد وجهَه وجعلهُ قطعةً واحدة. والكارثة إنْ نسيتُ تحضيرَ الملابس التي يريد: فهو لا يصرخ في وجهي، ولا يتلفّظ بتعابيرَ نابية ــــ لأنّه أصلًا لا يتكلّم ــــ بل يكتفي بجعلي أرى ظهرَه، وظهرَه فقط؛ أيْ إنّه يدخل المنزل وجنبُه لي لا وجهُه، ويجلس على طاولة الغداء بطريقةٍ عكسيّة، وينامُ أيضًا في سريرِنا محتويًا الجانبَ الآخر، متناسيًا أنّ هناك "شيئًا" ما ينام إلى جانبه.
"منيح لي إجاكي حدا، سكِتي سكِتي ح يصير عمرِكْ تسعة وعشرين!": هذه هي العبارة التي أجزم أنّني سمعتُها من العائلة والأصدقاء والجيران، ومن صاحب الدكّان أيضًا، وربّما قالها بائعُ الخضار أسفلَ المنزل بينه وبين نفسه.
أجل عمري تسعة وعشرون. درستُ الأدبَ الفرنسيّ بحلمِ أنّني، يومًا، سأصبحُ مترجِمة على مستوًى رفيع، وسأذهبُ مع رئيس بلادي في رحلاته التي يحتاجُ فيها إلى هذه اللغة. كنتُ أتخيّل ماذا سأرتدي وكيفَ سأمشي في هذه الزيارات، وأنّني سأُغرَم بشخصٍ من غير جنسيّتي، وسنتزوّج. لكنّني، في الواقع، عملتُ في شركةٍ تعطيني القليلَ القليل، بلا إجازاتٍ ولا حقوق.
ورثتُ عن أمّي الطبخَ اللذيذ، وورثتُ وعن والدي برودةَ الأعصاب والصوتَ المنخفض. كُنت أكره هذا الطبع في شخصيّتي، وأكاد أجزم أنْ ليست ثمّة جملةٌ قلتُها مرّةً واحدة؛ فدائمًا ما كان يقول لي الطرفُ الآخر: "عفوًا لم أسمع،" فأعيد عليه قولي. أيعقل أن تكون هذه هي مشكلتي مع رياض، زوجي؟
لم يكن رياض هكذا؛ ففي فترة تعارفنا الأولى كان مندفعًا، يحبّ النزهاتِ والغناء. إلّا أنّني سمعتُ أنّ "حبيبته" تزوّجتْ، ومن وقتها انقلبَ رأسًا على عقب. راودتني فكرةُ سؤاله عنها، ولماذا لم يتزوّجا إنْ كان يحبُّها إلى ذلك الحدّ، لكنّني كنتُ أخجل، وكان صوتي يختفي حينها. لم أُعِر الأمرَ أهمّيّةً كبيرة، على قاعدة أنّه بعد زواجنا سينساها وسيتغيّر كلُّ شيء.
تزوّجنا. وفعلًا تغيّر كلّ شيء... ولكنْ إلى الأسوأ؛ فقد بات رياض قاسيًا بصمته. لم يكن يُعير اهتمامًا أيَّ شيءٍ أرتديه، أو أيّةَ لفتةٍ رقيقةٍ أقومُ بها. تسعة أشهرٍ على هذه الحال. تسعة أشهرٍ وقلبي ينتفضُ لمعرفة قصّة هذا الرجل: مَن هي هذه الحبيبة التي جعلته يتبدّل؟ ولماذا تزوّجني إنْ كان مايزال يحبّها؟
وكانت تلك الليلة. وقفتُ ساعاتٍ أمام المرآة وأنا أتدرّب على سؤالٍ واحد. كنتُ أسجّلُ محاولاتي الكلاميّة، وأعيدُ سماعَها كي أتأكّد من أنّ صوتي ارتفع، ومن أنّه سيسمعُني من المرّة الأولى.
ها هو البابُ يُفتح. دخل رياض بهدوء. خرجتُ لألقاه: "العشاء جاهز،" قلتُ له.
أومأ برأسه. دخل. بدّل ملابسه. أكل. وجلس أمام التلفاز. إنّه الوقتُ المناسب. جلستُ إلى جانبه، أخذتُ نفسًا عميقًا:
ــــ رياض، ما قصّةُ حبيبتك التي تزوّجتْ غيرَك؟
كاد يُغمى عليّ. رمقني بروحٍ ميّتة، وقال: "عفوًا... لم أسمعكِ."
"أيُعقل أنّ صوتي كان منخفضًا؟ يا إلهي، يجب أن أعيدَها بصوتٍ عالٍ ومسموعٍ وواضح. يجب أن أحاول مرّةً أخرى."
ــــ رياض...
ــــ نعم؟!
ــــ هل أُعدُّ لك الشاي؟
بيروت