كلمة رئيس تحرير الآداب بمناسبة إصدار معهد العالم العربيّ في باريس كتابًا باللغة الفرنسيّة عن د. سهيل إدريس. الكتاب من تأليف الدكتور حسين جواد قبيسي، ويحمل عنوان: سهيل إدريس: إمبراطوريّة ثقافيّة. شارك في الندوة عدّة مثقّفين، من بينهم د. رفيف صيداوي، ود. حاج دحمان، ومؤلّفُ الكتاب.
***
شكرًا لمعهد العالم العربيّ على استضافتي، وشكرًا للصديق العزيز حسين قبيسي على عمله القيّم.
يتميّز سهيل إدريس بأنّه متعدّدُ المواهب والاختصاصات والمهارات، شأن مَنِ اعتدْنا على وصفهم بـ"أساتذة الجيل." فهو روائيّ، وقصّاص، ومسرحيّ، ومترجِم، ومعجميّ، ومناضلٌ سياسيّ وثقافيّ، وناشر، وأحدُ مؤسِّسي اتّحاد الكتاب اللبنانيّين ورئيسُه لثلاث دورات، ونائبُ رئيس اتحاد الكتّاب العرب، ورئيسُ تحرير أعرق مجلّة ثقافيّة وأدبيّة عربيّة طوال أربعين عامًا.
ولا عجب في أن يحمِّل سهيل إدريس نفسَه كلَّ هذه المسؤوليّات الجِسام. فقد كان يَعتبر نفسَه مسؤولًا عن أجيالٍ بأكملها: ولذلك كان يزِنُ مواقفَه، ومفرداتِه، وأعمالَه، بميزانٍ من ذهب. ففي الترجمة نفسِها، مثلًا، كان لا يترجِم إلّا ما يقتنع به كمربٍّ وأستاذِ جيل. ولئن استهواه نصٌّ أجنبيٌّ رأى فيه شيئًا من "الإباحيّة" أو "اللاأخلاقيّة،" فقد كان يترجمُه وينشرُه فورًا ومن دون تردّد، ولكنّه يمتنعُ عن ذكر اسمه (أيْ سهيل إدريس) مكتفيًا بوضع اسم "دار الآداب"! وهذا ما حدث في خصوص رواية نابوكوف، لوليتا. كان ذلك قبل أن نُقْنعَه، نحن عائلته، بوضع اسمه على الكتاب المترجَم؛ ذلك لأنّه لا يمكن أن يكونَ مسؤولًا عن تصرّفات بطلِ روايةٍ روسيّة، ولا عن تصرّفات الروائيّ الروسيّ نفسِه!
وفي مجال قريب أذكّركم بأنّ أبي لم يتوانَ في شهْر ندمه الشديد على ترجمة سارتر حين أعلن الأخيرُ نيّتَه زيارةَ الكيان الصهيونيّ الغاصب. وهذا الموقف أثار حفيظةَ أحدّ أعزّ أصدقائه، فخاطب سهيلًا قائلًا: "ويحكَ يا رجل! أجُننتَ؟ لقد ترجمتَ آلافَ الصفحات لسارتر، وتريد الآن أن ترميَها في البحر هكذا؟" فأجابه سهيل بما معناه أنّ الموقفَ من فلسطين وقضايا أمّتنا هو بوصلتُه في كلِّ ما يعملُه أو يكتبُه أو ينشرُه أو يقولُه أو يترجمُه!
***
لنعد قليلًا إلى مواهب سهيل ومهاراتِه المتعدّدة التي يندر أن نراها إلّا في شخصيّاتٍ استثنائيّةٍ في العالم. فهو روائيٌّ عالج في الجزء الأول من ثلاثيّته الشهيرة قضايا الصراع بين الشرق والغرب انطلاقًا من رؤيةٍ تنحاز الى خاتمةٍ قوميّةٍ، وإنْ كانت مطعَّمةً بنسائمِ تحرُّرٍ ليبراليّةٍ غربيّة. كما عالج في الجزء الثاني صراعَ الشباب العربيّ مع مجتمعه التقليديّ الذي يأسر مشاعرَ الجسد. وتناول في الجزء الثالث قضايا العروبة والانعزال وتصارُعَ المثقّفين اللبنانيّين والعرب في مرحلة حسّاسة في الستينيّات.
وكان لسهيل في المجال الإبداعيّ أيضًا صوْلاتٌ وجولاتٌ في ميدان القصّة والمسرحيّة، بما في ذلك عملٌ رائعٌ بعنوان التلّ والنورس، نشرتْه مجلّةُ الآداب سنة 1976 بعد سقوط تلّ الزعتر في يد القوى اليمينيّة الفاشيّة اللبنانيّة، ولكنّه لم يحظَ بالاهتمام الكافي بسبب ظروف الحرب والدخول العسكريّ السوريّ إلى لبنان آنذاك. هذا من دون أن ننسى مسرحيّتَه، زهرة من دم، من بطولة عبد الله غيث وأمينة رزق وسهير البابلي، وهي مسرحيّةٌ حرص سهيل على أن يعودَ ريعُها إلى العمل الفدائيّ الفلسطينيّ.
وفي مجال الترجمة نقل سهيل عشراتِ الروايات والمسرحيّات من اللغة الفرنسيّة، وترجم مئاتِ المقالات ونشَرَها في مجلة الآداب. وكان أوّلَ من عرّف الوطنَ العربيّ بالفكر الوجوديّ، الذي رأى فيه فكرًا تقدميًّا حرًّا لا يُلْزم الكاتبَ بإملاءات الحزب أو الدولة.
أمّا في المجال المعجمي فقد ألّف أهمَّ قاموس فرنسيّ-عربيّ مع د. جبّور عبد النور، قبل أن يستقلّ به بعد خلافٍ طارئ مع عبد النور ليس هنا مجال ذكره. وكان حافزَه الى ذلك العمل المعجميّ في الأساس شعورٌ عارمٌ بالإحباط بعد هزيمة 67، فانزوى أربعَ سنواتٍ كاملة كي ينجزَه. وقد اعتبرَه عملًا وطنيًّا وقوميًّا ومقاوِمًا، لا عملًا مهنيًّا فحسب، ورآه جزءًا رئيسًا من عمليّة التعريب والتثاقف اللازمة لنموّ أمّتنا.
وفي المجال المعجميّ أيضًا قرّر سهيل تأليفَ معجم عربيّ-فرنسيّ، وعربيّ-عربيّ، مع د. الشيخ صبحي الصالح. ولكنّ الأخير استُشهد في منتصف الثمانينيّات، وتوفّي سهيل قبل إنجازه، وما زلتُ أعملُ عليه منذ عقود.
***
هناك جانبٌ بالغُ الأهمّيّة في حياة سهيل قلّما التُفِت إليه للأسف الشديد، مع أنّه صَرف عليه معظمَ سنوات عمره، وخصوصًا بين أوائل الستينيّات وأواخر التسعينيّات من القرن المنصرم، وهو جانبُ المناضل الميدانيّ. وتجلّى ذلك في معاركه الكثيرة التي خاضها دفاعًا عن حرّيّة التعبير، وإدانةً للاعتقال السياسيّ وكمِّ الأفواه، وشجبًا للتدخّل الاستعماريّ والاستبداد العربيّ، وانتصارًا لحرّيّة الجزائر وفلسطين ومصر والعراق بشكلٍ خاصّ. وإنّي، كابنٍ بيولوجيٍّ وإيديولوجيٍّ له، أشهدُ على الاجتماعات التي كانت تُعقد في منزلنا، وعلى التهديدات والتحذيرات التي كان يتلقّاها كي لا يتّخذَ هذا الموقفَ السياسيَّ أو ذاك. كما تشهد تونسُ والقاهرةُ وبيروتُ على مواقفه الصاخبة، حين كان على رأس اتّحاد الكتّاب اللبنانيّين، الذي أسّسه مع كوكبةٍ من رفاقة المثقّفين أمثال أدونيس وجوزيف مغيزل، في الدفاع عن المثقّفين العرب المعتقلين في البحريْن وتونس ومصر والمغرب والعراق وغيرها. هذه الصفحة النضاليّة المضيئة، كما أسلفتُ، قلّما تُذكر. كم واحدًا منكم يعلم، مثلًا، أنّ سهيل إدريس جمع الأموالَ في لبنان نصرةً لشعب الجزائر في معارك الاستقلال، وأنّ عددًا كبيرًا من الجزائريّين يعتبرونه – إلى اليوم - أحدَ أبطال التحرير الجزائريّ؟ وأنّه سافر خصّيصًا إلى أكثر من قطر عربيّ وتدخّل لدى "زملائه" وزراء الثقافة من أجل إطلاق سراح كاتب معتقَل؟
كانت أمّي عايدة تلوم أبي دومًا بسبب نضاله السياسيّ والثقافيّ اليوميّ. كانت تقول إنّ عليه أن يعودَ إلى الرواية والإبداع، فيجيبُها بأنّ الثقافة واحدةٌ وإنْ تشعّبتْ، ولا يمكن أن تقتصرَ على جانبٍ دون جانب، وأنّه لا يستطيع أن يكتب "أدبًا" و"إبداعًا" ويتناسى أنّه في موقع المسؤوليّة النضاليّة الفعليّة -- رئيسًا لاتّحاد الكتّاب اللبنانيّين، ونائبًا لرئيس اتحاد الكتّاب العرب، ونائبًا للأمين العامّ لاتحاد كتّاب آسيا وأفريقيا، ورئيسًا لتحرير مجلة الآداب -- وأنّ واجبَه الأوّل، من ثمّ، هو الدفاعُ عن المثقّفين والأمّة ضدّ الاستعمار والاستبداد. كان سهيل يدافع عن زملائه وعن أمّته، ولو على حساب داره ومجلّته وعائلته وإبداعه.
***
جانبٌ آخر قلّما يُلتفت إليه كما يجب، وهو رعايتُه للأقلام الشابّة. سهيل كان يسقي البراعمَ بحبٍّ، ويصرف الوقتَ لكي يشهدَها تنمو أمام ناظريْه. ولطالما "غامر" بإصدار كتبٍ لمجرّدِ إيمانه بوعود كتّابها الشباب. يروي إلياس خوري أنّه قدّم إليه مخطوطةَ أوّل عملٍ له وهو في الرابعة والعشرين، ويكمل:
"عدتُ إلى بيتي وانتظرتُ. كنتُ متيقّنًا من أنّه لن يتّصل، ولن يضيِّعَ وقتَه في قراءة كتابي الأوّل. لكنّي فوجئتُ به يُبلغُني بعد أيّام أنّه سينشر روايتي رغم أنّه لا يحبُّها! قال شيئًا عن تجريبيّتها، وأشار إلى رهانه على المستقبل. قال إنّه سينشر الروايةَ لأنّه يعتقد أنّي سأصير كاتبًا."(1)
سهيل نشر روايةَ خوري، إذًا، على أساس ما يعِدُ كاتبُها به. وقد شجّع عشراتِ الكتّاب الشباب الآخرين أمثال شوقي بزيع ومحمد علي شمس الدين ورشاد أبو شاور وأحمد دحبور. ومَن ينسى الجائزةَ الأولى التي نالها الروائيُّ السوريُّ القدير، الراحل هاني الراهب، من مجلة الآداب سنة 1961 عن روايته المهزومون حين لم يكن قد تجاوز الحاديةَ والعشرين من عمره؟ دورُ المثقف العضويّ والمشتبك، في رأي سهيل، يجب أن يشملَ تنميةَ الطاقات الجديدة ونشْرَها أمام الناس والشمس.
***
على أنني أزعم أنّ مجلة الآداب كانت أقربَ نتاجات سهيل إلى قلبه. ففيها، على ما كتبتُ بعد أربعين يومًا من رحيله، يندمج حبُّه للغة العربيّة بالتزامه السياسيّ، ودفاعِه عن حرّيّة التعبير، وعشقِه للترجمة، وآرائه الصارمةِ في الشعر، وشغفِه بتقديم الجديد دومًا، وتشجيع المواهب الشابّة، وهُيامِه بمقارعة الأنظمة. إنّها جُماعُ مواهبه وآرائه وطموحاتِه. وهي، في رأيه المثقفُ الجمعيّ، أو المنبرُ الذي يُصْدره فردٌ ليعبِّرَ فيه عن روح فئةٍ متوثّبةٍ إلى الحريّة والإبداع.
وفي مجلّة الآداب تتجلّى صورُ المثقف الذي كانه سهيل: إنّه مثقّفٌ حيّ، مندمجٌ بمجتمعه، محبَطٌ بهزائمه، منتشٍ بانتصاراته، واعدٌ بتطوّره. هي صوتُ سهيل إدريس حين يعلو، وصوتُه حين يَضعف، وصوتُه حين يتلعثم، وصوتُه حين يشعر أنّ الصمت جريمة.
ومن هنا نفهم لماذا رفض أبي أن يغلق هذه المجلّة رغم خسائرها المادّيّة المتراكمة، ورغم أنّها جَنَتْ على مستقبله روائيًّا ومبدعًا كبيرًا. كان ذلك الإصرار على مواصلة إصدار مجلة الآداب يقترب من حدود "التيسنة"-- وهي مفردةٌ لم يكن يخجل من تردادها بمنتهى الجدّيّة؛ فقد آمن، بعمق، أنّ "التيسنة" ضروريّة لمواجهة زيف الحياة و"واقعيّتها" الاستسلاميّة.(2)
***
هذا كلُّه أقلُّ بكثيرٍ ممّا كانه أبي ومعلّمي وقدوتي سهيل إدريس.
-
https://al-adab.com/sites/default/files/aladab_2008_v56_01-03_0006_0065.pdf, p.8.
-
https://al-adab.com/sites/default/files/aladab_2008_v56_04-06_0038_0089.pdf, p 39.