(بمناسبة اليوم العالميّ للتبرّع بالدم في 14 حزيران/ يونيو)
"عليكَ أن تَحْضر قبل الثامنة مساءً،" قالت له بنبرةٍ ودودةٍ قبل أن تُقفل الخطّ. كانت الساعة تشير إلى السابعة.
عمران أسعد ضاهر. استعاد بمتعةٍ الاسمَ الذي طلبتْ منه أن يحفظَه جيّدًا. أحسَّ بالزهو وهو يفكّر أنّه سيقدّم – بالمجّان - شيئًا ثمينًا لشخصٍ لم تجمعْه به معرفةٌ سابقة، ولن تجمعَه به معرفةٌ لاحقة.
تذكَّر أنّ زجاجةً من العصير الطبيعيّ ضروريّةٌ اليوم. تفقّد محفظتَه: كان فيها ما يزيد قليلًا عن أربعين ألف ليرة لبنانيّة. هذا يكفي للعصير، ولإرواء عطش سيّارته من مشروبها المفضَّل.
طرد المجازاتِ من رأسه سريعًا. لا وقت للشِّعْر الآن. عليه أن يكون مزروعًا أمام بنك الدم قبل الثامنة، ليختبرَ هذه التجربة التي انتظرها بشوقٍ منذ سجّل اسمَه على لائحة المتبرِّعين.
في الطريق إلى وجهته، استوقفتْه جنازةٌ تسدّ الشارعَ أمام المقبرة بالكامل. شتم في سرّه الميّتَ وأهلَه الذين يقطعون الطريقَ لتشييعه. أنّب نفسَه: "لا يجوز أن يتلفّظَ المرءُ بكلماتٍ حقيرةٍ كهذه وهو في طور تأدية مهمَّةٍ عظيمة." ثمَّ عقَّب مبرّرًا: "الحيُّ أبقى من الميت، وحياةُ الرجل الذي أسعى إلى إنقاذه الآن أهمُّ من كرامة الرجل الذي لم يجد أحدًا ينقذُه!"
عند مدخل البلدة طالعتْه صورةُ "جواد" بابتسامته العريضة. كلّما مرَّ بهذه الصورة شعر بأنّ تلك الابتسامة له خصّيصًا. كان جواد يبتسم ابتسامةً مماثلةً كلّما نصحه، هو أسامة، بالاهتمام بدراسته وقد باتا على أبواب التخرّج. "هذه الأشياء ليست لأمثالنا يا جواد،" كان أسامة يردّ، ويتابع: "أنتَ الأوَّل في الدفعة، وأمامكَ مستقبلٌ باهرٌ في الهندسة. دع البندقيَّةَ لغيرك." لم يكن جواد يقول شيئًا، غير أنَّ ابتسامتَه كانت تتّسع.
وها أنتَ قد رحلتَ يا جواد قبل شهرٍ واحدٍ من التخرّج، فماذا جنيتَ؟ جنيتَ على قلب أمِّكَ الطيّب، وعليَّ أنا صديقك الأقرب، وأورثْتَنا حزنًا لا ينقضي على فراقك!
في حواراتٍ خاصَّةٍ كهذه، كان يأخذ راحتَه تمامًا مع جواد. يعاتبه كما لا يفعل حين يخاطبُه من على المنبر على مسمعٍ من "الحشد الكريم." هناك، يمتدح شجاعتَه، ويحترم تضحيتَه، ويُثْني على قراره. أهذا نفاقٌ، سأل نفسَه؟ هو، على أيّ حال، ليس متخاذلًا، بل يؤمن بالنضال المشروع لتحرير الأرض. كلُّ ما في الأمر أنَّه يحاول عقلنةَ إيمانه هذا ليتّسقَ مع تحصيله العلميّ الرفيع.
أمام مدخل بنك الدم يفاجئه الأستاذ سعيد واقفًا بسكسوكته التي تميّزه من الآخرين، واضعًا يديه في جيبيْه، ملقيَا الأوامرَ على مَن حوله. ماذا يفعل مديرُ فرع المصرف الهولنديّ-اللبنانيّ في بنك الدم؟! قبل أن يسأله، يتبرّع سعيد - وقد بات بمحاذاته – بإخباره أنَّه يدير بنكَ الدم تطوّعًا، وأنَّه يوفّق بين وظيفتيْه في كلا المصرفيْن مقسَّمًا وقتَه عليهما. يُثْني سعيد على إطلالة أسامة الأخيرة في التلفزيون، قائلًا إنَّه لم يسمع بكونه شاعرًا من قبل، وإنْ كان يعرفه أستاذًا جامعيًّا يَحْضر شهريًّا لاستلام راتبه الذي تودعه الوزارةُ في مصرفه.
- لقد فاجأتَني يا أسامة. لِمَ لَم تخبرني أنَّك شاعر من قبل؟
- وأنا أيضًا ظننتكَ مجرّدَ مدير لفرع المصرف الهولنديّ-اللبنانيّ، ولم أتوقّع أنَّك مديرٌ لبنك الدم أيضًا.
قال عبارته بلهجةٍ حمَّلها أكبرَ قدرٍ من السخرية، مدفوعًا بنظرةٍ سلبيَّةٍ إلى الرجل الذي حرمه مدَّخراتِه التي كان قد أودعها في المصرف من قبل ثم منعه من سحبها قبل الانهيار الكبير الذي أطاح بكلّ شيء.
- أنا مرؤوس في الحالتيْن، عبدٌ مأمورٌ كما يقولون. الفارق أنَّني أحظى هنا باحترام الناس وتقديرهم، وهناك أحمل وِزر سياساتٍ خاطئةٍ يرسمها غيري. ولكن ماذا أفعل؟ لا بدّ من أن أطعمَ أولادي.
قاطعهما شابٌّ يسأل بلهفةٍ عن وحدة دمٍ من فئةٍ نادرة. استمهله سعيد بلطف ودخل إلى المبنى للتأكّد من توفّرها. وبانتظار عودته كان أسامة قد استنطق الشابَّ بفضوله، فحكى له كلَّ شيء: عن عائلته الثريَّة، وعن شقيقه الذي حاز شهادةً عليا في هندسة الاتصالات من إحدى جامعات أوروبا، قبل أن يتعرَّضَ أثناء مواجهته عدوانَ تمّوز 2006 لإصابةٍ بالغةٍ أقعدتْه عن الحركة وتسبَّبتْ له بانتكاساتٍ صحّيَّة متكرّرة وخطيرة. يقول الأخ ذلك، وتُفلت من عينيه دمعتان، مؤكّدًا أنه لن يكون إلّا صابرًا محتسبًا كما يوصيه دائمًا شقيقُه.
في هذه اللحظة وصل الدورُ إلى أسامة، فتولَّت شابّةٌ رقيقةٌ تعبئةَ استمارة تتضمَّن معلوماتٍ تفصيليَّةً عنه. وبعد أسئلة وأجوبة، قادتْه إلى غرفة التبرّع.
راح أسامة ينظر إلى الكيس البلاستيكيّ، الذي لا يتّسع لأكثر من نصف ليتر، وهو يمتلئ تدريجيًّا بدمه. عاوده الشعورُ بالفخر، لكنْ بصورةٍ أشدّ. هو لا يعرف شيئًا عن الحالة الصحّيَّة لمن سيتلقّى دمَه، ولكنْ طابَ له أن يتخيَّله واقفًا على الخطّ الفاصل بين الحياة والموت؛ فبهذا تصير لعطائه قيمةٌ أكبر.
بضع قطرات من الدم منحتْه شعورًا لم يحلمْ بمثله من قبل.
أحسَّ في هذه اللحظة أنَّه أقدَرُ على تفهّم دوافع جواد، وأقدَرُ على فهم ابتسامته.
***
في طريق العودة، كانت ابتسامةُ صاحب الصورة الجميلة لا تزال على حالها. الفارق أنّ أسامة بادله ابتسامةً متواطئةً هذه المرَّة، فالتقت عيونٌ أربعة وابتسامتان: ابتسامةٌ دائمة ترتسم على وجه مَن قدّم كلَّ دمَه ليحيا الجميع، وابتسامةٌ قصيرةٌ لمن أحيا نفسًا واحدةً بنصفِ ليترٍ من دمه.
جنوب لبنان