"يا مُدمنَ السَّرَحانِ في المقهى،
متى ستدركُ أنَّه مقهى؟"
لا يتذكَّر أين سمع أو قرأ هذه الكلمات، ولكنَّه لا يجد أصدقَ منها تعبيرًا عن حالته.
وحيدٌ هو في مقهًى لم يعتدْ أن يكون فيه وحيدًا.
في هذا المقهى، الذي يحمل اسمَ نوستالجيا، واعَدَ جيهان للمرَّة الأولى. بل كانت هي التي واعدتْه فيه؛ فقد كان مكانَها المفضّل، قبل أن ينضمَّ إلى قائمة المشترَكات الكثيرة المصطنعةِ بينهما.
وأمام هذا المقهى، وتحت مطرةٍ خفيفةٍ، بعد جلسة مصالحةٍ لا يذكر رقمَها، رفعتْ رأسَها إلى السماء، وبسطتْ يديْها بحركةٍ استعراضيَّةٍ كما لو كانت تؤدّي دورًا في مسرحيَّة حلم ليلة صيف، وخاطبتْ ربَّها:
"ها قد تعهّدتُ ألّا أكدِّرَه ثانيةً، فخذْني إليكَ قبل أن أفعل!"
لكنّ ربّها لم يأخذْها إليه، ولم تفِ بعهدها.
في آخر جلسةٍ لهما هنا، استغربَ إصرارَها على تغيير طاولتهما المفضَّلة، القابعةِ في ركنٍ قصيٍّ متمرّدٍ هندسيًّا على تناسق المكان، كما لو أنَّه بُنيَ في وقتٍ لاحقٍ بعيدًا من أعين الرقباء في "التنظيم المُدُنيّ" وصُمِّم خصّيصًا لعاشقَيْن. قالت له لاحقًا إنَّها فعلتْ ذلك كي تساعدَه على النسيان؛ فقد قرَّرت بدءَ حياةٍ جديدةٍ بعيدًا منه. لذا اختارت أبعدَ نقطةٍ عن ركنهما الأثير، عند المدخل، حيث الجلبةُ المتواصلةُ تفرض جوًّا أكثرَ تناسبًا مع واقعهما الجديد.
قبل أن تُلقي بقنبلتها إليه ويسودَ الصمتُ بينهما، كان قد حدَّثها عن زميلةٍ جديدةٍ له في العمل، تحمل اسمَها نفسَه، جيهان، لجأتْ إليه لمساعدتها في حلّ مشكلةٍ تخصّ علاقتَها بحبيبها الذي هجرها ولوّعها. وبعد انفجار القنبلة، نصحتْه بأن يحاولَ الوقوعَ في حبّ جيهان الأخرى، لعلّه يتعافى بهذا الحبّ وينسى. كانت في الحقيقة تسعى إلى التخلّص من براثن الإحساس بالذنْب، ومن أيّ إحراجٍ قد يضعُها فيه يومًا مع ناصر، عريسِها الذي نبت بينهما فجأةً.
متحدّيًا جيهان الأولى، التي لم يكْفِها انسحابُها فزادت جراحَه بمحاولتها رسمَ مسار حياته بعدها، اصطنع حدودًا كثيرةً لجيهان الثانية. ولم يخفَ عليه وقوعُ هذه في حبّه، ومحاولاتُها استدراجَه إليه... بلا جدوى.
لكنّه حين رأى جيهان الأولى مع زوجها، وكانت ببطنٍ متكوّرٍ وعلى وجهها ابتسامةُ سعادةٍ خالصة، فتح أبوابَ قلبه لجيهان الثانية، مذعنًا للقدَر الذي اختار أن يكون في هذا الاسم داءَه... والدواءَ.
وبدافعٍ من رغبةٍ خفيَّةٍ في الانتقام، لم يجد مكانًا يلتقي فيه جيهان الثانية سوى المقهى الذي كان قد أقسم ألا يطأه إلّا مع جيهان الأولى. في أوَّل لقاءٍ بجيهان الثانية، اختار طاولةَ جيهان الأولى ذاتَها. ولكنْ، بعد أن عبَّرت الثانيةُ صراحةً عن حبّها له وبدأ يلتمس في قلبه صدى هذا الحبّ، اختار الابتعادَ عن ركن الذكريات وصار يختار في كلّ مرّةٍ يلتقيها طاولةً مختلفة.
غير أنّ حيلتَه التافهة هذه لم تُجدِ نفعًا في مواجهة صدمته الجديدة؛ فقد "ضيّعه الحبُّ" مجدَّدًا كما تقول الأغنيةُ التي تنساب في أجواء المقهى في هذه اللحظة. ذلك أنّ جيهانَ الثانية تعافت تمامًا، وكأنّما عادت إلى قلبها نضارتُه بعد أن ارتوى من دمِ قلبه، واستعادت ثقتَها بنفسها كامرأةٍ جميلةِ الروح مليحةِ الوجه خفيفةِ الظلّ يمكنها أن تأسرَ قلوبَ الآخرين بسهولة، فقرَّرت الاستغناءَ عن "عكّازها" الذي أدَّى وظيفتَه بنجاحٍ وقتَ الحاجة إليه.
هو الآن وحيدٌ في المقهى، مدمِنٌ للسرَحان ولمعاقرة أفكارِه السوداء. جهازُ التدفئة عاجزٌ عن مجابهة برد كانون الذي تسلّل إلى أوصاله. يتخيَّل أنَّ لكلّ جيهان منهما أسبابًا متعدّدةً للدفء: حضْنَ رجلٍ آخرَ للأولى، وزهرةً زرعها بنفسه في قلب الثانية.
لا يستيقظ من سرحانه إلّا على ارتطام كوب الكابوتشينو الذي كان يحمله أحدُ النُّدّل وتناثُرِ شظاياه في أرجاء المقهى. يحدس أنّ هذا النادلَ "مدمنُ سَرَحانٍ" مثلَه، وأنّ له قلبًا محطّمًا مثلَ قلبه ومثلَ هذا الكوب الزجاجيّ المشظّى.
لا يذكر عددَ المرّات التي حاول فيها أن يهجرَ المقهى إلى الأبد لعلّه يتحرَّر من ربقة الذكرى. لكنّه كان يفشل في كلّ مرَّة، ويعود ليجلسَ وحيدًا، يدُه على خدّه، وأمامه فنجانُ قهوته، وكتابٌ لا يفتحُه أبدًا، لانشغاله عنه بـ"كتاب حياته الذي ليس كمثله كتاب": كتابِ ذكرياته مع جيهان وجيهان.
محكومٌ هو بالنهايات المفروضة: يفشل دائمًا في استقراء مصيره ووضعِ نقطة الختام في مكانها المناسب، فيضعها الآخرون نيابةً عنه. وهذا ما فعله صاحبُ المقهى أخيرًا حين أعلن عن إقفال مقهاه تمهيدًا للسفر إلى خارج البلاد هربًا من جحيم الانهيار الاقتصاديّ، فجاء مدمنُ السَّرَحان ليودّع موطنَ ذكرياته الحزينة في يومه الأخير، مضيفًا إلى هذه الذكريات واحدةً جديدةً اسمُها "مقهى نوستالجيا."
صور