ملخّص حوار أجراه بشار اللقيس
لا يمكن عزلُ ماهر اليماني عن ظروف تكوينه ونشأته. وُلد ماهر في عائلة مناضلة، كان منها أحمد اليماني: القائدُ المناضل الذي أسهم في تأسيس لجان الدفاع الشعبيّ في الأحياء الفلسطينيّة عام 1948، والقائدُ الذي نقل تجربةَ الدفاع الشعبيّ هذه - بعد النكبة - ليجعل منها أسلوبَ عملٍ وهويّةً للشعب الفلسطينيّ المهجَّر.
كان أحمد اليماني شخصيّةً استثنائيّة، بقدر ما كان أخوه ماهر كذلك أيضًا. فأحمد، الذي لعب دورًا في تجييش الطلبة وتعبئتهم، كان أحد المؤسّسين الأوائل للعمل الوطنيّ الفلسطينيّ. عمل الرجل فور خروجه من فلسطين مديرًا لمدرسة، لكنّه سرعان ما حوّلَ المدرسةَ إلى مؤسّسةٍ تبثُّ وعيًا جديدًا بين الطلبة والأساتذة: وعيًا فلسطينيًّا عربيًّا مقاومًا. وكان أخوه، ماهر، أحدَ نتاجات هذا الوعي.
نشأ ماهر في بيئة قوميّة عربيّة. ومن داخل "حركة القوميّين العرب" راح ماهر، الطفل ثمّ الفتى، يشقّ سبيلَه ويصوغ أفكارَه. فالحركة كانت تؤدّي، آنذاك، دورًا رياديًّا في بناء الساحة الفلسطينيّة على مختلف المستويات، ولاسيّما على مستوى بناء الوعي ليكون مرجعيّةً للنضال؛ فلا نضال بلا وعي سياسيّ، ولا مناضل بلا مخزون ثقافيّ. إنّ المناضل الصعب العنيد لا يأتي إلّا من تثقيف سياسّي مكثّف. وهذا ما كان عليه ماهر اليماني.
***
لعب أحمد اليماني دورًا في تجييش الطلبة وتعبئتهم وكان أحد مؤسّسي العمل الوطنيّ الفلسطينيّ
أسهمتْ حركة القوميين العرب في الحؤول دون وقوع الفلسطينيين في حالة ضياعٍ وتشتّتٍ واستلاب. في المرحلة الأولى من تأسيسها (مطلع الخمسينيّات)، اعتبرتْ أنّ ثمّة أولويّات ثلاثًا على مستوى الحالة الفلسطينيّة: 1) مواجهة المشاريع الأمريكيّة والبريطانيّة التي سعت إلى توطين الفلسطينيين في الدول التي أقاموا فيها فور خروجهم من فلسطين. 2) مواجهة عمليات التهجير الإسرائيلية في الداخل الفلسطينيّ وخارجه؛ وهي عمليات كانت قد بدأتها العصاباتُ الإسرائيليّة قبل العام 1948، وتابعتها المؤسّسةُ العسكريّةُ والسياسيّةُ الإسرائيليّةُ الرسميّة بُعيْد ذلك العام. 3) مواجهة خطط تجنيس الفلسطينيين في أوروبا وغيرها من الدول.
ثمّ كانت المرحلة الثانية، وفيها أخذت الحركةُ خيارَ تأسيس فرع خاصّ بالفلسطينيّين. وفي العام 1964 عقدتْ مؤتمرَها، الذي أنتج ذلك الفرعَ، واتّخذ العملَ المسلّح عنوانًا للمرحلة. وبعد مشاورات مع القيادة المصريّة، والقيادات العربيّة الأخرى، حدّدت الحركة معسكريْن للتدريب: أنشاص في مصر، وحرستا في الشام. وتمحوَر العملُ العسكريّ حول تشكيل خلايا عسكريّة في الداخل الفلسطينيّ وفي المخيّمات، وإيجاد قنوات آمنة لإمداد السلاح.
ظلّ الوضع على ما هو عليه حتى نكسة العام 1967، حين تقاطرت الجماعاتُ الفلسطينيّة المختلفة إلى دمشق لإطلاق جبهة عمل كفاحيّ موحّد. وقد بدت الساحة الفلسطينيّة العسكريّة مقسّمة وفق أربعة اتجاهات رئيسة: 1) شباب الثأر، وكانوا من القوميّين العرب. 2) أبطال العودة: الفرع الفدائيّ لجيش التحرير الفلسطينيّ. 3) حركة فتح. 4) مجموعة أحمد جبريل، والضبّاط الأحرار في الجيش الأردنيّ.
حدّد المجتمعون أواخرَ العام 1967 موعدًا لانطلاق عملهم الموحّد، وهو ما أرادوه من خلال جبهة شعبيّة موحّدة. إلّا أنّ حركة فتح عاجلتهم بإعلانها بدء العمل بشكل مستقلّ.
ولأنّ وديع حدّاد كان المسؤولَ عن الفرع الفلسطينيّ في حركة القوميّين العرب قبل عام 1967، فقد بدا طبيعيًّا تسلّمُه، منذ اللحظة الأولى للعمل الفدائيّ، قسمَ "العمليّات الخارجيّة." ومن هنا يمكن أنْ نفهم المرجعيّة النظريّة والثقافيّة التي انطلق منها الرفيق وديع، وعنوانُها في تلك المرحلة: "وراء العدوّ في كلّ مكان." فالعدوّ بالنسبة إلى حركة القوميّين العرب لم يكن متجسّمًا في "اسرائيل" فقط؛ أو لِنقل الأمر بلغةٍ أخرى: الصهيونيّة لم تكن متجسّدةً في "اسرائيل" فقط، بل هي جزءٌ من النظام الرأسماليّ الدوليّ المتوحّش، وهي نتيجةٌ لجملة معقّدة من التحالفات والمصالح ما بين الرأسماليّة العالميّة والأنظمة الرجعيّة.
لقد كانت تلك المرحلة مرحلةَ تحدّيات، وإثباتٍ للقريب والبعيد أنّ ما يمكن أن يتحقّق سياسيًّا لن يأتي إلّا من فوّهة البندقيّة. لقد حوّلنا القضيّةَ الفلسطينيّة من قضيّة لاجئين لدى الأونوروا، في الأمم المتّحدة، إلى قضيّة تحريرٍ وطنيٍّ على المستوى الدوليّ. وهذا ما لم يكن ليتحقّق بغير طريق السلاح والمقاومة: بفعل عَرَقٍ وسَهرٍ وتعبٍ، بذلها ماهر اليماني ورفاقه من الشباب الذين ظلّوا متكتّمين عن مآثرهم إلى أواخر سنيّ حياتهم!
***
بقي ماهر يؤمن، حتى آخر يوم من عمره، أنّ فلسطين عائدةٌ لا محالة
كنتُ ألتقي ماهرًا في آخر أيّامه. وكانت للرجل جملةُ هواجس، كثيرًا ما ناقشني بها. ولعلّ أبرزَ تلك الهواجس انشغالُه بكيفيّة التغيير داخل الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين من خلال إدخال عنصر الشباب إلى مكتبها السياسيّ والتنظيميّ. لقد كان مؤمنًا بالشباب وبدورهم ومسؤوليّاتهم.
كما كان مشغولًا بمسألةٍ أخرى غايةٍ في الأهميّة: كيف يمْكننا، كفلسطينيّين، استعادةُ دورنا المقاوم والفعّال في الجبهة العسكريّة على حدود فلسطين الشماليّة، وفي جنوبيّ لبنان على وجه التحديد!؟ بالنسبة إلى ماهر، كانت جبهةُ الجنوب جبهةً مفتوحةً على الدوام، وهو ما كان يَفرض عليه سؤالًا دائمًا عن إمكانيّة لعب دورٍ ما في أيّ حرب إسرائيليّة مقبلة على لبنان.
***
في الجبهة الشعبيّة كان ماهر عنصرًا مُلتزمًا. وما بعد مرحلة عمله العسكريّ ظلّ عنصرًا ملتزمًا. لقد كان متيقّنًا بالنصر، ومتبصّرًا لضرورة غرس كلّ عوامله، التي لم يرَها يومًا إلّا في الشباب. ولقد بقي ماهر شابًّا حتى اللحظة الأخيرة من عمره: في عمله، وعنفوانه، وإقدامه، ومسيرته. وبقي يؤمن، حتى آخر يوم من عمره، بما كان يؤمن به في أول أيّام شبابه: أنّ فلسطين عائدةٌ لا محالة. "إنّها مسألة وقت،" هكذا كان يقول.
بيروت