كان الثائر الأمريكي ملكولم إكس قد ميّز بين نوعيْن من العبيد: عبد المنزل وعبد الحقل. السيّد الأبيض ينتقي فئةً مطيعةً من العبيد، هم "عبيدُ المنزل،" من أجل خدمته ومساعدته في إدارة ممتلكاته والقيام بمهامّه القذرة، بما في ذلك إدارةُ شؤون فئةٍ أخرى من العبيد، هم "عبيدُ الحقل،" الذين يُفرض عليهم العملُ والاستغلالُ المُذلّ. عبدُ المنزل يَنعم بفتات مائدة طعام السيّد، وهو ما يُشْعره بالسعادة والسطوة عند مقارنة وضعه بوضع عبد الحقل، الذي يكافح من أجل البقاء على قيد الحياة. لكنّ القرار الأخير في التحكّم في حياة العبديْن معًا إنّما هو في يد السيّد الأبيض. العبدان يعيشان في عالميْن مختلفيْن: فعبدُ المنزل يَعتبر نفسَه من "النخبة المختارة،" في مرتبةٍ أعلى بكثير من عبد الحقل، وهو يتحرّك من مكانٍ إلى آخر، وإنْ بإذنٍ من السيّد ومن "تحت بسطاره"؛ أمّا عبدُ الحقل فـلا يتمتّع بأيّ امتيازات سوى... حياته!
في الحالة الفلسطينيّة، ينسّق عبدُ المنزل الفلسطينيّ مع السيّد الأشكنازي الأبيض، فيراقب العبيدَ الآخرين، ويؤدّي كلَّ ما يُطلب إليه. ولإرضاء السيّد/الخواجة، فإنّه لا يتردّد في القيام بأيّ عملٍ يضمن استمرارَه في موقعه المتميّز وتأكيدِ ولائه المطلق للرجل الأبيض في تل أبيب. وهو يبذل جهدًا لإثبات أنّ مصالحَهما مشتركة وأنّه على استعداد للتضحية بنفسه دفاعًا عنه وعن رؤيتهما "للتعايش المشترك،" وإنْ تطلّب ذلك تخلّيَه عن موطنه الأصليّ و زيارته إليه "كسائحٍ فقط." بل يتشبّه عبدُ المنزل بسيّده في كلّ شيء، ويحاكي أسلوبَه في الحياة، وقمعَه للعبيد اللآخرين، ويهرع إلى الإبلاغ عنهم إنْ فكّروا بالتمرّد. وهو على استعداد لقتل "طوال اللسان" منهم، بعد تكسير عظامهم وتهشيم رؤوسهم. وكلُّ ذلك من خلال التنسيق المسبَّق مع السيّد وتلقّي أوامره.
كانت تلك مقدّمةً تمهيديّةً ضروريّةً قبل الدخول في موضوع هذه المقالة الغاضبة التي تسعى إلى محاولة فهم العلاقة بين السلطة الفلسطينيّة وحركة فتح من دون أيّ رتوشٍ تجميليّة.
إنّ التخلّص من السلطة "الوطنيّة" الفلسطينيّة هو، في حدّ ذاته، مهمّةٌ وطنيّةٌ لا توجد قوّةٌ فصائليّةٌ فلسطينيّةٌ قادرةٌ على تحقيقها، أو تعمل على تحقيقها. فالأمر يتطلّب، أوّلًا، التخلّصَ من إرث أوسلو برمتّه. ويتطلّب، ثانيًا، مواجهةَ قيادة حركة فتح المهيمنةِ على كلّ مفاصل العمل والتمثيل الفلسطينيّ -- بدءًا بمنظّمة التحرير بمؤسّساتها التشريعيّة، فالتنفيذيّة، والأهم، الماليّة، التي تشكّل الحبلَ السُّرّيّ بين الحركة والسلطة. إنّ العلاقة القهريّة بين سلطةٍ جرى تشكيلُها بناءً على اتفاقيّات أوسلو من أجل حماية الاحتلال ومستوطنيه، ومن أجل تفريغ القضيّة الفلسطينيّة من مضمونها التحرّريّ، من جهة، والشعبِ الفلسطينيّ الذي يقطن في المناطق المحتلّة بعد حرب حزيران 1967، من جهةٍ ثانية، قد وصلتْ إلى نهايتها الحتميّة: المواجهة!
النقاش الدائر، البيزنطيّ في جوهره، عن العلاقة بين السلطة الفلسطينيّة وحركة فتح بتركيبتها الحاليّة، ليس بجديد. فقد كان المفكّر الفلسطينيّ إدوارد سعيد، ضمن العديد من المفكّرين النقديّين الآخرين، قد تطرّق إلى هذه العلاقة فور توقيع اتفاقيّات أوسلو. فنشر عددًا من المقالات النقديّة الحادّة، وبعضَ الكتب التي قامت سلطةُ فتح بمنعها من التداول في العام 1996 في مكتبات قطاع غزّة وفي الجزء الذي تديره إداريًّا في الضفّة الغربيّة المحتلّة.
تقوم القاعدة "الفكريّة" للحركة على أسسٍ طبقيّةٍ ديماغوجيّةٍ تدّعي تخطّي الفوارق الطبقيّة والبرامج الإيديولوجيّة، وتدّعي بالتالي تمثيلَ "الكلّ" الفلسطينيّ بناءً على برنامج التحرير والعودة، مرورًا بالدولة الديمقراطيّة العلمانيّة على أرض فلسطين التاريخيّة، ومن ثم البرنامج المرحليّ وإقامة سلطة وطنيّة على أيّ جزءٍ يجري تحريرُه، وبعده "حلّ" الدولتين والقبول بدويْلةٍ على 22% من أرض فلسطين التاريخيّة، وصولًا إلى "غزّة-أريحا أولًا" وتمركز السلطة الفتحاويّة في مدينة رام الله، تحت حماية جيشٍ من رجال الأمن الفتحاويّين الذين يربطهم بالحركة الصرّافُ الآليُّ في نهاية كلّ شهر. عملت الحركة على ابتزاز الموالين لها، وأولئك التابعين لتنظيمات منظّمة التحرير، من خلال إشهار سيف "قَطْع الرواتب" التي تمرّرها السلطةُ من الاتحاد الأوروبيّ والحكومة الإسرائيليّة (على هيئة أموال المقاصة) إلى البنوك الفلسطينيّة. وما نموذجُ العقوبات المفروضة على قطاع غزّة المتمرّد، ومن ثمّ المشاركة المباشرة في ارتكاب جريمة العقاب الجماعيّ الذي يُعتبر تبعًا للقانون الدوليّ "جريمةً ضدّ الإنسانيّة،" إلّا دليلٌ على مدى التدهور الوطنيّ الذي وصلتْ إليه السلطةُ الفتحاويّة، وخروجِها عن منظومة القيم الأخلاقيّة-الوطنيّة الجامعة، بشكلٍ يضع قيادتَها المتنفّذة تحت طائلة تهمة ارتكاب جريمة التعامل مع دولة الاحتلال، تحت مسمّى "التنسيق الأمنيّ (المقدّس)،" كما جاء على لسان رأس الهرم السلطويّ-الفتحاويّ.
قامت الحركة، حتى قبل تأسيس السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة، باعتبار الأنظمة العربيّة الدمويّة أنموذجًا يتوجّب اتّباعُه في حال إقامة دولةٍ فلسطينيّةٍ مستقلّة: أجهزة أمنيّة تابعة، إعلامٌ مُوالٍ، جهازٌ قضائيّ فتحاويّ بامتياز، تحالفٌ طبقيّ طفيليّ-كومبرادوريّ، رموزُ استقلال وطنيّ شكليّة (من علمٍ يرفرف فوق ساريةٍ عالية، إلى نشيدٍ وطني عاطفيّ، فألقابٍ عسكريّةٍ وسياديّةٍ كاريكاتوريّة، فأجهزةٍ أمنيّةٍ ذاتِ عقيدةٍ طوّرها جنرالٌ أمريكيّ - وبالضرورة إسرائيليّ)؛ عقيدةٍ أعادت تعريفَ "العدوّ" بعيدًا عن منظومة الاحتلال والاستعمار، بحيث أصبح كلُّ من يعارض الاحتلالَ والسلطةَ خطرًا أمنيًّا يستوجب اعتقالَه أو تصفيتَه بحجّة "حماية المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ." وما هو هذا المشروع؟ إنّه مشروعٌ لا يشمل 78% من أرض فلسطين التاريخيّة، ولا نصفَ أبناء الشعب الفلسطيني ممّن يعيشون في مخيّمات اللجوء والمنافي، ولا يشمل قطاعَ غزّة "الحمساوي" الذي يتوجّب إسقاطُه بالكامل من الخارطة الوطنيّة بعد أن تمرّدَ غيرَ مرّة: بدايةً بالتصويت ضدّ حركة فتح في انتخابات 1996، ثم بصموده في مواجهة آلة الحرب الإسرائيليّة عدّة مرات و"إفسادِه" حفلَ نقل السفارة الأمريكيّة إلى القدس من خلال مسيرات العودة الكبرى و"سرقته" للمقاومة الشعبيّة الفعّالة من دون أخذ موافقة الاحتلال، وأخيرًا بنُصرته للشيخ جرّاح ورفعه سيفَ القدس بدلًا من الاستسلام لإيديولوجيا "الواقعيّة" الفتحاويّة التي عملتْ على إدارة الصراع "بذكاء" غير مسبوقٍ في حركات التحرر الوطنيّة، وتحشيده للتأييد الجماهيريّ الكاسح في كلّ فلسطين التاريخيّة بعد سنواتٍ من بذل السلطة الفتحاويّة المجهودَ والأموالَ لعزل سكّانه وسكّان الضفّة المحتلّة عن باقي أبناء الشعب الفلسطينيّ.
يأتي اغتيالُ الناشط نزار بنات في هذا السياق ليشكّلَ نقطةَ تحوّلٍ دراماتيكيّةً هي نتاجُ كلّ تلك التراكمات منذ ما قبل تشكيل السلطة الفتحاويّة عام 1994. وقد بدأتْ هذه التراكماتُ بإثبات السلطة المذكورة جدارتَها بثقة "الصديق" الأمريكيّ و"الجار" الإسرائيليّ من خلال ارتكاب مجزرة مسجد فلسطين وقتل 17 متظاهرًا، وصولًا إلى اغتيال بنات وسحلِ المتظاهرين ضدّ قمعِها وحكمِها في الشوارع، والتعدّي على الحرّيّات الفرديّة، والتحرّش اللفظيّ والجسديّ بمعارِضاتٍ وصحافيّات، وتبرير التعامل مع الاحتلال وجرائمِ الاغتيال على أنّها ضروريّة لـ"حماية المشروع الوطنيّ" (الفتحاوي) أو على أنّها - في أحسن الأحوال – "أخطاء فرديّة" تستدعي تشكيلَ لجانٍ... لا نهايةَ لعملها.
كلُّ استطلاعات الرأي التي أجريتْ في الفترة الأخيرة تشير إلى فقدان الحركة شعبيّتَها بشكلٍ كبيرٍ لصالح المقاومة ومناهضة منظومة الاحتلال والاستعمار. وكما قامت قيادةُ الحركة بمعاقبة قطاع غزّة على نتائج انتخابات المجلس التشريعيّ عام 2006 ومحاولة الانقلاب الدمويّ على النتائج، فإنّها تقوم الآن بانقلابٍ استباقيّ، وذلك من خلال قرارات رئاسيّة بتغيير الجهاز القضائيّ، وتعديلِ القوانين الانتخابيّة، وتقييدِ الحرّيّات، وصولًا إلى الإلغاء الكامل للانتخابات بعد تأكّدها من الخسارة المدوّية، لا سيّما بعد الانشقاقات الداخليّة.
وها هي الآن في موقفٍ مشابهٍ لما مرّت به كلُّ الأجسام "الوطنيّة" التي شكّلها الاستعمارُ في الدول التي احتلّها: من الجزائر، إلى فيتنام، وجنوب افريقيا، وحكومة فيشي الفرنسيّة، وصولًا إلى "جيش لبنان الجنوبي" الذي كان عبارةً عن مليشيات مسلّحة تعمل لصالح "إسرائيل" حتى العام 2000، عامِ هروب مجنّديه إلى إسرائيل، بعد تحرير الجنوب اللبنانيّ.
يزخر التاريخُ بقياداتٍ وطنيّةٍ مناهضةٍ للاستعمار انتهت، بعد الاستقلال، إلى خيانة الدور الذي أُسّستْ من أجله. ولكنّ حالة القيادة الفتحاويّة المتنفّذة تتميّز بقلب المعادلة وخيانة القضيّة الفلسطينيّة (من حيث كونها قضيةَ تحرّر من استعمار استيطانيّ) قبل تحقيق أيّ شعارٍ من الشعارات التي انطلقتْ من أجلها الثوراتُ والانتفاضاتُ الفلسطينيّةُ المتتالية. لكنّ المختلف الآن هو أنّ الشعب الفلسطينيّ، ليس فقط في الضفّة المحتلّة وغزّة، بل أيضًا في الداخل المحتلّ عام 48 والشتات، قرّر مواجهةَ المنظومة برمتّها ولفْظَ أعوانها -- من "القائمة العربيّة الموحَّدة" إلى حركة فتح، بقيادة العبّاسيْن، منصور ومحمود.