هناك جمال لا نراه
28-07-2021

 

قالت الأمُّ لابنتها: لن تخرجي اليومَ إلى اللعب. ألم تسمعي ما قالته مُدرِّستُكِ في اجتماع الأهل؟

ردّت ابنتُها: أرجوكِ أمّي دعيني أخرج! فأنا أشعر بسعادةٍ غامرةٍ وأنا أجري فوق العشب، وأسعدُ لرؤية دعسوقةٍ صغيرة. منذ أيّام، رأيتُ، للمرّة الأولى في حياتي، دعسوقةً صفراءَ منقّطةً بالأسود. كنتُ أظنّ أنّها لا تكون إلّا حمراء، لكنّني اكتشفتُ أنّها قد تكون برتقاليّةً أو بنيّة، وبعضُها بخطوطٍ، وبعضُها بتعرّجات. لكنْ، ماما، كيف أميِّز إنْ كانت ذكرًا أمْ أنثى؟

- ...

- مرّةً، شاهدتُ دعسوقةً في لعبةٍ إلكترونيّة. كانت باردةً ومسطّحة، كالشاشة تمامًا. أمّا البارحة فقد مشت على أصابعي، وتدحرجتْ كأنّها حبّةُ خرزٍ صغيرة. ثمّ أكملتْ طريقَها صعودًا إلى ساعدِي، فرقبتي. دغدغتني، فحملتُها ووضعتُها فوق غصن. فتّشتُ عن أخرى، ووضعتُها بجانبها. طارت الأولى ثم لحقتْها الثانية. ما أسرعَ ما اختفتا! أمّا ديدانُ الربيع التي تقطع الممرّاتِ في الحديقة، فتبدو مضحكةً وهي تجرّ جسدَها. بعضُها بوبرٍ ملوّن، وتبدو كأنّها صفّفتْ شعرَها "سبايكي." تعرفين كيف يكون الشعرُ سبايكي، يا ماما؟

- ...

- أساعدُها وأحملُها وأضعُها فوق العشب. أمشي على العشب برفق، فأشعر أنّني خفيفة. قدماي تكادان لا تلمسانه...

- كفى هذرًا يا حبيبتي! لا تشتّتي الموضوعَ بالدعاسيق والديدان، واسمعيني جيّدًا. لقد مللتُ أن أشرحَ لمدرِّسيك وأستجدي عطفَهم بالقول إنّنا مازلنا نعيش في الملجأ في هولندا، وإنّ اللغة الهولنديّة جديدةٌ عليكِ. أعلمُ أنّها كلّها حججٌ واهية. فلو أردتِ أن تدرسي فستفعلين ذلك، ولو عشتِ في خيمة!

- لكنْ ماما، صدّقيني! الآنسة يوسيه تكرهني. وإنْ تكلّمتْ صديقتي، فستعاقبُني أنا! الآنسة يوسيه متحطّطة عليَّ.

- اسمعيني! كنتُ يومًا في عمرك، ودرستُ في المدرسة. أعرفُ تصرّفاتِ المراهقين وأفكارَهم، أمْ تظنّينني قفزتُ إلى الأربعين فجأةً؟!

- ...

- ما تبريرُ شرودِكِ في الدرس؟ الآنسة يوسيه أخبرتني أنّكِ تبتسمين، وأنّ عينيْك تسرحان في الآفاق خارج النافذة. وقالت إنّك تتصرّفين ككركوز للفتيات كي يضحكن طوال الوقت.

- الآنسة يوسيه هي التي تجبرني على ذلك يا ماما!  في إحدى المرات شرحتْ درسَ علوم عن evolutie.* لم أعرف ما تعنيه هذه الكلمةُ الهولنديّة إلّا حين عرضتْ فيديو يبيّن كيف تطوّرت السمكة وخرجتْ إلى اليابسة فتحوّلتْ إلى زاحفٍ، فإلى قرد. بدا الموضوعُ مضحكًا. تبادلت الفتياتُ النكات. قالت منال: "تطوّرت الفراشةُ فأصبحتْ أنا." وقالت أخرى "لقد كنتُ عصفورة." وثالثة قالت إنّها كانت قطّة. أمّا أنا فقلت إنّي كنتُ دعسوقةً مرقّطةً، وإنّ الآنسة يوسيه كانت قردًا. ضحك الجميع. صرخت المدرِّسةُ وعاقبتنا، ثم أكملت الدرسَ، متوتّرةً، وهي تتحدّث عن عمل الإنسان في الزراعة وحرثِ الأراضي. طوال الوقت شعرتُ أنّ الأوراق تتطاير من يدها، فرحتُ أتخيّلُها أجنحةً ترفرف فوق المرج، ناثرةً الكلماتِ فوق التراب كالبذور لتنمو وتكبر.

- كيف ذلك؟

- كلمة "محاصيل" مثلًا، تحوّلتْ إلى أشجار كرزٍ وتفّاحٍ وورود. وكلمة "مُعدّات" تحوّلتْ إلى رفشٍ ومحراث. وفكّرتُ ما الذي يمكن أن تصيرَه كلماتٌ أخرى، فلم أهتدِ إلى حلّ. عندها، سألتني المدرِّسةُ سؤالًا لم أعرف الإجابةَ عنه، فاستشاطت غضبًا. صدقّيني يا ماما، حصّةُ المدرِّسة يوسيه من أصعب الحصص، وأنا أفضّل أن أسرحَ في الخيال كي لا أكرهَ مادّةَ العلوم.

تنهّدت الأمُّ وزفرتْ طويلًا:

- لن تقنعيني بأنّك طبّقتِ نظريّة دارون على المدرِّسة. يجب احترامُ المدرّسين!

- سأطلبُ منكِ شيئًا، إذًا، يا ماما. أنظري إلى الجدار المقابل، وصِفي لي شعورَكِ.

- حسنًا، أرى جدارًا متّسخًا لغرفةٍ في ملجأ. وهناك خطٌّ على الحائط حاولتُ تنظيفَه منذ سكنّا هنا، لكنّني أخفقتُ. يبدو كالندبةِ فوق الوجه. إنّه خطّ وحيد، لئيم، عنيد.

ابتسمت الفتاة وقالت:

- هكذا ترينه. ولو بقيتِ تطالعينه أعوامًا، فلن يتغيّر، بل ستبدو هذه الندبةُ أعمقَ وأكثرَ تشوّهًا، وستكرهينه، ولن تجلسي في مواجهته. أمّا أنا، فأراه بطريقةٍ مختلفة.

قفزت الفتاة من حيث كانت تجلس بجانب أمّها. رفعتْ مفرشَ السرير المسدَل، وسحبتْ كرتونةً صغيرةً من تحته مليئةً بأقلام التلوين وأدواتِ الأشغال الفنّيّة. حملتْها وتوجّهتْ نحو الخطّ، فرسمتْ حوله أوراقًا وأعشابًا، وعلى قمّته وردةً، وفوقها دعسوقةً حمراءَ مرقّطةً بالأسود. ثمّ ألصقتْ بعضَ القطع البلاستيكيّة على شكل فراشاتٍ ونجوم. واستدارت وسألتْ أمَّها:

- والآن، هل يمكن أن تصفي لي شعورَكِ وأنت تنظرين إلى الخطّ نفسه؟

تأمّلتْ أمُها الرسمَ وأجابت:

- أراكِ قبل ألف عامٍ عندما كنتِ دعسوقةً وحولَكِ صديقتُك الفراشة، والعصفورةُ لم تأتِ بعدُ لتتعرّفي إليها. أرى زهرةً جميلةً وأعشابًا، وأسمعُ صريرَ الحشرات. أخشى أن يدوسَ أحدُهم على العشب فيحطِّم الدعسوقة. ربّما هناك أشياءُ أخرى لا أرها، لكنّني أشعرُ بها وأكاد أسمعُها.

بحركةٍ خاطفةٍ وجّهت الطفلةُ أقلامَ التلوين نحو أمّها، وعيناها تلمعان فرحًا، وسألتْها:

- أتريدين رسمَها؟

- كلّا! ستَنْقص عمقًا إنْ رسمناها. دعينا نتخيّلها!

سحبت الفتاةُ والدتَها نحو نافذة الغرفة حيث تقطنان في الطابق الأوّل. أشارت خارج النافذة وسألتها عمّا تراه.

- أرى غرفَ اللاجئين، وهي متشابهة. معظمُهم أغلق الستائرَ حفاظًا على الخصوصيّة. في الطابق الثاني يسكن شباب. أحدُهم يجلس عند النافذة يحْلق لحيتَه...

- ألا ترين شيئًا آخر؟

- كلّا.

أضافت الفتاة:

- نحن لا نعرف متى سنخرج من هذه الغرفة. هناك احتمال أن نبقى هنا ثمانيَ سنوات مثلَ العائلة الأفغانيّة. فهل يعقل أن لا تطالعي إلّا هذا المنظر؟ هناك شيء لا ترينه. ولكي تدركيه، فعليك أن تتخيّليه إنْ لم تستطيعي الوصولَ إليه. اتبعيني!

ركضت الفتاةُ إلى الساحة التي تراها من نافذة غرفتها، ولحقتها أمُّها.

سلكتا طريقًا خارجيًّا لا يمرّ عبر مدخل الملجأ، فوجدتا نفسيْهما فوق مرجٍ أخضر. قفزت الفتاةُ فوق العشب ثم هرولتْ فوق مسار المشاة. على يسارها قناةٌ مائيّة. مرّت السفنُ والعبّاراتُ بجانبهما. على هدير الماء انطلقتْ صفّارةٌ قويّة، ثمّ عبرتْ سفينةٌ ضخمةٌ مكتوب عليها بخطٍّ منمّقٍ وعريض: نيبتون. استوضحت الفتاة عن الاسم. أجابتها أمُّها بأنّ نيبتون في الميثولوجيا الرومانيّة هو إلهُ الماء والبحر، وهو الذي يحمي المراكب. عبرتْ سفينةٌ أصغر اسمُها مارسيليا. لوّحت الفتاةُ للعمال على ظهر السفينة، فلوّحوا لها بحماس.

استمرتا بالجري حتى أُنهكتا. تمدّدتا على العشب تحت شجرةِ كستناء. نظرتا إلى السماء التي تلألأتْ بين أوراق الشجرة.

- ما أجمل هذا المنظر! قالت الأم.

صاحت الفتاة:

- ألم أقل لكِ إنّ هناك جمالًا لا نراه مثلَ نيبتون ومارسيليا، ومثلَ هذا المرج، خلف الملجأ القميء؟ تمامًا كالخطّ على الحائط. تمامًا كالأفكار التي تخلقها مخيّلتي حين تشرح الآنسة يوسيه الدرسَ المبهَم!

أوترخت (هولندا)

 

* التغيّر في السمات الوراثيّة الخاصة بأفراد التجمع الأحيائيّ عبر الأجيال المتلاحقة.

 

رندة عوض

كاتبة فلسطينيّة تعيش في السعودّية. لها العديد من القصص المنشورة في مجلّات عربيّة.