التطبيع وسبل المواجهة – مداخلة طلال عتريسي: التطبيع وخداع التسامح
24-05-2021

 

في 9/5/2021، عقد تجمّع المعلّمين في لبنان ندوةً رقميّةً بعنوان: التطبيع وسبلُ المواجهة تربويًّا وثقافيًّا. قدّم الندوة د. وائل جزّيني، وحاضر فيها د. سماح إدريس ود. طلال عتريسي. هنا مداخلة عتريسي. لقراءة مداخلة إدريس، أنقر هنا.

***

منذ نشأة الكيان الإسرائيليّ على أرض فلسطين وهو يعيش ما نسمّيه اليوم "عقدةَ التطبيع." والمقصود بالتطبيع هو جعلُ وجود الكيان الوليد، الذي تأسّس على القوّة وطردِ السكّان المحلّيّين، وجودًا طبيعيًّا.

كانت المرحلةُ الأولى من محاولة التطبيع هي فرض وجود هذا الكيان بالقوّة العسكرية والاحتلال المباشر، وإقناع الفلسطينيّين تحت الاحتلال بأنّ الواقعَ الجديدَ لا يمكن تغييرُه وأنّ عليهم القبولَ به. كما كانت العقيدةُ العسكريّةُ الإسرائيليّة، في الوقت نفسه، في خدمة هذا التطبيع المفروضِ بقوّة الاحتلال، إذ كانت تقوم على الحرب الخاطفة، وعلى مفاجأةِ العدو، وعلى تحقيق النصر الحاسم، بحيث "يقتنع" الطرفُ المقابل (العرب) بأنّه لا يستطيع الردَّ أو شنَّ الحرب لأنّ الهزيمةَ تنتظره؛ ما يعني أنّ عليه قبولَ هذه الدولة والتعاملَ معها ككيان طبيعيّ.

كانت تلك، إذًا، مرحلةَ محاولة فرض التطبيع بقوّة السلاح والحرب واحتلال فلسطين وأراضٍ من سوريا ومصر والضفّة الغربيّة حتى العام 1967. لكنّ ما جرى بعد ذلك، من اتفاقيّات كامب ديفيد مع مصر ووادي عربة مع الأردن، لم يؤدِّ هو الآخر، على الرغم من أهمّيّة خروج مصر من الصراع، إلى جعل وجود هذا الكيان طبيعيًّا. ففي مصر مثلًا وقفتْ في وجه التطبيع المتوقّع كلُّ نقابات المحامين والأطبّاء والفنّانين والصحافيّين، ومنعتْ أعضاءها من المشاركة في أيّ نشاطٍ مع إسرائيليّ في مصر وخارجها؛ بل هدّدتْ بطردِ من يُقْدم منهم على زيارة "إسرائيل." وهذا يعني أنّ العلاقة الطبيعيّة مع هذا الكيان اقتصرتْ على السلطة في مصر والأردن، ولم تصبح طبيعيّةً مع المجتمع المصريّ أو الأردنيّ. ولم تجعل الاتفاقيّاتُ الرسميّةُ الكيانَ يشعر بالأمان والاطمئنان، بل استمرّ شعورُه بالغربة والعزلة. فكان الانتقالُ إلى المرحلة الثانية من محاولات التطبيع عبر الوسائل غير القتاليّة وغير المباشرة.

في المرحلة الثانية جرى الاعتمادُ على الأمم المتحدة والقرارات الدوليّة ومفاوضات السلام. فقد صدرتْ بعد حرب 1967 وحرب 1973 قراراتٌ دوليّةٌ تطالب "إسرائيلَ" بالانسحاب من الأراضي العربيّة التي احتلّتها، وتدعو إلى مفاوضات بين العرب والإسرائيليّين لترسيخ السلام، مثلما حصل في التفاوض المباشر بين العرب والإسرائيليّين والفلسطينيّين في مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 برعايةٍ أميركيّة. كما تقدّم العربُ، بدورهم، بمبادراتٍ عدّة، وبوعودٍ بالتطبيع والسلام والعلاقاتِ المباشرة مع "إسرائيل" (أشهرُها مبادرةُ الجامعة العربيّة سنة 2002) إذا قبل الإسرائيليّون بدولةٍ فلسطينيّةٍ إلى جانب الدولة الإسرائيليّة. وفي هذه المرحلة أيضًا لم يكن الإسرائيليُّ مهتمًّا بتقديم أيّ تنازلاتٍ من أجل التطبيع، ما دام يحتلّ الأرضَ بالقوّة، وما دام الطرفُ المقابل عاجزًا ولو عن مجرّد تهديده بالطرد من هذه الأرض؛ ما يعني أنّ الإسرائيليّ لا يزال يتصرّف على أساس أنّ وجودَه أصبح "طبيعيًّا بالقوّة" لا برضا الطرف الآخر. ولكنّ هذا لم يمنعْه من محاولة اختراق مؤتمراتٍ بمشاركة باحثين أو مثقّفين عرب، أو إجراء مقابلاتٍ مع وسائل إعلامٍ عربيّة، من حينٍ إلى آخر.

بعد التسعينيّات حصل تغييران استراتيجيّان كبيران كانت لهما تداعياتٌ مباشرةٌ على قضيّة التطبيع. الأوّل هو اتفاقيّاتُ أوسلو عام 1993 التي شرّعت الاعترافَ الفلسطينيَّ الرسميَّ بـ"إسرائيل" وفتحتْ بابَ التفاوض المباشر معها للتوصّل إلى "دولة فلسطينيّة" بعد خمسة أعوام. لكنْ مضى 28 عامًا إلى اليوم من دون أيّ نتيجة، ليضافَ بذلك هذا "التطبيعُ" الفلسطينيُّ الرسميّ إلى التطبيع المصريّ والأردنيّ.

والتغّير الثاني مقابلٌ للتطبيع، وهو صعودُ حركة المقاومة ضدّ الاحتلال الإسرائيليّ في لبنان وفلسطين. وقد جرت حروبٌ واعتداءاتٌ وعمليّاتٌ إسرائيليّةٌ عدّة للقضاء على هذه المقاومة في الأعوام 1993 و1996 و2006 في لبنان، وفي الأعوام 2008 و2012 و2014 حتّى اليوم في فلسطين، وفشلتْ كلُّ هذه المحاولات؛ ما انعكس سلبًا على التطبيع الرسميّ ومحاولاتِ الاختراق الإسرائيليّ. بل يمكن القول إنّ اتجاهَ التطبيع واتجاهَ المقاومة تعايشا وتواجَها طوال كلّ تلك السنوات، وكلّ اتجاهٍ يعمل في المجالات كافّةً لتحقيق الإنجازات في مواجهة الطرف المقابل.

لم يكن الإسرائيليّون وحدهم في مشروع التطبيع، بل وقفتْ إلى جانبهم منظّماتٌ وهيئاتٌ دوليّةٌ وإقليميّةٌ ومحلّيّة، بما فيها الأممُ المتحدة، تحت شعار السلام والحلّ السلميّ ووقفِ الحرب. وقد عمل هؤلاء كافّةً بطرقٍ غير مباشرة: فلم يكن التطبيعُ مع "إسرائيل" هو الهدفَ المعلن، بل "التسامح" و"قبول الآخر،" وهو ما لا يستطيع أحدٌ أن يرفضَه! وتحوّلت الأنشطةُ النظريّةُ والتدريبيّةُ التي قامت بها هذه الهيئاتُ والمنظّمات، في المجالات الثقافيّة والتربويّة والإعلاميّة والفنّيّة وحقوقِ الإنسان وسواها، إلى تعليم التسامح وحقّ الاختلاف ونبذ العنف وغير ذلك من مصطلحاتٍ سنشير إليها لاحقًا، ولم تحدِّدْ مع مَن يجب أن "نتسامح" ومع مَن يجب أن نقبل "الاختلاف."

إذًا اعتمدت استراتيجيّةُ "التسامح،" التي تستبطن التطبيعَ أو تؤدّي إليه، على الأمم المتحدة، والمنظّمات الدوليّة، والمنظّمات والجمعيّات المحلّيّة. ومن خلال هذا الثلاثيّ عُقدتْ مئاتُ الندوات وحلقاتِ التدريب، وصدرتْ آلافُ المنشورات التي تتوجّه بشكل مباشر إلى شعوب الشرق الأوسط ومجتمعاتِها لتدريبها على نبذ العنف (اللافت أنّ "اسرائيل" لم تكن من ضمن هذه المجتمعات!). وقد اتّخذ هؤلاء من أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 ذريعةً مناسبةً لترويجِ ما أطلقوا عليه "نبذَ التطرّف" -- أيْ إنّ العنفَ الإسرائيليّ لم يكن مستهدَفًا.

خَصّصت الأممُ المتحدة برامجَ لنشر التسامح، وتولّت المنظّماتُ الدوليّة الأوروبيّة والأميركيّة التمويلَ وتنسيقَ التدريب مع الجمعيّات المحلّيّة غيرِ الحكوميّة. كما حاولتْ بعضُ المبادرات الأوروبيّة، مثل المبادرة الأورومتوسطيّة في التسعينيّات، أن تجعلَ وجودَ "إسرائيل" شريكًا طبيعيًّا إلى جانب العرب في هذا المنتدى الإقليميّ الأوروبيّ.

ترافقتْ دعواتُ التسامح بعد 11 سبتمبر/أيلول مع اهتمامٍ متزايدٍ بتشكيل هيئاتٍ ومجالسَ ومراكزَ للتسامح والسلام والحوار بين الأديان، على غرار "المجلس العالميّ للتسامح والسلام" في البحريْن الذي يتوجّه إلى "الذين يعانون حروبًا واسعةَ النطاق تكاد لا تنتهي، وما من منتصرٍ فيها"؛ أو على غرار "المعهد الدوليّ للتسامح" الذي تأسّس في الإمارات العربيّة لمكافحة الإرهاب والتطرّف؛ وكذلك "مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز العالميّ للحوار بين أتباع الأديان والثقافات،" وهو يتألّف من قياداتٍ دينيّةٍ من المسلمين والمسيحيّين واليهود والبوذيّين والهندوس، ويهدف إلى "دفع مسيرة الحوار والتفاهم وإرساء ثقافة السلام والعدل بين الشعوب" بحيث يصبح "التعايشُ والتفاهمُ والتعاونُ بين أتباع الأديان وسيلةً فعّالةً من أجل بناء السلام وتحقيق الأمن..."[1] ومن الملاحَظ في برامج هذا المركز، على سبيل المثال، أنّه يدعو إلى مساعدة اللاجئين على الاندماج في مجتمعاتهم الجديدة (أيْ عدم التفكير في العودة إلى بلدانهم)، وأنّه لا يحدِّد مع مَن سيكون "السلام" و"التفاهم،" بحيث يمكن أن تكون "إسرائيلُ" ضمنًا من الأهداف المطلوبة لهذا السلام.

لعبت الجمعيّاتُ والمنظّمات المحلّيّة دورًا مهمًّا وفاعلًا في ترويج التسامح هذا. ويكفي أن نرصدَ المصطلحات التي يجري التعاملُ معها لنتخيّلَ طبيعةَ هذا التسامح الذي تريد هذه الجمعيّاتُ والمنظّماتُ أن تنقلَه إلى المشاركين في دوراتها وندواتها التدريبيّة والتثقيفيّة. هكذا سوف تتكرّر مفرداتٌ مثل "بناء السلام" و"قبول الآخر" و"نبذ التطرّف" و"الدعوة إلى اللاعنف" و"التفاهم بين الأديان" و"رفض الكراهية،" بالإضافة طبعًا إلى "التسامح." ومثل هذه الدعوات سنشهدُها في أنشطةِ كثيرٍ من منظّمات المجتمع المدنيّ وأهدافها؛ من ذلك على سبيل المثال:

- "جمعيّة دوائر" (2015) التي تعمل من أجل مجتمعٍ يحمي الشبابَ والأطفالَ من العنف والتطرّف في لبنان والشرق الأوسط وتمكينهم "ليصبحوا مواطنين عالميّين مسؤولين وتعبئة تفكيرهم النقديّ لمواجهة التطرّف." وتعمل الجمعيّة في الوقت نفسه على "تنقية" المناهج الدراسيّة من أيّ تحريضٍ على "التطرّف،" وعلى تنمية المهارات المدرسيّة في اكتشاف هذا التطرّف لدى طلّابها.

- "مشروع خطاب بديل" الذي يقوم على تدريب 12-15 جمعيّة أو مجموعات شبابيّة للتعرّف على "خطاب الكراهية" و"بناء السلام "و"اللاعنف" في العمل والأفكار. [2]

أضف الى ذلك مئاتِ الجمعيّات الأخرى، والمواقعِ الإلكترونيّة، التي تنشط في المجال التدريبيّ والتثقيفيّ نفسه. وقد تحدّثتْ وسائلُ الإعلام في لبنان عن تدخّل السفارة البريطانيّة في مناهج التدريس لإلغاء التوجّهات التي تحضُّ على العنف وإلغاءِ مقرَّر "القضيّة الفلسطينية" وتغيير تعبير "فلسطين المحتلّة" من كتاب الجغرافيا مقابل هِبة ثمن كتبٍ مدرسيّة.

ولنلاحظْ، على سبيل المثال أيضًا، نشرة مجلة السلام التي صدر عددُها رقم 10 في العام 2015، وشعارُها "مشروع بناء السلام." ومن اللافت أنّ هذه النشرة، كما جاء على صفحتها الأولى، حصلتْ على دعمٍ من السفارة النروجيّة، والاتحاد الأوروبيّ، واليونيسف، وبريطانيا، واليابان، وحكومة ألمانيا، وغيرها.[3] أمّا محتوى النشرة فيضع خارطةَ طريقٍ لتحقيق ما تصبو إليه النشرةُ والقوى والدولُ والهيئاتُ التي تدعمها على الشكل الآتي: بناء السلام عبر القيادات المحلّيّة، وعبر التربية، وعبر الجمعيّات غير الحكوميّة، وعبر الإعلام؛ أيْ عمليًّا "بناء السلام" المفترض من خلال مختلف عناصر التأثير في المجتمع.

لكنّ السؤال الذي يطرح نفسَه هو: ما سبب هذا الاهتمام الدوليّ ببناء السلام، علمًا أنّ لبنان لم يكن في حالة حربٍ داخليّة، وما يعانيه هو أوضاعٌ اجتماعيّةٌ واقتصاديّة، وتهديداتٌ إسرائيليّة، واحتلالُ أراضٍ له من "اسرائيل"؟! وبالتالي، مَن هو المقصود بكلّ هذه الدعوات إلى التسامح واللاعنف، علمًا بأنّ مشروعَ بناء السلام في لبنان بدأ منذ العام 2007 (أيْ بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في تمّوز 2006) من أجل "تعزيز التفاهم المتبادل والتماسك الاجتماعيّ والتعامل اللاعنفيّ مع النزاعات... لتطوير استراتيجيّات بناء سلام متوسّطة وطويلة الأمد"؟

فإذا كان لبنان لا يعيش حالةَ حربٍ داخليّة، ولا يشهد موجةً من التطرّف الديني (لم تصل إليه إلّا بعد العام 2011 وبعد اندلاع الحرب على سوريا)، فإنّ الربطَ بين هذا المشروع الذي بدأ سنة 2007 وبين المواجهة مع "إسرائيل" يصبح منطقيًّا، ويصبح "التطرّف" هو مقاومة الاحتلال، ويغدو "اللاعنف" و"التسامح" و"قبولُ الآخر" هي الأمور المطلوبةَ مع "إسرائيل." وبهذا تكون المنظّماتُ والجمعيّاتُ الدوليّةُ والمحلّيّة تستهدف من كلّ هذا الدورات التدريبيّة أن تكون "إسرائيل" ضمن هذا الفضاء العامّ من التسامح وعدم الكراهية.

أمّا أهمّيّةُ مثل هذه الدعوات وخطورتُها في الوقت نفسه فتكمنان في أنّها تطرح ما لا يمكن الاعتراضُ عليه من حيث المبدأ. إذ لا يمكن أن نرفضَ التسامحَ، أو نبذَ العنف، أو قبولَ الآخر، أو قبولَ الاختلاف، لكونها جميعها مبادئَ إنسانيّةً عامّةً ومقبولةً في كلّ المجتمعات. لكنْ ما يمكن أن نتوقّف عنده في مناقشة هذه المسألة هو الآتي:

- أوّلًا، أنّ هذه المبادئ مطلوبة ومقبولة في داخل مجتمعاتنا، ولن نرفض اللجوءَ اليها إذا أردنا حلَّ مشكلاتنا الداخليّة. وما ينبغي تحديدُه عندما نتحدّث عن ترويج هذه المصطلحات هو تحديد مَن المقصودُ بالتسامح، وأين، وذلك كي لا يَفتحَ التعميمُ المجالَ ليكون "العدوّ" ضمن المستهدَفين به.

- ثانيًا، إنّ ترويج هذه المصطلحات يجب أن يترافقَ مع التأكيد أنّ العنفَ والتشدّدَ والكراهية ستكون موجّهةً نحو العدوّ الخارجيّ الذي يحتلّ الأرض ويهدِّد السيادةَ ويعتدي على الناس. وعندما نقوم بهذا التمييز بين مَن يستحقّ التسامحَ، ومَن يستحقّ الكراهيةَ، فإنّنا نكون قد قطعنا الطريقَ على مَن يمارس الخداعَ لتمرير التطبيع تحت ستار التسامح ونبذ العنف.

بيروت

طلال عتريسي

متخصّص في الشؤون الاجتماعيّة والسياسيّة. نال الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة السوربون عام 1979. باحث ومستشار علميّ للعديد من المؤسّسات التربويّة والاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة. ترأّس الفرعَ الأوّل لمعهد العلوم الاجتماعيّة في الجامعة اللبنانيّة بين العامين 2003 و2007. شغل عضويّة الهيئة العليا لإعداد وتطوير المناهج والبرامج في الجامعة اللبنانيّة بين العامين 2011 و2013. كما عُيّن عميدًا للمعهد العالي للدكتوراه في الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية بين العام 2014 والعام 2016. خلال مسيرته التعليميّة، حاضر في ميدان علم النفس الاجتماعيّ، وعلم اجتماع التربية، وعلم الاجتماع العائليّ. كما كتب في مجال الدراسات السياسيّة والاستراتيجيّة.

كلمات مفتاحية