ينهمر المطرُ خيوطًا من دمع. هدّدتُه بأنّني سأغلقُ جميعَ المنافذ في قلبي، وسأسدُّ طريقَ الحنين إليه، وسأعتكفُ مع أوراق الخريف التي تتبلّل بحلول الشتاء.
ربعُ ساعةٍ من الأمطار الغزيرة كافٍ لتغرقَ شوارعُ المدينة وأقدامُ المارّة في برك المياه، ولتغرقَ أيضًا آلافُ القلوب الحزينة.
خيوطُ المطر لا لونَ لها. لكنّني أتذكّر أنّ الخيوط الصوفيّة كانت ملوّنةً، وغالبًا ما تكون "مونّسة" الألوان: لونان يشتركان في خيطٍ واحدٍ، فيشكّلان مزيجًا جميلًا، أشْبهَ بقلبيْن في جسدٍ واحد. هذه المعاطفُ المطريّة لا تقي الجسدَ إلّا من بضع قطراتِ ماء، لكنّها لا تقيه من حنينٍ يتجدّدُ عند كلّ مطر ويَحمل ما يمكّنُه من اختراقِ ذاكرةٍ ينهشها الألزهايمر.
ها هو البردُ ثانيةً، بعدّتِه وعتادِه، بصقيعِه الذي يبدأ من قدميّ ليكتسحَ كاملَ جسدي. مؤونتي: جرعةُ نبيذٍ معتّقٍ، حبّاتُ كستناء تتراقص على هسيس الحطب، حبُّك، وجواربُ صوفيّةٌ لقدميْن تَبْردان دومًا.
تتجدّد الغصّةُ كلّما تراءى لي ذلك الشتاءُ العتيقُ في شقوقِ الروح، عندما يلفح وجهَك "الهواءُ الشرقيُّ" القادمُ من جرودِ لبنان. تتشكّل صفائحُ الجليد، ويغطّي الأبيضُ كلَّ شيء ما عدا القلوبَ؛ فهذه يغطّيها الحزنُ. في شتاءٍ لا يعرف الرحمةَ، تصبح الدروبُ مزلاجًا للقلوب الوحيدة، لا تؤْنسها شجرةُ سروٍ، ولا نجمٌ وحيدٌ قد يهبط إلينا ويختبئُ في مغارة القرية.
في الدار عجوزان مع غصّاتهما، وقدحُ عرقٍ لم يعُد يغيّر في الأمر شيئًا. كان هذا الكهلُ، منذ أعوامٍ ليست ببعيدة، ينثر الطحينَ باكرًا كي يطعمَ فئرانَ الدار. تُدهشني يداه وتَروّيه. متعتُه في إطعام فأر تتعدّى متعتَه في النظر إلى حسناء البيادر.
كان يقول:"يا ابنتي، إنّ الخبز قوتُنا، ولكلٍّ منّا طعامُه!"
***
بيروت محطّة ضروريّة في الجمال والصخب، كما دمشق محطّةٌ للحزن والحنين. عليكَ أن تغرفَ من المدينتيْن ما يحلو لك. تحمل حقيبةً ثقيلةً من الملابس والذكريات، لكنّ الثقلَ في قلبك يُحْني ظهرَكَ دومًا. أقف أمام صخرة الروشة لأقول لها: "رحّبي بي أيّتها المدينة، أنا القادمة من بحرٍ مجاورٍ لك، من طرطوس."
تتناوب الصورُ والمشاهدُ الصامتة كفيلم بالأبيض والأسود لشارلي شابلن، المضحكِ المبكي. خشخشةُ المطر على المعطف تشبهُ هسهسةَ الموقد الذي يلتهم الحطبَ بشهيّةِ صائم. كرةٌ من خيوط الصوف تتأرجح أمامي. ستنجو هذه الكرة مِن ماهيّتها لتصبحَ رفيقًا في ليالي الشتاء. ستصبح الشيءَ الأقربَ إلى جسدي، والأكثرَ حميميّةً.
أكثرُ ما يخشاه الإنسانُ يقع فيه عادةً. وأنا كنتُ أخشى شيئين: أن أشبهَ أمّي، وأن يهزمَني الألزهايمر. وها أنا أصرُّ على النوم في الصالون أمام التلفاز، تمامًا كما كانت تفعل. كانت تتهرّب من النوم في سريرها، تدّعي الإرهاقَ كي تنامَ في الصالون، أو كانت تشْغل نفسَها بحياكة الجواربِ الصوفيّة لنا. وكنتُ أجلس أمامها، وأمدُّ قدمَيَّ وأبعِدُهما الواحدةَ عن الأخرى، إشارةً إلى أنّني أنهيتُ دروسي وصرتُ مستعدّةً لمساعدتها في حياكة الصوف. تُبْعد أمّي شلّةَ الصوف لتصبح واسعةً، وتُدخلُها في أمشاط قدميّ. أنسِلُ طرفَ الخيط، وأبدأ بلفّه حول كفّي حتّى تتشكّلَ نواةُ الكرة الصوفيّة، ثمّ أنزعُها. العمليّة الثانية، الأصعب، تكون بالسيطرة على الكرة بعد أن تصبح أكبرَ من كفّي، وتبدأ بالإفلات منّي كلّما حاولتُ التقاطَها. تتدحرج على الأرض، فأسرِعُ إلى التقاطها. تنهرني أمّي لأنّها تظنّ أنّني أتعمّد اللعبَ والتهرّبَ من النوم.
***
بدأ الخوفُ يتسلّل إلى تفاصيل حياتي عندما بدأتُ في تقمّص شخصيّة أمّي. لا أظنّ أنّي أتقصّدُ ذلك، لكنّ الجينات التي أحملُها لا بدّ من أن تؤثّر على نحوٍ ما. أحضّرُ فنجانَ قهوتي، وأتسمّرُ أمام التلفاز، وأظلُّ أتابعُ البرامج، حتّى يغلبَني النعاس.
لم يكن يَعلم ماذا تخفي وراء هاتين العينين الذابلتين. بقميص نومها الشفّاف، وابتسامتِها الناعسة، أطلّت من غرفتها على العالم المفتوحِ على قلبه، فمنحتْه كلَّ ما كان يعتقدُ أنّه يملكه. لم يخطرْ في باله أنّها ستجرّدُه من كلِّ ما يعرفُه، لتمنحَه كلَّ شيء: قلبَها الذي كان يعتقد أنّه ملْكه، حبَّها الذي ظنّ أنّه يتمتّعُ به، حتّى تلك اللحظة التي أرادت أن تغادره لتهزّ طمأنينته، كانت تخشاها دومًا، تخشى أن ينهار العرشُ في لحظة حماقة.
***
نهضتُ من هذا الحلم مذعورةً. كنت أرتجف أمام التلفاز، ولم أذكرْ أين شاهدتُ هذا المشهد: أهو من فيلمٍ، أمْ عندما توقّفتُ عند بائع الجوارب ظهرًا وباغتتني الذكرياتُ ورائحةُ أمّي والصوف ثمّ عدلتُ عن رأيي لأنّني لم أجد جواربَ بخيوطٍ صوفيّةٍ مونّسة؟ مِن أين أتت ذاكرتي بهذا المشهد اليوم؟ في التلفاز وثائقيٌّ عن عمر الشريف، وكيف أصابه الألزهايمر في آخر سنيّ حياته. كيف يتعايش المبدعُ مع مرضٍ كهذا؟ هل نسيَ عمر الشريف حبَّه لفاتن حمامة أثناء مرضه؟ هل نسيَ مذاقَ شفتيْها وبحّةَ صوتها الذي لا يضاهيه أيُّ صوتٍ أنثويٍّ جمالًا؟ بتُّ أتساءل ماذا يحدثُ عندما ينهش الألزهايمر ذاكرةَ الكاتب؟ هل يَمسح زجاجَ النافذة بأوراقِ كتبه، ولا ينتبه إلى اسمِه المدوَّنِ في طرف الورقة؟
سوريا