العالم يكتسي بألوان فلسطين، وفلسطينُ تكتسي بالثورة: هذا هو مختصرُ المشهد في الأيّام القليلة الماضية. فقد استطاعت القضيّةُ الفلسطينيّة، بفضل سواعدِ أهلها، أن تستعيدَ ألقَها ومركزيّتها في عقول الجماهير ووجدانِها، وأن تحتلّ مركزَ الصدارة في دوائر صنع القرار العربيّة والعالميّة.
لا يختلف اثنان على أنّ ما حصل شكّل صدمةً للجميع، خصوصًا تكامل المشهد النضاليّ الفلسطينيّ الذي امتدّ - رغم أنف سلطة دايتون - من غزّة الصمود والمقاومة إلى رام الله والضفّة ونابلس والخليل، فإلى القدس، وصولًا إلى اللدّ، حيث استطاع أحفادُ الحكيم جورج حبش أن يتجاوزوا جميعَ التوقّعات وأن يفاجئوا الكيانَ بانتفاضتهم وتماسكِهم وصلابتِهم، وانتهاءً بحيفا والناصرة وعكّا وأمّ الفحم وغيرها من مدنِ فلسطين التاريخيّة وقراها وحاراتِها.
وتفاقمتْ أزمةُ الكيان نتيجةً للتضامن العالميّ اللافت مع غزّة بشكل خاصّ، والفلسطينيّين بشكل عامّ. فقد خرجت الحشود، يتقدّمها اللاجئون الفلسطينيّون في برلين ومدريد ومالمو وكوبنهاجن وباريس ولوس آنجلس وسان فرانسيسكو وغيرها من عواصم العالم، داعمةً للحقّ الفلسطينيّ، ومندِّدةً بجرائم الصهيونيّة.
طبعًا لم تغب عن المشهد الجماهيرُ العربيّةُ في اليمن والعراق وسورية وتونس والمغرب ومصر وغيرها من الدول العربيّة. وكان مشهدُ الجماهير في اليمن والعراق، بخاصّةٍ، صادمًا للجميع؛ إذ كيف لهذه الشعوب المنكوبة التي مزّقتْها الحربُ وأثخنتْها الجراحُ أن تتجمّع وترفعَ العلم الفلسطينيّ وتطالب بفتح باب التطوّع والجهاد لتحرير فلسطين؟!
وأتت عودةُ الروح إلى الأردن لتُكمل المشهدَ تماسكًا وبهاءً. هناك ابتدأ الحَراكُ من المخيّمات، لينتقلَ إلى أمام سفارة العدوّ، مطالبًا بإلغاء وادي عربة واتفاقيّةِ الغاز، وبطرْد السفير الصهيونيّ من عمّان، لتصلَ الجموعُ بعد ذلك إلى حدود فلسطين المحتلّة هاتفةً للعودة، ومحاولةً اختراقَ الحدود.
كذلك الأمرُ في مخيّمات اللجوء في لبنان، التي وصلتْ إلى الحدود اللبنانيّة مع فلسطين المحتلّة، وقدّمت الجماهيرُ اللبنانيّةُ شهيدًا آخر على مذبح تحرير فلسطين العربيّة، هو محمّد طحّان.
واستكمل الشعبُ الفلسطينيّ، ومن خلفه أحرارُ العالم، انتصارَه للقضيّة، عبر وجوده الكاسح على وسائل التواصل الاجتماعيّ. فقد أثبتت الإحصائيّاتُ أنّ الهاشتاغات الداعمةَ للقدس والشيخ جرّاح وغزّة وفلسطين هي الأكثرُ تداولًا في هذه الفترة. وتضامن العديدُ من المشاهير و"المؤثِّرين،" ممثّلين ولاعبي كرة قدم وغيرَهم، مع القضيّة الفلسطينيّة: مِن جمع التواقيع، إلى رفع العلم الفلسطينيّ في المباريات، وغير ذلك. وجرى هذا رغم محاولات القائمين على الإنستغرام والفيسبوك تكميمَ أفواه الناس، وحجْبَ العديد من مواقع داعمي القضيّة الفلسطينيّة في العالم.
هذا في المشهد العامّ خلال الفترة الماضية. أمّا إذا اردنا أن ندخلَ في مكتسبات الشعب الفلسطينيّ المباشرة، فكان أهمّها وحدة النضال ووحدة المصير والمسار. فحين تطلق المقاومةُ في غزّة الصواريخَ على مطار اللدّ وتل أبيب، ويخرج الناسُ في الناصرة وحيفا والقدس هاتفين لغزّة ومقاومتها، منادين بإسقاط نهج أوسلو، ورافعين لافتاتٍ تقول "لا انتخابات دون اللد"؛ فذلك يثبت أنّ عشراتِ السنوات من الأسرلة وتفريقِ الشعب الفلسطيني قد فشلتْ... في لحظات.
***
وسط هذه الحالة الشعبيّة الجارفة على امتداد الوطن، بدا العدوُّ مرتبكًا حائرًا، لا يعرف من أين يبدأ ولا كيف ينتهي. ذلك لأنّ انتفاضةَ أهلنا داخل فلسطين المحتلّة عام 48، ووقوفَهم في خطّ الدفاع الأوّل عن أهلنا في الشيخ جرّاح وعن المسجد الأقصى، واندفاعَهم في الساحات والشوارع يغنّون "موطني موطني،" وقمْعَ شرطة العدوّ والشاباك والجيش الصهيونيّ لهم؛ كلّ ذلك أعاد القضيّةَ الفلسطينيّة إلى المربّع الأول. كما أنّه كشف زيفَ ادّعاءات العدوّ أمام الرأي العامّ العالميّ أنّ دولتَه "ديمقراطيّة،" وأنّ الفلسطينيّين يعيشون فيها بـ"حقوق متساوية" مع اليهود، وأنّهم نسوا فلسطينيَّتَهم وعروبتَهم. ووجد الكيانُ نفسَه أمام شبابٍ واعٍ مثقّف، لا علاقةَ له بالأحزاب العربيّة المدجَّنة، ولا سيطرةَ لها عليه، ولا همَّ له إلّا الحرّيّة والتحرير.
وعلى المقلب الآخر، لعب التكتيكُ العسكريّ الصائب والقوّة العسكريّة المتنامية للمقاومة الفلسطينيّة دورًا كبيرًا في إرباك الحكومة الصهيونيّة والسياسيّين الصهاينة. وأتى امتلاكُ المقاومة لصواريخَ دقيقةٍ بعيدةِ المدى، يصل أحدُها (صاروخ عيّاش 250) إلى مسافة 250 كيلومترًا، ليشكّل القشّةَ التي قصمتْ ظهرَ البعير في هذه المعركة: فأُغلقت المطارات، وتوقّفتْ رحلاتُ الطيران العالميّة، وفَرضت المقاومةُ منعًا للتجوّل عندما تريد وأينما تريد وكيفما تشاء.
أمّا الخاسرُ الآخر في هذه المعركة، فكان من دون شكّ سلطة دايتون، ممثَّلةً برأس هرمها محمود عبّاس، الذي أُسقط في يده، فخرج علينا بخطابٍ ضاعت كلماتُه أمام أصوات الصواريخ والقنابل، واختفى صداه أمام أصوات حناجر الجماهير الفلسطينيّة الغاضبة في رام الله ونابلس والخليل وحيفا ويافا والشتات. فلم يملك سوى سحبِ قوّاته الأمنيّة من أمام الزحف الجماهيريّ الهادر والاختباءِ في مقاطعته، من دون أن ينبسَ ببنت شفة.
وانعكس هذا المشهدُ على خطاب فصائل المقاومة، الذي اختفى منه شعارُ "حلّ الدولتيْن" ليحلَّ خطابُ الكفاح والتحرير الشامل. وهو ما يحمِّل هذه الفصائلَ في المرحلة القادمة مسؤوليّةً كبيرةً تجاه أهلنا في فلسطين المحتلّة عام 48، على طريق تهميش سلطة أوسلو، وذلك بسحب شرعيّتها الرسمية، واستعادةِ منظّمة التحرير من مختطِفيها وإعادتِها إلى دورها الكفاحيّ الحقيقيّ. وأوّلُ خطوةٍ في هذا المسار هي إعادةُ الاعتبار إلى الميثاق الوطنيّ الفلسطينيّ "الأصليّ" الصادر سنة 1968، أي إلغاء التعديلات التي جرت عليه "إرضاءً" للرئيس الأميركيّ بيل كلينتون سنة 1996؛ ومن ثمّ استثمارُ الانتصار والدعم الشعبيّ العربيّ والتحوّل في الرأي العام العالميّ بما يفيد تحقيقَ العودة والتحرير.
وأتى الإضرابُ الشعبيُّ العارم الأخير، الذي لم يَسَعِ السلطةَ في فلسطين المحتلّة عام 67 أو لجنةَ المتابعة في فلسطين المحتلّة عام 48 إلّا أن تؤيّداه، لكي يؤكّد أنّنا أصحابُ الأرض، وأنّ هذا الشعب واحد وهو صاحبُ القرار على أرضه الواحدة.
***
أمام هذا المشهد لا بدّ للشعب الفلسطينيّ من طرح مقارباتٍ جديدة وحلولٍ جديدة وآلياتِ عملٍ مختلفة، مستندًا إلى الطاقات الكامنة التي انفجرتْ في كلّ مكان، وذلك من خلال تنظيمها من أجل بناء حركة شعبيّة فاعلة متكاملة تمتدّ على أرض فلسطين. ومن شأن هذه الحركة أن تكسرَ الحدودَ الوهميّة، وأن تتلقّى دعمًا من الجماهير العربيّة وأحرار العالم إذا أحسنتْ نسجَ العلاقات مع المستوى الشعبيّ، ممثّلًا بالاتحادات والنقابات والجامعات والحركات التقدميّة في العالم -- وجميعُها قادر، بطرقٍ مختلفة، على أن يضغطَ على الحكومات لكي تغيّرَ أسلوبَ تعاملها مع القضيّة الفلسطينيّة، بعيدًا عن رُهاب "معاداة الساميّة" الذي تُشْهره الصهيونيّةُ العالميّة - مدعومةً من الإمبرياليّة - لكي تقمعَ أيَّ صوتٍ داعمٍ لفلسطين.
لا شكّ في أنّ تحرير فلسطين لن يتمَّ في المعركة الحاليّة؛ ذلك لأنّ هزيمة هذا الكيان تعني هزيمةً للإمبرياليّة العالمية التي يشكّل رأسَ الحربة في مشروعها التفتيتيّ في المنطقة – وهو ما يحتاج إلى ميزان قوًى أكبر وأوسع. لكنّنا نجزم أنّ لهذه الأيّام ما بعدها، وأنّ هذا الشعبَ الفلسطينيّ - ومن خلفه مقاومتُه والشعبُ العربيّ وأحرارُ العالم - يعيش مرحلةً نضاليّةً جديدة، له فيها اليدُ العليا على هذا الكيان المسخ. وكلُّنا ثقة بأنّ هذه الجماهير، التي صدحتْ أصواتُها وارتفعت سواعدُها، لن تهدأ أو تكلّ إلّا بعد تحرير فلسطين وكنسِ هذا الكيان وأذنابِه من المنطقة والعالم.
دمشق