تؤكّد رسالةٌ مشتركة، صادرةٌ عن وكالات الأمم المتحدة في 5/10/2019 (وقّعتها المديرةُ العامّة لليونسكو، والمديرُ العامّ لمنظّمة العمل الدوليّة، والمديرةُ التنفيذيّة لليونيسف، ومديرُ برنامج الأمم المتحدة الإنمائيّ، والأمينُ العامّ للاتحاد الدوليّ للمعلّمين)، ضرورةَ "اتخاذ إجراءاتٍ عاجلةٍ الآن" بخصوص المخاوف التي تُبرزها بياناتُ معهد اليونسكو للإحصاء التي تفيد بأنّ العالم "سيحتاج إلى زهاء 69 مليون معلّم جديد لتلبية متطلّبات التعليم حتى عام 2030."
وجزمت الرسالةُ بأنّ ملايينَ الناس لن يتمكّنوا من التمتّع بحقّهم في التعليم الجيّد من دون وجود "جيلٍ جديدٍ من المعلّمين المتحمِّسين." وأشارت إلى الصعوبات في اجتذاب الموهوبين إلى مهنة التدريس "عندما تكون أجورُ المعلّمين متدنّيةً، وعندما لا يُقدَّرُ المعلِّمون حقَّ قدْرهم." ويوضح المسؤولون الأمميّون المعنيّون بالعمل والتعليم والتنمية أنّ تناقصَ المعلّمين في جميع أرجاء العالم يَحدث "بسبب عدم الاستقرار الوظيفيّ وقلّةِ الفرص المتاحة لمواصلة تنمية القدرات المهنيّة."[1]
يُستنتج من هذه الرسالة أنّ المجتمعَ التعليميّ في العالم عمومًا يعاني تراجُعَ الطلب على مهنة التعليم، وخصوصًا من قِبل الموهوبين والمتحمّسين.
لا يختلف الوضعُ في لبنان عن العالم. بل إنّ مهنةَ التعليم لم تعد من المِهن المرغوبةِ من الجيل الجديد بعامّةٍ، ومن الذكور بخاصّة. وهذا الأمر يدفعُنا إلى التساؤل عن الظروف التي يعيشها المعلِّمُ في لبنان اليوم؟ وعن أسباب ابتعاد النخب العلميّة عن التعليم؟
ظروفُ المعلِّم اليوم
يتطلّب الدخولُ إلى وظيفة أستاذ في التعليم الأساسيّ الرسميّ اللبنانيّ، بكلّ مراحله، الحصولَ على الشهادة الجامعيّة. بعدها يخضع المرءُ إلى امتحانات "مجلس الخدمة المدنيّة،" أو إلى الوساطة (الزبائنيّة) كبطاقة مرورٍ إلى التعاقد الوظيفيّ المستمرّ في الدولة اللبنانيّة. والشعار شبهُ الوحيد لجيوش المتعاقدين في لبنان هو: أوّلُ الطريق إلى الثبات الوظيفيّ يبدأ في الدولة اللبنانيّة (بالعربي المشبرح: "حطّ إجره بالدولة").
والأمر مختلفٌ بين الحالتيْن على الصعيد المادّيّ: فمعلِّمُ المَلاك في الدولة له معاشٌ ثابتٌ شهريّ، وضمانٌ صحّيٌّ عبر تعاونيّة الدولة؛ في حين أنّ المعلّم المتعاقد يقبض فقط بدل الساعات الفعليّة، ولا يحظى بأيّ ضمانات. وفي الحالتيْن لم يعد الراتبُ اليوم، بعد الأزمة الاقتصاديّة التي تعصف بالبلاد، راتبًا مغريًا للعمل. فراتبُ الأستاذ في المَلاك الثانويّ قبل الانهيار الاقتصاديّ الحاليّ كان يساوي ما معدّلُه ثلاثة ملايين ليرة أو 2000 دولار، لكنّه اليوم يساوي 240 دولارًا (إذا احتسبنا الدولار 12500 ليرة لبنانيّة). وأمّا المتعاقد فمصيبتُه أكبرُ بكثير: فلا مدخولَ ثابتًا له، ولا أيّ نوع من الضمانات. وما نسمعُه اليوم من اعتراضاتٍ وتساؤلاتٍ عن ساعات التعاقد، أو ما نشهدُه من إضراباتٍ ومن تمديد العام وشدِّ الحبالِ بين جميع الأطراف المعنيّة بالعمليّة التربويّة، نتيجةٌ طبيعيّةٌ لتدنّي البدل المادّيّ لأساتذة المَلاك والتعاقد.
أمّا في التعليم الخاصّ، فالأزمات الاقتصاديّة أو الصحّيّة التي عصفتْ بلبنان قد انعكستْ سلبًا على هذا القطاع أيضًا. فالكثير من المعلِّمين صُرفوا من الخدمة بعدما تراجعتْ أعدادُ التلاميذ في المدارس الخاصّة، والباقون يعانون بمعظمهم معاشاتٍ متقطّعةً بانتظار انتهاء الازمة، أو يحصلون على معاشٍ كاملٍ فعلًا لكنّه لم يعد يكفي ولو لسدِّ القوت.
كما تراجعتْ هيبةُ المعلّم الاجتماعيّة رويدًا رويدًا، سواءٌ في التعليم الرسميّ أو الخاصّ. وبعد أن كانت مهنةُ التعليم سيّدةَ المهن وأقواها اجتماعيًّا، أضحت في المراتب الأخيرة و"عند القَطْعة" كما يقول المثل، وباتت آخرَ المِهَن المختارة، وبخاصةٍ لدى الذكور كما ذكرنا. وهكذا بتنا نتحوّل شيئًا فشيئًا نحو تأنيث التعليم.
وبعد أن كان شعارُ الأهل "اللحمات إلكْ والعظمات النا،" وهو الدليلُ الأبرزُ على ثقتهم بالمعلِّم وأحقّيتِه في تربية أولادهم، أصبح الأهلُ اليوم أوّلَ الناقمين على الأساتذة وعلى الإدارات المدرسيّة والروابط وكافّة المعنيّين بعمليّة التعليم.
كما أنّ عمليّةَ التعلّم عن بُعد أَدخلتْ جميعَ الأطراف في تقويم أداء الاستاذ وآليّةِ عمله. وفي حين كان الأهلُ في الماضي يَحلمون بتعليم أولادهم تعويضًا من حلمهم الضائع بالتعليم، بل كانوا ينظرون إلى الأستاذ وكأنّه مالِكُ العلم والمعرفة، تغيّرت الأحوالُ اليوم، فبات كثيرٌ من الأهل يملكون الشهادات ويتابعون دراسةَ أولادهم ويُخضعون المعلوماتِ التي يأخذها الأولادُ من المدرسة أو الأستاذ لغربالهم العلميّ. هكذا اتّسعت شريحةُ "مالكي المعرفة" و"مُراقبي المعرفة،" فشملت الكثيرَ من الأهالي.
الكثير من الأساتذة يعلِّم في أكثر من مدرسة (رسميّة وخاصّة)، منذ ما قبل أزمة الكورونا، وقبل ارتفاع سعرِ الدولار، وقبل كلِّ الأزمات الأخرى، من أجل الحفاظ على مستوًى مادّيّ ومعنويّ مقبول. اليوم، يَعْلم معظمُ الأساتذة مدى الخسارة التي لحقتْ بهم، وأنّهم لا ينالون أبسطَ مقوِّمات الحياة، وأنّهم انتقلوا من فئة الشريحة الوسطى إلى فئة شريحة الفقراء. وإذا كانت ضوابطُ الكورونا تمنعهم اليومَ من رفع الصوت والتحرّكِ اعتراضًا على أوضاعهم، فإنّ التدخّلات السياسيّة زادت الطينَ بلّةً: فشرذمتْهم، وأضعفتْهم، ويبدو أنّهم لم يعودوا قادرين على رفع الصوت عاليًا. وحشودُهم الغاضبة التي كانت تملأ الساحات، وكانت يومًا مثالًا مميَّزًا للعمل النقابيّ، أضحت استعادتُها إلى هذه الساحات حلمًا بعيدَ المنال.
ظاهرة هروب الأدمغة
كلُّ هذا وأكثر يَدفع بالأساتذة، شأنهم شأن غالبيّة اللبنانيّين، إلى التفكير بالهجرة، خصوصًا أنّ الهجرة ليست بظاهرةٍ مستجدّةٍ على المجتمع اللبنانيّ، بل ثقافةٌ متجذّرةٌ بدأتْ منذ مئات السنين، ويكاد لا يخلو بيتٌ في لبنان من مُهاجِر.
وإذا كانت الإحصاءاتُ الحديثةُ لم تَلْحظْ حتى اليوم عددَ الأساتذة الذين غادروا لبنانَ، أو في طريقهم إلى المغادرة، فإنّ هجرةَ الأدمغة، من أطبّاء ومهندسين وأصحابِ مهارات، بحثًا عن وطنٍ بديل، لا زالت تتّسع. فلبنان يُصنَّف في المرتبة الـ113 بين 144 دولة في العالم نسبةً إلى ظاهرة هجرة الأدمغة، مع ارتفاع نِسَب المهاجرين في صفوف الجامعيين (44%)، ما يعني خسارةَ لبنان لأهمّ الموارد والمهارات البشريّة.[2] وهذه الموارد هي التي يُعوَّل عليها في مختلف الاختصاصات والمهن، ولاسيّما التعليم.
وتقدِّر "الدوليّة للمعلومات" أن يصلَ عددُ اللبنانيّين الذين غادروا البلادَ من دون عودةٍ في العام 2019 إلى 61.924 مقارنةً بـ41.766 في العام السابق، أيْ بزيادة نسبة 42 في المائة. وعلى محرِّك غوغل، بلغ معدِّلُ البحث عن كلمة "هجرة" في لبنان بين شهريْ نوفمبر وديسمبر 2020 حدَّه الأقصى خلال خمس سنوات.[3] والخير لقدّام.
النخب العلميّة والتعليم
هل بعد ذلك نتساءل عن مشكلة الهروب من مهنة التعليم في لبنان؟
هي مشكلةٌ لبنانيّةٌ بالتأكيد، وترتبط بالأسباب الواردِ ذكرُها سابقًا. غير أنّها مشكلةٌ عالميّةً أيضًا، تتعلّق بالتطوّر العلميّ، والانفجار المعرفيّ، والتغيّرِ في آليّة عمل الأستاذ: من مالكٍ للمعرفة إلى ميسِّرٍ لها، ومن صاحب سلطةٍ كاملةٍ متكاملةٍ تنطلق منه باتجاه المتعلّم إلى علاقة الندِّ للندّ.
إلّا أنّ هذا الواقع لم يُطلقْ صفّارةَ الإنذار السريعة لأنّ ثقافة التعليم كانت تتغيّر قليلًا قليلًا. غير أنّ اجتياحَ كورونا شكّل الضربةَ القاضيةَ التي غيّرتْ معالمَ عمليّة التعليم، وأجبرت المجتمعَ التعليميَّ بكامله، وفي أغلب أصقاعِ العالم، على الانتقال من قاعات المدارس إلى الفضاء السيبرانيّ، ودفعتْ كلَّ جامعات العالم والمؤسّساتِ المعنيّة بالتربية إلى إعادة النظر في تلك العمليّة برمّتها.
في لبنان، ومع أنّ الكورونا أربكتْنا وأرخت بظلالها الكئيبة على المجتمع التعليميّ، فإنّنا نختزن - إضافةً إلى كلِّ ما سبق من أسبابٍ عالميّةٍ لتراجُع التعليم - أسبابًا وأبعادًا أخرى غيرَ اقتصاديّة. فمجتمعُنا، عمومًا، يعشق الهيبةَ الاجتماعيّة (البريستيج). وحبُّ الظهور أو التشاوف "ثقافةٌ" تكاد تكون متجذّرةً لدينا. والاثنان، عشقُ الهيبة وحبُّ الظهور، يحتاجان إلى المال. ومالُ المعلِّم أصبح قروشًا لا تُسمن ولا تُغْني من جوع. فهل نتساءل، بعد ذلك كلّه، عن أسباب ابتعاد النخب العلميّة عن التعليم؟
واذا ذهبنا إلى ملفّ التعليم الجامعيّ، الذي ما زال هدفَ الكثيرين من حَمَلة الدكتوراه، فسنرى أنّه محطُّ الزبائنيّة والسطوةِ السياسيّة، وإنْ من أجل التعاقد الجامعيّ لا التفرّغ. التعليم - كقيمة - يتراجع في التعليم الأساسيّ، فلماذا يتقدّم في التعليم الجامعيّ؟
أخيرًا، إذا كان التعليمُ ممرًّا رئيسًا لتقدّم الأمم، نبدأه في الطفولة ونراكمُه خلال سنوات التعليم المتوسّط والثانويّ ومن ثمّ الجامعيّ، ونحصد نتائجَه لاحقًا؛ وإذا كانت مهنةُ التعليم غيرَ مرغوبة، والمعلِّمُ مهدورَ الحقوق والهيبة والقيمة الاجتماعيّة، وهو ما ينعكس سلبًا على أدائه وعطائه؛ إذا كان ذلك كذلك، فإنّنا بلا شكّ نسير - وبسرعة ٍقصوى - في الاتجاه المعاكس للتقدّم.
طرابلس
الرسم الرئيس في المقال للطالبة بيرلا دياب.
[2]علي فاعور، "موجات مقبلة من الهجرة: لبنان في خطر وجوديّ،" جريدة الأخبار، 21 أيلول 2020.