حائز جدارةً في علم النفس الاجتماعيّ. مدرّس منذ 28 عامًا. نائب مدير مدرسة سيّدة النعم في لبنان. مدرّس مادّة علم الاجتماع.
" بدّي علّم حتى صير روح وإجي مع ولادي على المدرسة. وهيك بعطّل معهن."
" آخر شي بس تخلّصي جامعة، بتفتّشي ع شي مدرسة قريبة وبتشتغلي فيها. عندك ثلاثة أشهر عطلة بالصيف."
هاتان العبارتان كثيرًا ما نسمعُهما من شريحةٍ بشريّةٍ ترسم خططًا لمستقبلها، وقليلًا ما نجد مَن يعترضُ عليها. وكأنّ التعليمَ أضحى مهنةَ مَن لا مهنةَ له.
حزينةٌ هذه البداية، وكأنّه تنقصنا جرعاتٌ إضافيّةٌ من الإحباط. ولكنّها الحقيقة. ونظرةٌ سريعةٌ إلى أعداد الخرّيجين الجامعيّين ونوعيّتِهم، منذ عشر سنوات، تؤكّد لنا أنّنا أمام كارثةٍ تجتاحنا رويدًا رويدًا.
من أين نبدأ؟
لنبدأ من نتائج اختبارات TIMSS العالميّة في العام 2019. فقد شارك فيها لبنان، فحلّ في أسفل لائحة الدول المشاركة من بين 39 دولة، وفي آخر لائحة الدول العربيّة المشاركة. هذه النتائج شكّلتْ صفعةً في وجهِ كلِّ مَن يتعاطى الشأنَ التربويّ، لكنّها لم تُذْكرْ في بيانات السياسيّين اللبنانيّين وخططهم، علمًا أنّنا حصدنا أيضًا مرتبةً متأخّرة في نتائج اختبار PISA سنة 2018 في الرياضيّات والعلوم والقراءة، إذ حلّ لبنان في المرتبة 73 من أصل 78 دولة مشاركة!
هنا لا بدّ للمرء من أن يفترض أنّ هذه النتائج المخزية هي حصيلةُ نظامٍ تربويّ يعكس الواقعَ السياسيَّ والاجتماعيَّ المهترئ منذ ما يزيد على نصف قرن. وفي جولةٍ سريعةٍ على تاريخ المناهج التربويّة في لبنان، نجد أنّ أوّلَ تعديلٍ لها حصل بعد الاستقلال، سنة 1946؛ ليحصل التعديلُ الثاني سنة 1968؛ بينما ترافق آخرُ تعديلٍ مع التغييرات السياسيّة بعيْد انتهاء الحرب الأهليّة واتفاقِ الطائف. وهذه التعديلات، بحسب المستشارة التربويّة لدى البنك الدوليّ، نادين الفرنجي، مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالأحداث السياسيّة.[1] أيْ إنّنا، بعد أكثر من ثلاثين عامًا، وعلى الرغم من كلّ التغييرات العالميّة والإقليميّة، بما في ذلك سقوطُ دولٍ وأنظمةٍ و صعودُ أخرى، لم نلحظْ حدوثَ أيّ تعديلٍ تربويّ يشير إلى هذه التغييرات، سياسيّةً كانت أو علميّة. وبات الطلّابُ عندنا أسرى نظامٍ معلَّب، يزيد من انغلاقه معلّمون خضعوا للظروف التعليميّة نفسِها. وبات هذا المثلّث (المتعلّم-المعلِّم-الأهل) يُنتج نسخًا متشابهةً عقدًا تلو الآخر. لتأتي جائحةُ العصر كورونا فتُظْهرعوراتِ نظامنا وفسادَه بالكامل.
أمام هذه المستجدّات باتت التربية، كغيرها من القطاعات، عرضةً للانهيار. ولئن كانت هذه هي حالَ دولٍ أخرى، لا لبنان وحده، فإنّ الأوضاع عندنا أكثرُ سوءًا بسبب غياب أيّ خطّةٍ استراتيجيّةٍ لوزارة التربية والتعليم العالي، أو للمركز التربويّ للبحوث والإنماء نفسِه. ولذلك أضحت الحلولُ ارتجاليّةً واستنسابيّة، تطبِّقها كلُّ مؤسّسةٍ تربويّةٍ بحسبِ ما ترتئي. ويظهر التباينُ واضحًا بين المدارس الرسميّة والمؤسّساتِ التربويّة الخاصّة. وفرضتْ كارثةُ الوباء على الجميع اعتمادَ أسلوب التعلّم عن بُعد، الذي كشف هشاشةَ العلاقة بين أطراف المثلّث نفسه، وبينهم وبين القيّمين على التربية في لبنان.
اعتادت الأجيالُ الفتيّةُ استعمالَ التقنيّات الحديثة (هواتف ذكيّة، ألواح، تطبيقات،...) بسهولةٍ مطلقة. بل تفوّق بعضُهم على الأساتذة والأهل في هذا المجال. فصرنا نشهد أنواعًا جديدةً من التنمّر، يمارسه الطلّابُ حينًا بعضُهم على بعض، وأحيانًا على أساتذتهم. وفي المقابل يشهد قطاعٌ واسعٌ من تلامذة لبنان صعوبةً في الحصول على تلك الأدوات، لمتابعة التعلّم عن بعد، ولا تبذل وزارةُ التربية أيَّ جهدٍ لدعمهم ومساعدتهم.
هذا على صعيد الطلّاب.
أمّا على صعيد الأساتذة، فعلى الرغم من خضوعهم لدوراتٍ تدريبيّة على استخدام هذه التقنيّات، أو التعرّف إلى المنصّات التي سيستخدمونها للتعليم، فقد بقي القسمُ الأكبرُ منهم عاجزًا عن سبر أغوار هذا العالم الجديد والمتشعّب، الذي حلّت فيه لوحةُ المفاتيح مكانَ القلم، والشاشةُ مكانَ الورقة والكتاب. بل تكشّف أمامه واقعٌ صادم: عدمُ ملاءمة المحتوى التربويّ، بمادّته التلقينيّة وأساليبها الخشبيّة، مع هذا العالم الجديد، الذي يتطلّب منه تعديلَ تقنياته التعليميّة لتغطية الكفايات والمهارات المطلوبة منه لكلّ مرحلةٍ دراسيّة. فقد أُدخلت الشرائحُ المصوّرة (P.P) والأفلام، وكانت مغيّبةً كلّيًّا عن مناهجنا التعليميّة. وبات تحضيرُ حصّةٍ تعليميّةٍ واحدةٍ يتطلّب جهدًا كبيرًا. هذا ناهيكم بضرورة إلمام الأساتذة باستخدام الإنترنت وعمليّات التنزيل والترفيع (downloading and uploading). وبذلك بقي مدرِّسو موادّ الاجتماعيّات والفلسفة، مثلًا، يصارعون من أجل إخراج محتوًى مشوِّقٍ لتلامذتهم. وكلّ هذا يجري بجهدٍ فرديّ، من دون أيّ خطّةٍ وطنيّةٍ شاملةٍ جامعة، اللهمّ إلّا محاولة المركز التربويّ خلقَ منصّةٍ موحّدة. وهذه أتت متأخّرة!
أمّا على صعيد الأهل، فقد أُدْخِلوا، مرغمين، على العمليّة التربويّة، من باب التعرّف إلى التقنيّات الحديثة، أو من خلال المنصّات المستخدمة، ليمارسوا دورَ المراقبين. بل تعدّى دورُهم ذلك أحيانًا، ليتدخّلوا في طريقة التعليم، أو لمساعدة أولادِهم على الإجابة. ناهيكم بأنّ بعضَهم استباح أوقاتَ المعلِّمين من خلال الاتصال بهم هاتفيًّا متى أرادوا.
تعدّلتْ أدوارُ اطراف هذا المثلّث. غير أنّ التغييرَ الأكبر طرأ على دور المدرِّس، إذ إنّ دخولَه اليوميّ إلى منازل التلامذة من خلال شاشة الحاسوب أو الهاتف الذكيّ قد كشفه أمام الجميع، بعد أن كان التدريسُ محصورًا في غرف مقفلة بين طرفيْن أساسيّيْن (الأستاذ والطالب).
كما أصبح في الإمكان إعادةُ الصفوف مرّاتٍ عدّةً من خلال المنصّات التي تُسجَّل عبرها هذه الصفوف. وقد تكون هذه إحدى حسنات التعلّم عن بعد، لكنّها يجب أن تكون في سياق علميّ متكامل يطاول العمليّةَ التربويّة بأكملها، فيحدّثها، إنْ على صعيد التقويم أو المحتوى، إضافةً إلى تدريب المدرّسين.
وهذا ما ينقلنا إلى التساؤلات الآتية: هل بإمكان هذه الأزمة أن تخلق تعديلًا جوهريًّا في أساليبنا التعليميّة ومناهجنا، وعلى الأخصّ بعد تراجع سمعة النظام التعليميّ اللبنانيّ، وتراجُع مرتبتنا في الاختبارات العالميّة؟ وكيف؟ ومَن المسؤول؟
***
عند اعتماد التعلّم عن بُعد منتصفَ العام الدراسيّ الماضي 2019-2020، ظهر التخبّطُ والبلبلة. فالحلول التي اعتُمِدتْ كانت ارتجاليّة، لم يُستحدثْ لها أيُّ سندٍ علميّ أو تقنيّ؛ فنحن لا نملك الخبرةَ اللازمة، ومناهجُنا التعليميّة غيرُ مؤهَّلة لاستيعاب التكنولوجيا.
سارعتْ وزارةُ التربية، بالتعاون مع المركز التربويّ، إلى استخدام منصّة مايكروسوفت تيمز، ودعت المدارسَ إلى الاشتراك فيها، طلّابًا وأساتذةً، من أجل الاستفادة من الموادّ التي أُعدّت على عجل. لكنّ معظمَ المدارس الخاصّة كانت قد سبقتْ هذه المبادرةَ بأشواط، واستَخدمتْ تقنيّاتِها ومنصّاتِها التي أعدّتْها لهذه الغاية.
وها نحن اليوم، بعد انقضاء عامٍ دراسيٍّ كامل، وفي منتصف عامٍ دراسيٍّ آخر، إزاء عمليّة تعلّمٍ ارتجاليّة، ونتائجُها غيرُ معروفة (أدّعي أنّنا سنعاني، لسنوات عديدة، نتيجةَ هذا الواقع)، وأساليبُ التقويم غيرُ علميّة. ومازلنا نحاول إدخالَ تقنيّاتٍ حديثةٍ على نظامٍ وموادَّ تعليميّةٍ عمودُها الفقريُّ هو التلقينُ والتذكّر.
تسعى المجتمعات، بصورةٍ دائمة، إلى تطوير مناهجها التربويّة، وإلى تجربةِ أساليبَ تعليميّةٍ تخاطب الواقعَ الاجتماعيّ والعلميّ. بعد إلغاء عمل دُور المعلّمين في لبنان، كان رهانُنا على ما استُحدث بديلًا، وهو كلّيّةُ التربية في الجامعة اللبنانيّة، التي تعمل على تخريج مدرِّسين مؤهَّلين في جميع المراحل ولجميع الموادّ التعليميّة، وفيها لا يتعرّف الطالبُ إلى محتوى مادّةِ تخصّصِه فحسب، بل كذلك إلى نظريّات علم النفس الحديثة في التعاطي مع التلامذة، وعلى أحدث نظريّات التعلّم الحديثة أيضًا.
لكنّ ما نشهده منذ سنوات، بعد تخريج أعداد كبيرة من المدرّسين حاملي درجة "الكفاءة في التعليم،" إنّما هو نُسَخٌ جديدةٌ من نظامٍ تعليميٍّ تلقينيٍّ قديم، لا يحفّز عقلَ الطالب على التفكير النقديّ أو الحشْريّة العلميّة. فالنظامُ التعليميّ المعتمَد في مرحلة التعليم الأساسيّ، والذهنيّةُ التي اقترحتْه أو نسختْه عن نماذجَ أجنبيّة ـ فرنسيّةٍ تحديدًا- ينطبقان على التعليم الجامعيّ؛ فالأستاذ الجامعيّ هو ابنُ هذا النظام: يعيد إنتاجَ نفسه من خلال الخرّيجين.
مع كلّ المحاولات الحثيثة للمركز التربويّ منذ سنوات، وعلى الرغم من الدعم الماليّ-الأمميّ- لتطوير مناهجنا التربويّة، فإنّنا مازلنا في طور التنظير والمؤتمرات والأوراق البحثيّة. فهل هناك مَن يَمنع هذا التغييرَ، كمنعه إدخالَ أيّ تغييرٍ على مختلف بُنى المجتمع اللبنانيّ؟
***
لم تشكّل جائحةُ كورونا أيّ حافز حتى الساعة لإعادة النظر في المناهج التربويّة في لبنان وتطويرِها.
يشير خبيرُ تطوير المناهج في المركز التربويّ، د. ميلاد السبعلي،[2] إلى أنّ تطويرَ المنهج على المستوى الوطنيّ مسارٌ مستمرٌّ للوصول إلى نموذج وطنيّ رائد للمنظومة التربويّة، وهو مسارٌ طويلٌ من التطوير والتجريب والتعديلِ والتحسين. هذا النموذج يرتكز على الخصائص الوطنيّة والمعايير الدوليّة للنهوض بالتربية. ويؤكّد السبعلي أنّه أصبح لزامًا على أيّ منظومةٍ تربويّةٍ حديثة ان تزوّدَ أفرادَها بمهاراتٍ هي حاليًّا غائبةٌ كليًّا عن مناهجنا:
1 - التفكير النقديّ والإبداعيّ وحلّ المشكلات.
2 - القيادة والريادة والتواصل.
3 - مفاهيم معاصرة للمواطَنة والمعرفة الرقميّة، تؤهّل المتعلِّمَ للتأقلم مع التقنيّات الجديدة والذكاء الاصطناعيّ.
ومن دون هذه المهارات التي أصبحت مطلوبةً من كلّ العاملين الذين يسمَّوْن اليومَ "عمّال معرفة،" نكون أمام جيلٍ لا مكانَ له في سوق العمل.
كما تؤكّد الرئيسة السابقة للمركز التربويّ، د. ليلى فيّاض، أنّ بمقدور التكنولوجيا تزويدَ المتعلّمين بالمعرفة اللازمة، وبالاستعدادات والكفاءات والخبرات المطلوبة للعصر الرقميّ، ولكنْ شرط أن تُدمَجَ في المناهج الدراسيّة ضمن محتوًى تفاعليّ ونوعيّ.[3]
***
إذًا هي عمليّة مستدامة تتطلّب جهدًا كبيرًا، وقرارًا تربويًّا بعيدًا عن التدخّلات السياسيّة-الطائفيّة. فهل نحن جاهزون لهذه السيرورة، علمًا أنّنا اختلفنا على أهمّ المفاهيم التي يمكن أن تساهم في بناء جيل مستقبل متماسك، وأعني مفهوم "الوطن،" كما اختلفنا على تدوين تاريخنا الحديث منذ الاستقلال حتى الساعة؟!
لعلّ هذه الجائحة توقظ ما تبقّى فينا من إنسانيّة، رأفةً بأجيالٍ يُفترض أن نسهم في صياغة مستقبلها.
بيروت
[1] نادين الفرنجي، "العوامل المؤثّرة في مناهج التعليم العامّ في لبنان خلال قرن،" مجلة الآداب،
[2] د. ميلاد السبعلي، "كلمات هادئة حول الشأن التربوي في لبنان،" دراسة منشورة على صفحته على وسائل التواصل الاجتماعيّ.
[3] المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ندوة علميّة بعنوان: "وسائل الاتصال الرقميّة: التشريع والرقابة والتعليم في العالم العربيّ: نحو مناهج تفاعليّة للتربية في لبنان: بين الممكن والمحال."
حائز جدارةً في علم النفس الاجتماعيّ. مدرّس منذ 28 عامًا. نائب مدير مدرسة سيّدة النعم في لبنان. مدرّس مادّة علم الاجتماع.