ليلةَ الخميس، الثاني عشر من أيّار 2021، في اليوم الثالث على التوالي للعدوان الإسرائيليّ على قطاع غزّة، كنتُ أنا وشريكي والطفلتان في شقّتنا في إحدى العمارات المأهولة غربَ مدينة غزّة.
طُرق الباب. سمعتُ الطارقَ يقول إنّ المبنى الحكوميّ خلف العمارة سوف يُقصف بالكامل، وإنّ سكّان العمارات الملاصقة يلوذون بالفرار الآن، وعلينا إنزال نوافذ البيت كافّةً.
حملتُ الطفلتيْن معًا. لم أعرف أين نحتمي من الموت: الحُجرة المجاورة؟ الممرّ؟...
في النهاية لم نجدْ سوى المطبخ.
أخرجنا الطاولة. فرشنا الأرضَ للصغيرتيْن، وجلسنا نراقبُهما.
رحنا نستمع إلى إذاعةٍ محلّيّة، ونُمسك بهواتفنا المحمولة، بعد أن أنزلنا النوافذَ الزجاجيّة. كان الخوف يعتريني من احتمال سقوط صاروخ F16 قبل أن ننهي المهمّة.
بعد قليل سمعنا انفجارًا، ثمّ انهيارَ مبنى. خُيّل إلينا أنّهم فجّروا حقدَهم في الحجَر وانتهى الأمر. لكنْ تبيّن لاحقًا أنّ ما قصفوه هو المبنى القديم للمؤسّسة الحكوميّة ذاتِها، وهو قريبٌ نسبيًّا من البيت. وما زلنا نجهل إنْ كانت الطائرةُ ستعود كي تقصف المبنى الجديدَ خلفنا.
في النهاية، قرّرنا قضاءَ الليلة في المطبخ.
***
لم يقصفوا المبنى الجديد، لكنّ المنطقة لم تَسْلم.
طوال الليلة لم ننم. فقد تكثّفت الغاراتُ على المؤسّسات والمكاتب الحكوميّة، بما فيها البنوكُ ومراكزُ الشرطة ومكاتبُ الوزارت. وبدا ذلك جزءًا من خطّةٍ ممهنجةٍ لتدمير البنية التحتيّة، وإعادةِ القطاع المحاصَر سنواتٍ إلى الوراء -- وهو الذي لم ينتهِ بعدُ من إعادة إعمار الحياة التي هُدمتْ سنةَ 2014!
طوالَ الليلة التي كان يُفترض أن تكون ليلةَ عيد الفطر، كانت الطفلتان تستيقظان على صوت القصف وتسألان: "لماذا نحن في المطبخ؟" "ما هذا الصوت؟" وكانت تتلو ذلك تعليقاتٌ بريئةٌ من قبيل: "واو هذه نومة عائليّة جميلة!" ثم تكبر الأسئلة: "مَن الذي يضربنا بالصواريخ؟" "ماذا يريدون؟" "ولو سمحنا لهم بأن يأخذوا القدس، فهل سيتوقّفون؟" تنظر إحداهما إلى النافذة وتقول: "يا إسرائيل، خذي القدس وخلّصينا! بدنا ننام!"
في الليلة السابقة راسلتني صديقةٌ متخصّصةٌ في المجال النفسيّ والتربويّ والجنسانيّ لتطمئنَّ إلى أحوالنا. قلتُ لها إنّنا نقول للصغيرتيْن إنّها ألعابٌ ناريّة، وإنّ علينا الابتعادَ عن النوافذ. كنتُ أعلم أنّها قد لا تكون الطريقةَ الصحيحةَ لشرح الأمر لهما، لكنّهما صغيرتان جدًّا، لا تعرفان شيئًا عن الحروب والدماءِ والموت. كلُّ ما تعرفانه أنّنا من فلسطين، وأنّنا حين نذهب إلى السوبرماركت نتجنّب شراءَ المنتَجات الإسرائيليّة لأنّ إسرائيل سرقتْ زرنوقة، بلدتَنا الأصليّة.
بعد هذه المراسلة فهمتُ أنّ ما نفعلُه خطأ، وأنّ علينا إخبارَ الطفلتيْن الحقيقةَ - بما يتناسب مع سنّهما طبعًا - كي تكونا أقدرَ على تفسير الأمور وأقلَّ تأثّرًا بالصدمات النفسيّة في حال حدوث أيِّ مكروه. كما أنّ ذلك يزيد ثقتَهما بنا، ويضاعف شعورَهما بأريحيّة الحديث عن مخاوفنا المشتركة. لذلك بدأنا نحاول شرحَ ما يحدث: "إسرائيل تدكّ غزّةَ بالصواريخ كي تخيفَنا وتأخذَ القدسَ بالقوّة." وتابعنا: "قد نخاف من صوت الصواريخ، لكنْ لن نخافَ من إسرائيل…"
***
وتيرةُ التصعيد الإسرائيليّ تزداد، برًّا وبحرًا وجوًّا. الأمور تزداد سوءًا في الليل. الكهرباء شحيحة. الإنترنت غيرُ متوفّر دائمًا. حتى المياهُ المكرَّرة غيرُ صالحة للشرب. الطعام يَفْسد في الثلّاجة بلا كهرباء. المحالُّ التجاريّة مغلقة. حبسٌ في المنزل مع الطفلتيْن، ومع أسئلتهما، بعد سنةٍ كاملةٍ من العزل بسبب جائحة كورونا، في أكثر سنٍّ تتوقُ إلى الاكتشاف واللعبِ والانطلاق.
"إسرائيل" دكّت البيوتَ على رؤوس ساكنيها. حاولتْ في أوّل غارةٍ لها على القطاع أن تُرهبَ العائلات بقصف دار المصري على ساكنيها، فسقط ثلاثةُ شهداء من الأطفال، وعريسٌ عرسُه بعد يوميْن، وآخرون. لكنّ المقاومة مستمرّة، ولم تستسلمْ. فازداد العدوان. العائلات القاطنة على أطراف القطاع فرّت من منازلها، لا تحمل إلّا أوراقَها الثبوتيّةَ، في عالمٍ لا يراهم إلّا أرقامًا في أحسن الأحوال.
جرائمُ إبادةٍ جماعيّة. عائلاتٌ بأكملها مُسحتْ من السجلّ المدنيّ. المجازر تتوالى. قتلوا الصحفيّة الحبلى ريما سعد وطفلَها، ولا تزال طفلتُها مفقودةً تحت الأنقاض. قتلوا الطبيبيْن أيمن أبو العوف ومعين العالول. قصفوا دارَ أبو حطب في مخيّم الشاطئ. دارَ التلباني في تلّ الهوا. دارَ عيسى ودارَ نوفل في البريج. دارَ الرنتيسي في رفح. دارَ الطناني. دارَ المنسي.
مجزرة شارع الوحدة. دكٌّ جماعيٌّ لسلسلة بيوت. أغلبُ الشهداء من دار الكولك، ودار أبو العوف، ودار اشكنتنا، ودار العالول. مضت على المجزرة ليلتان حتى كتابةِ هذه السطور، ولا تزال هناك جثثٌ تعجز فرقُ الإنقاذ عن الوصول إليها تحت أنقاض المنازل. "إسرائيل" تدكّ الشوارعَ المؤدّيةَ إلى المستشفيات لتقطع الطرقَ على إنقاذ العائلات.
أنظرُ إلى صور بعض الأطفال الناجين إثر نجاح قوّات الدفاع المدنيّ في انتشالهم بعد مكوثهم ساعاتٍ بجوار أجساد ذويهم الشهداء. أقولُ لنفسي: آه لو شملتْهم رحمةُ الله وارتاحوا!
أنظرُ إلى الطفلتيْن: آه لو يمكنني ابتلاعُهما!
أبكي.
***
دمارٌ في كلّ مكان. رائحةُ بارود في كلّ مكان. قصفوا عيادةَ الرمال، والمختبرَ المركزيَّ الوحيدَ في القطاع لفحص الكورونا. قصفوا المكاتبَ الإعلاميّةَ المحلّيّة، ومكاتبَ الوكالات العالميّة. قصفوا برجَ هنادي. ثم رأينا من نافدة البيت برجَ الشروق وهو ينهار. ثم برجَ الجلاء. دمّروا شارعَ عمر المختار في منطقة الرمال، المكتظّة بالمحالّ التجاريّة التي اشترينا منها ملابسَ العيد ولم نلبسْها. قصفوا مكتبةَ سمير منصور، التي نبتاع منها الكتب. قصفوا استراحةَ المالديف، التي قضينا فيها بعضَ الأوقات الممتعة على البحر، وقد سمّاها أصحابُها كذلك سخريةً من الحصار. قصفوا مصنعَ البوظة. رابعُ أقوى جيش في العالم لا يريد لأطفال غزّة أن يتناولوا البوظةَ بعد الآن! قصفوا عمارةَ كحيل التي تتضمّن مؤسّساتٍ تدريبيّةً ومهنيّة. قصفوا عمارةَ مشارق، فسقط استوديو مشارق الذي سجّلنا فيه أغنياتِنا.
تتصل صديقةٌ مقيمةٌ في الولايات المتحدة لتطمئنّ إلى أحوالنا، لكنّنا نعود لنتّصلَ بها بعد ساعاتٍ كي نعزّيَها بأعمامها الرازحين تحت الركام في مجزرة شارع الوحدة. ثمّ تتصل صديقةٌ أخرى من لندن لتشدَّ على أيادينا، فتصرخ فجأةً عندما يأتيها خبرُ قصف بيت أخيها.
بدأتْ مصطلحاتٌ جديدةٌ تدخل لغةَ الصغيرتيْن: "قصف، صواريخ، هدم،..." تقول الكبرى: "لماذا تبكي صديقةُ بابا بعد قصف منزل أخيها؟ لو قصفتْ إسرائيل بيتَنا فلن أخافَ ولن أبكي. سنُصلح البيت، ونشتري ألعابًا جديدة." بعد برهةٍ تركض إلينا مذعورةً وباكيةً عقب استهدافٍ جوّيٍّ قريب: "أنا قويّة، لكنّ الصوت عالٍ!"
القصف قريب.
أزدادُ عذابًا.
***
لكنْ ما السحرُ الذي يدعم صمودَنا؟
ما التعويذةُ التي تحيط بعقولنا، فلا تدفعُها إلى الجنون بعد كلِّ ما جرى ويجري؟
لقد نجحنا، نحن البسطاء، في فكّ شيفرة هذا النظام الاستعماريّ الهمجيّ. لقد أوجعَنا الموتُ حتى وصلنا إلى لحظةٍ لا يمْكننا فيها الاستسلام!
تستهدف "إسرائيل" بيوتَنا لتدمِّر الحاضنةَ الشعبيّةَ للمقاومة، عبر استراتيجيّةٍ عُرفتْ بـ"عقيدة الضاحية،" استخدمتْها في حربها على لبنان صيفَ العام 2006: تقتل الأطفالَ والنساءَ الآمنين في بيوتهم كي يستسلمَ الناس، فتفقدَ المقاومةُ شعبيّتَها. لكنّ المجازر هذه المرّة جعلت الناسَ على قلب رجلٍ واحد؛ فلم يبقَ هناك ما نخسرُه.
هذه الحرب مختلفة عن سابقاتها. المقاومة لبّت نداءَ أهلِ القدس الذين نسيهم العالمُ، ومورستْ في حقّهم جريمةُ التطهير العرقيّ في الذكرى الثالثة والسبعين للنكبة. وهي لبّت نداءَ المسجد الأقصى، الذي دَنّست القوّاتُ الإسرائيليّةُ قدسيّتَه. ولبّت نداءَ باب العامود المغلق. وهذا كلُّه أضفى على المقاومة طابعًا تحرّريًّا وثوريًّا مختلفًا عن الطابع الدفاعيّ الذي شهدناه في مجازر الأعوام 2009 و2012 و2014.
ثم سقطتْ كذبةُ "التعايش" أمام أعين الفلسطينيّين الذين يعيشون في دولة الأبارتهايد والاستعمار الاستيطانيّ داخل فلسطين المحتلّة عام 48. لقد حاولت المشاريعُ السياسيّةُ طوال هذه السنوات أسرلةَ وعيهم، فثاروا في اللد وحيفا وعكّا. ثمّ انضمّ سكّانُ كانتونات الضفّة الغربيّة إلى ساحة الغضب.
الفلسطينيّون، من البحر إلى النهر، يتحدّوْن بصدورهم العارية آلةَ القتل والقمع والتهجير والعنصريّة الصهيونيّة. يساندهم آلافُ المتظاهرين من الأردنيّين واللبنانيّين على حدود فلسطين السليبة، ومئاتُ الآلاف في مختلف أنحاء العالم، في مشهدٍ أعاد القضيّةَ الفلسطينيّةَ إلى جذورها، متخطّيًا قادةَ الانقسام الفلسطينيّ، وقادةَ الأحزاب الفلسطينيّة التي توهّمتْ دورَها "الرياديَّ" في الداخلّ المحتلّ عام 48، ومتخطّيةً بالتأكيد الأنظمةَ العربيّة – المطبّعةَ أو العاجزة.
***
لم تعد ليلةُ النوم في المطبخ أقسى ليلاتنا. لم يعد تقديمُ التفسير للطفلتيْن أكبرَ همومنا. بدأنا نفهم أنّ في إمكان صمودنا أن يغيّرَ التاريخ، وأنّ الأطفالَ الذين بُعثتْ فيهم الحياةُ من تحت الركام قد كُتب لهم أن يكونوا شهودًا على مذبحة ذويهم كي يُخبروا العالمَ ما حدث من إجرامٍ صهيونيّ. فحتّى إنْ دكّت الطائراتُ الإسرائيليّةُ غزّةَ عن بكرة أبيها، فستنهض أصواتٌ من تحت الركام.
هذه الأصوات لا تمتلك الوقتَ كي تفسِّر لليمين الغربيّ المتطرِّف ولليبراليّة الغربيّة الزائفة أنّ المقاومة ليست إرهابًا، وأنّ الاستعمارَ هو الإرهابُ الحقيقيّ. هذه الأصوات قد لا تكون قرأتْ حرفًا لفرانتز فانون، أو باولو فيراري، أو إدوارد سعيد، أو غسّان كنفاني، لكنها بِنتُ التجربة، بِنتُ فلسطين السليبةِ التوّاقةِ إلى الحرّيّة.
الثلاثاء 18 أيّار
ولا زال العدوانُ مستمرًّا...
غزّة